اعتبارات في التعامل مع العبارات:
وهذه الاعتبارات مستفادة مِن كلام أهل العلم وأقوالهم حول الجدال في الألفاظ والدلالات والمعاني والمصطلحات، ولن أسهب في شرحها ونقل الأقوال عليها. وهي:
1- الأصل في العبارات النظر إلى معانيها ودلالاتها لا إلى ألفاظها الظاهرة فقط.
2- العبارات قد تحتمل عدَّة معاني بحسب الثقافات والسياقات التي تنشأ فيها أو تنتقل لها. 3- العبارات قابلة للأفهام المتعدِّدة والتأويلات المختلفة.
4- مِن العبارات ما يحكمها قصد القائل ومِنها ما يحكمها ألفاظها ونظمها واستخدامها.
5- العبارات المشاعة التي تعدَّدت تفسيراتها لا يلزم أحد فيها بتفسير دون آخر.
6- العبارات المحتملة للحقِّ والباطل، والصواب والخطأ، إذا شاعت لزم المغالبة فيها لا إهمالها بالمطلق.
7- عادة الناس التجديد في عباراتهم وتنوُّع عباراتهم.
8- العبارات المحدثة قد تكون حقَّة وقد تكون باطلة، وقد تكون صوابًا وقد تكون خطأ.
9- لا مشاحَّة في الاصطلاح، أو اللفظ، أو العبارة، أو التسمية.
10- العبارات التي لا أصل لها في الدين، إن كانت تمسُّ أمور الدين التي مدارها على التوقُّف يتوقَّف فيها، وينظر لمدى اتِّفاقها مع الشرع أو مخالفتها له، فإن كانت مِمَّا يعارض معاني الدين ومفاهيمه معارضة صريحة واضحة رفضت، وإن كانت لا تعارض الدين ومعانيه ومفاهيمه نظر إلى جدواها وفوائدها فإن كانت صالحة أخذ بها وإن كانت مضرَّة تركت.
11- الأصل في الأمور الدنيوية تجدُّد التعابير والمصطلحات فيها.
12- التعبير عن المعنى الواحد بألفاظ وعبارات متعدِّدة مِن كمال العقل وثراء اللغة.
13- التمييز بين المعاني المختلفة بعبارات مختلفة مِن تمام التصوُّر ودقَّة الفهم وسعة اللغة.
عبارات ومفاهيم سياسية لا تتعارض مع الإسلام:
ليس تميُّز الإسلام في أنَّه يعارض كلَّ ما عند البشر ويبطله، بل تميُّزه في أنَّه يجمع كلَّ الحقِّ الذي تفرَّق عندهم، وكلَّ الصواب الذي اختلفوا عليه، ويضع المعايير والموازين الشرعية والعقلية واللغوية والعرفية للحكم والفصل، كلٌّ في مجاله واختصاصه. وهذا يشمل العقائد والأخبار والشرائع والقيم والأخلاق والآداب. ومِن ثمَّ فما نطرحه هنا مِن عبارات ومصطلحات حديثة في عالم السياسة اليوم لدى المجتمعات الإنسانية سنطرحه مِن حيث ما يمكن أن يحتمله مِن حقٍّ وصواب ومنطق عقلي وخبرة صحيحة.
– النظام السياسي.
– الدستور.
– القانون.
– النظام الجمهوري:
اعتبار رأي الناس مقدَّر في الشرع، خصوصًا فيما يمسُّ شئونهم ومصالحهم الموكولة لهم. إذ الشرع ينظر لهم باعتبارهم عقلاء مكلَّفون لهم الاختيار، وبموجب الاختيار تكون عليهم المسئولية. وإهدار آراء النَّاس، ومنعهم مِن الوصول لإراداتهم، والتعبير عن خياراتهم، إنَّما هو نهج الملوك المستبدِّين أو الغلاة المتنطِّعين. وإذا كان الله تعالى ترك الدخول في هذا الدين ابتداءً لقرار الناس واختيارهم، لم يأمر بإكراههم عليه، وهو الذي فيه نجاتهم في الآخرة؛ فكيف بشئونهم الدنيوية التي حمَّلهم مسئوليَّتها؟!
ومع قيام ثورات شعبية ضدَّ ملوك أوربَّا الطاغين الظلمة توجَّهت شعوبها إلى “النظام الجمهوري”، ويقصد به النظام غير الملكي. فالحاكم يكون مِن عامَّة الناس، يختارونه وينتخبونه، ويصبح رئيسًا لهم على أجل معيَّن، ولا يعطى في يده سلطة مطلقة بلا حدٍّ ولا رقيب ولا حسيب، ولا يحقُّ له أن يتصرَّف في الشعب والوطن كمالك مطلق، ولا يحقُّ له أن يورِّث السلطة لأحد مِن قرابته أو أبنائه. ولو أجرينا مقاربة لهذا النموذج لوجدناه في عهد الخلافة الراشدة، حيث لم يوصف أحد مِن الخلفاء بالملك، ولا نال سلطة مطلقة، ولا أحال السلطة لميراث لقرابته وأبنائه.
يقول ابن تيمية -رحمه الله- عن بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- أنَّها كانت بموافقة “جمهور الصحابة”، وأنَّه لم يتخلَّف عنه إلَّا القليل جدًّا مِن الصحابة. وكذلك الأمر بشأن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفَّان -رضي الله عنهما- إنَّما كانوا خلفاء بمبايعة جمهور الأمَّة لهم وإجماعهم عليهم. وإنَّ إحدى مرجِّحات الأقوال في علوم الفقه والتفسير والشريعة الإجماع، أو قول الجمهور عند كثير مِن العلماء. وقد مال رسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في كثير مِن القضايا التي لا نصَّ فيها لرأي غالبية الصحابة، حتَّى في رؤاهم المنامية.
ولفظة “جمهور” وجماهير” لفظة معهودة في التراث الأدبي والتاريخي والديني، تشير إلى غالبية الناس. ولم يأت في حقِّها ذمٌّ لذاتها، بل استخدمت في التعبير عن واقع وحال الناس. وتحميل هذا المصطلح معانٍ ودلالاتٍ فوق حمولته، ممَّا يصرفه عن مقصوده مِن التعنُّت والعنت، والتكلُّف المذموم، خصوصًا وأنَّه دلَّ على معنى صحيح في ذاته، وهو عدم قبوله نظام “الملك” كمبدأ للحكم.
والقول بأنَّ النظام الجمهوري يصادم الإسلام، لمجرَّد أنَّ هذا الوصف غير معهود في نصوص الشرع وكتب التراث، قول المقلِّدة الظاهرية، وإلَّا فإنَّ كثيرًا مِن الألفاظ الحادثة في السياسة اليوم والتي شاع استخدامها لم ترد في نصوص الشرع، كالحكومة، ووزارة الخارجية، ووزارة الداخلية،.. ومعانٍ كثيرة ابتكرت للتعبير عن مناصب أو وظائف أو اختصاصات. وكذلك تسمية الدول الإسلامية بالمملكة والسلطنة لم يعهد في عهد الصحابة ولا التابعين. فإن كان ولا بدَّ مِن نبذ المصطلحات لما يلحقها مِن معانٍ باطلة فإنَّ “الملك” في الإسلام حرف لنظام الحكم فيه عن الخلافة، فليكن أوَّل ما يجب إسقاطه! فإن قيل له وجه مِن الصواب، قيل في النظام الجمهوري مثله، بل هو أقرب لنموذج الحكم في الإسلام في توكيل الاختيار والانتخاب للأمَّة.
الدولة كيان يحقُّ إلحاق الوصف به، وقد كان لدى فقهاء الإسلام توصيف لـ”الدار” بما يلائمها. ولفظ “المدني” لفظ عربي، يشير إلى طبيعة الإنسان التي لا يمكنها القيام بمفردها، وإنَّما بالاجتماع، فهو “مدنيٌّ بالطبع” كما ينصُّ علماء الإسلام. وقد كان أوَّل وصف ليثرب بعد قيام المجتمع الإسلامي فيها “المدينة”، لما قام فيها مِن تعايش بادئ الأمر بين المسلمين وأهل الكتاب وبقايا أهل الشرك. وظلَّ هذا الوصف لصيقًا بها إلى يومنا هذا لا ينفكُّ عنها.
ومصطلح “الدولة المدنيَّة” له استخدامات عدَّة في العرف السياسي والقانوني، وفي الخطاب الإعلامي والحقوقي، وفي الثقافة والفكر، حتى بات يشير على معانٍ عدَّة، بعضها حقٌّ، وبعضها مباح، وبعضها منكر. فمَن قصد بهذا المصطلح الدولة التي لا تقيم للدين وزنًا أو للشريعة اعتبار خرج بمفهوم مناقض لدين الإسلام وشريعته. أمَّا بمفهوم أنَّها دولة غير كهنوتيَّة (ثيوقراطية يحكم فيها الحاكم لكونه متَّصفًا بصفات التقديس أو ببعضها، أو لكون الإله اختاره ونسله لهذا الأمر)، أو غير عسكريَّة، أو غير شمولية، فهذه جميعًا معانٍ صحيحة ولا غبار عليها. فالدولة في الإسلام دولة رشد، لا دولة الجنود المتغلِّبين، ولا الطائفة أو الفئة المتغلِّبة، ولا دولة السلالات المقدَّسة، ولا دولة الزعامات المؤلَّهة.
فعند العموم ينبغي وضع هذا المصطلح في سياقه، فإذا ورد ما يشير إلى خروجه عن المعاني الصائبة والصحيحة ردَّ ورفض، كأيِّ مصطلح تتعدَّد التأويلات له.
نسبة السيادة لفرد أو كيان أو شعب في إطار المعنى العرفي الذي لا يخرجه للتقديس والتأليه مأذون به، وقد جاء في الحديث عنه -صلَّى الله عليه وسلَّم: (قوموا إلى سيِّدكم)، وفي الأثر عن عمر -رضي الله عنه: (أبو بكر سيِّدنا وأعتق سيَّدنا بلالًا). ويقال: المرء سيِّد نفسه إذا كان حرًّا. والمقصود بمصطلح “سيادة الشعب” إلغاء مفهوم الملكية التي تمنح السيادة المطلقة لفرد أو أسرة أو سلالة على الناس. وإذا كان علماء الأمَّة عبَّروا عن الحاكم بأنَّه أجير أو وكيل أو نائب عن الأمَّة، فإنَّهم بذلك عبَّروا عن صاحب الحقِّ في السيادة وإلَّم يصرِّحوا بهذا المصطلح. فالأحير والوكيل والنائب لا يتصرَّف إلَّا في حدود ما فوِّض فيه، وأوكل إليه، وأُنيب له، وصاحب الشأن هم الأمَّة أو الشعب.
وقد خاطب الله تعالى في التكاليف العامَّة “الأمَّة” وأقامها مقام المكلَّف والمسئول عن تلك المهام، في الدعوة والجهاد والحسبة وغيرها، لأنَّها صاحبة الشأن. وقد جاء في الصحيح، أنَّ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال (عندما بلغه أنَّ هناك رجال يتحدَّثون أنَّه لو مات عُمَرُ بايعوا فلانًا): “إنِّي -إن شاء اللَّه- لقائم العَشِيَّة في الناس، فمُحذِّرُهم هؤلاء الذين يُرِيدُون أن يَغصِبُوهم أُمُورهم)، وأضاف: (مَن بَايَعَ رَجُلًا عن غيرِ مَشُورَةٍ مِن المـُسلمين فلا يُبَايَعُ هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةً أن يُقتَلَا). فعمر يرى أنَّ اختيار الحاكم وانتخابه حقٌّ أصيل للأمَّة، أو الشعب بمفهومنا اليوم.
يقول سيد قطب: “ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولَّى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجال الدِّين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يُعرف باسم الثيوقراطية، أو الحكم الإلهي المقدَّس! ولكنَّها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مردُّ الأمر إلى الله وفق ما قرَّره من شريعة مبيَّنة”. وحيث أنَّ الشريعة فوَّضت أتباعها بإقامة دولتهم، وإقامة دينهم، فهم سادة على أنفسهم بهذا الدين وفي ظلال تلك الدولة، لا سيادة لأحد عليهم.
فإذا أتى مَن جعل سيادة الشعب مضاهاة لسيادة الله تعالى، وأحال الشعب إلى مشرِّع وحاكم مِن دون الله، ردَّ عليه هذا الفهم وذلك التأويل، ونوزع في المصطلح للصواب الذي فيه؛ فإنَّه لو ترك كلِّ مصطلح صحيح لتأويل فاسد لم يبق لأهل الحقِّ مصطلح يختصُّون به.
يُقال في سيادة الدولة، أو ما كان يعبِّر عنه فقهاء الإسلام بسلطان الدولة، ما يُقال في سيادة الشعب، وسيادة الدولة هي تجسيد لسيادة الشعب على وطنه، وهي الهيئة المعبِّرة عن تلك السيادة في صيغة سياسية شاملة. وكما قرَّر ميثاق الأمم المتَّحدة، والمعاهدات والاتفاقات الدولية، والقانون الدولي، فإنَّ سيادة الدولة حقٌّ أصيل لا ينبغي منازعته مِن الدول الأخرى. ومتى ذهب هذا الحقَّ عمَّت الفوضى وساد الهرج والعدوان. وقد اعتبر الإسلام سلطان الدول على شعوبها وإن كانت كافرة، وأجاز لدولة الإسلام التعاقد والتعاهد مع هذه الدول باعتبارها طرفًا ندًّا، ما لم تكن محاربة للإسلام وأهله. كما أنَّه جعل للخارج إليها مِن المسلمين أحكامًا خاصَّة إذ أنَّه يدخل إلى سلطان غير سلطان المسلمين. ومِن ثمَّ نجد أن شعوب العالم وحكوماتها تواطأت على هذا المبدأ، وهذا النوع مِن التواطؤ معتبر في نظر ابن تيمية -رحمه الله، إذ هو صادر عن بصيرة العقلاء في كلِّ الممل والنحل والأديان والمذاهب، وكان يستشهد به في محلِّه.
القانون لفظ أعجمي، يشير إلى النظم والتشريعات التي تحكم جمعًا مِن الناس، أو مجالًا مِن مجالات المعرفة والعلوم، أو المهن والأعمال. وقد جرى استخدامه في التراث الإسلامي وتوظيفه للدلالة على معنى النظام والقواعد والأحكام المحكمة. ولم ينظر له باعتباره كفرًا. وإنَّما ورد الإشكال عقب الاحتلال الأجنبي لبلاد المسلمين عند فرض قوانين غير المسلمين على أهل الإسلام، فكان القانون بهذا المعنى نقيض الشريعة. فما كان مناقضًا للشريعة مِن القوانين كان كفرًا في نظر علماء المسلمين. غير أنَّ الإشكال لم يكن للفظ ذاته وإنَّما للتشريعات التي كان يحملها. ولهذا سعى بعض علماء الإسلام في زمن الدولة العثمانية إلى تقنين الشريعة؛ أي تحويلها مِن نصوص دينية وفقهية إلى نصوص محكمة مفصَّلة مترابطة بحسب القضايا والمواضيع والمجالات. ومِن ثمَّ فلم يكن لديهم مانع مِن أن يطلق على الشريعة الإسلامية بهذه الصيغة قانونًا. فإذا كان الأمر كذلك فإنَّ سيادة القانون (الذي هو بالأساس الشريعة) أمر لا غبار عليه، بحيث لا يخرج أحد لنسبه أو مكانته أو جاهه عنها، ويكون الجميع خاضعون لها كقانون عامٍّ للمجتمع. وعندها فلا مشاحاة أن يقال (سيادة الشريعة) و(سيادة القانون) طالما أنَّ القانون المعمول به هو قانون الشريعة.
يوصف الله تعالى بأنَّه الحكم وأنَّ له الحكم، ولكن القرآن الكريم والسنَّة النبوية استخدما هذا الوصف على المقامات المناسبة، فوصفت الرسول بأنَّه حاكم وحكم، ووصفت الخليفة بأنَّه حاكم، والقاضي بأنه حكم. ذلك أنَّ الشريعة لا تعبِّر عن ذاتها وإنَّما يعبِّر عنها أهلها الحاملون لها المعنيون بإنفاذها، في الفقه والفتيا والقضاء والحسبة والجهاد والدعوة والسياسة. ومفهوم حكم الشعب نفسه بنفسه ينفي جواز قهرة مِن قوَّة أجنبية خارجة عليه، أو فرض ما لا يرتضيه مِن دين وشريعة، أو منعه مِن حقِّ اختيار حكَّامه وإدارة الشورى في شئونه ((وأمرهم شورى بينهم))، فأمرهم بالأساس لهم هم مَن يتشاور فيه ويخرج فيه بالقرار والرأي والاختيار.
فإن جاء مَن يؤوِّل هذه العبارة على وجه فاسد يقتضي نفي مرجعية دين الله وشريعته للمسلمين ردَّ عليه هذا التفسير والمعنى والتأويل، وأبقي المعنى الصحيح على التأويل الصحيح مستخدمًا ودالًّا، كي لا يفهم الخصم جواز أن تخضع الشعوب لحكم المحتلِّين أو الأقليَّات أو الجبابرة المستبدِّين، مسلوبة الإرادة والقرار.
جاءت الشريعة بوظائف عدَّة ومقامات عديدة، فالحاكم والقاضي والمحتسب والمفتي والمعلِّم والداعية وغيرها. وجعلت لكلِّ وظيفة اختصاصًا ومهامًّا وصلاحيَّات؛ ما يشير إلى التمييز بينها على الوجه الذي ينظم حركة المجتمع وأدوار المسئولين عليه فيه. بل لقد بلغ الاهتمام بهذه المقامات ببعض الأصوليين إلى دراسة مقامات الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- في البلاغ والبيان، لما لكلِّ مقام مِن اعتبارات ولوازم تختلف عن الأخرى. ومع تطوُّر وتوسُّع العلوم والوظائف وكثرة أفراد المجتمع اعتنى المسلمون بتمييز الوظائف وبيان اختصاصها، وإيكال كلٍّ مِنها لفرد أو هيئة. وهو ما يعرف اليوم بمبدأ (الفصل بين السلطات)، وهو مبدأ يعبِّر عن تفكيك مفهوم السلطة إلى مكوِّنات بما لا يتيح لفرد أو هيئة أن تمتلك السلطة المطلقة في شئون الناس، فتكون هي الخصم والحكم، والمعلِّم والمفتي والمحتسب، والقاضي والغريم، لما قد ينشأ مِن استغلال أو توظيف مضرٍّ بمقاصد السلطة التي وضعت لإقامة العدل ودفع الضرر وجلب المصالح.
وابتكار هذه العبارة للدلالة بالأساس على حقيقة وجدت تاريخيًّا وعمل بها إنَّما هو تحصيل حاصل، وإعطاء الأمور مسمَّى يختصر شرحها ويحدِّد دلالتها.
- المجلس التشريعي/ المجلس النيابي:
في الإسلام هناك دائرتان مِن التشريع، تشريع ديني وتشريع دنيوي. فأمَّا التشريع الديني فهو ما جاءت به الشريعة اختصاصًا، وعبَّرت عنه نصوص القرآن الكريم والسنَّة النبوية، ويلحق بها الأقوال والاجتهادات المعبِّرة عنها تفسيرًا أو تأويلًا أو تنزيلًا أو استنباطًا. وأمَّا التشريع الدنيوي فهو ما ترك للناس أن يجتهدوا فيه لأنفسهم على أساس مِن التشريع الديني؛ وسواء صدرت عن الخبرة والمعرفة العقلية، أو الأعراف أو التقاليد السائدة، أو العقود والاتِّفاقات البينية، أو القوانين المنقولة عن الغير.
وفي الثقافة الإسلامية تمثِّل (الشورى) مصطلحًا معبِّرًا عن قرارات وآراء واختيارات الأمَّة في مصالحها الخاصَّة والعامَّة. ومِن ثمَّ فإنَّ (الشورى) إحدى أبرز تجليَّات وعي الأمَّة وحضورها في الاهتمام بقضاياها وشئونها. وقد كان الخلفاء الراشدين يديرون (الشورى) بصور شتَّى بحسب القضايا والأحوال.
ومع تطوُّر الدولة الحديثة وحاجة الشعوب إلى وجود كيان يحافظ على سيادة الشعب وتمثيله ابتكر الفكر السياسي ما أطلق عليه بـ(السلطة التشريعية)، كي تكون منازعة للسلطة التنفيذية، ومشرفة عليها، ومراقبة لها، ومحاسبة إيَّاها. فهي أشبه بدائرة (أهل الشورى) أو (أهل الحلِّ والعقد) الذين يرجع المجتمع إليهم، ويثق في نزاهتهم وعقولهم وسلوكيَّاتهم. وقد يطلق على هذه الهيئة وصف (مجلس النوَّاب)، وهو وصف لا غبار عليه، لأنَّهم ينوبون الأمَّة في اختصاصاتهم، كما ينوب الحاكم الأمَّة في اختصاصاته. غير أنَّ الإشكال في توصيفه بـ(المجلس التشريعي).
ويزول الإشكال إذا تقيَّد (مجلس النوَّاب) فيما يصدره مِن قوانين بمرجعية الإسلام وشريعته، ويصحُّ أن يطلق عليه بالمجلس التشريعي بمفهومه اللغوي لا الشرعي؛ لأنَّ ما يصدره مِن قوانين ونظم ولوائح وقرارات يطلق عليها في اللغة تشريعات. ومِن ثمَّ فلا مشاحة في الاصطلاح، لأنَّه لا يقصد به هنا التشريع المضاهي للحقِّ الإلهي. وقد استخدم بعض العلماء في حقِّ الرسول والعالم وصف مشرِّع مِن قبيل التوسُّع في المفهوم لا تحويله.
إثبات الحقوق للإنسان أمر لا غبار عليه، شرعًا وعقلًا وعرفًا. وقد جاء الإسلام لينتظم حقوق العباد جميعًا، ودون تجاهل لأحد مِنهم، في أطرها الفئوية وفي أطرها العامَّة. والحديث عن حقوق الإنسان لا ينبغي أن يثير حفيظة المسلم العاقل، لأنَّ الإشكال ليس في المصطلح وإنَّما في ترجمة كلِّ حضارة وثقافة وشريعة له. وكما أنَّ دول العالم ترفع مصطلح “العدل” شعارًا رغم الترجمة الخاطئة له، والتكييف السيء له، دون أن يدفعنا ذلك لإنكار مصطلح “العدل”، فحقوق الإنسان مِن هذا القبيل. وما هو مطلوب مِن الأمَّة هو أن تظهر صياغتها الإسلامية لهذه الحقوق، سواء ما كان مِنها طبيعيًّا، وما كان شرعيًّا، وما كان في سلطان دولة الإسلام وما كان خارجه، للأفراد والمجتمعات. ومثله مفهوم ومصطلح “الحرِّيات”، الخاصَّة والعامَّة. فإنَّ الإسلام جاء لتحرير البشر، سواء بدخولهم في الدين أو دخولهم في سلطانه ودولته. والحرِّية قيمة ممدوحة في الإسلام، في مقابلة العبودية الاضطرارية أو في مقابلة العبودية الاختيارية للبشر. وإنَّما يؤجر ويقبل إيمان الإنسان بخروجه مِن تلك العبوديات ودخوله في عبوديَّة الله تعالى اختيارًا وقبولًا مِنه ورضًا.
- الحزبية والتعددية الحزبية:
الحزبية مصطلح يعبِّر عن الجماعة مِن الناس يجمعهم أمر يميِّزهم عن غيرهم في مجتمعهم. وله دلالة لغوية وعرفية، والإسلام استخدمه في محلِّ المدح (حزب الله)، واستخدمه في محلِّ الذمِّ (حزب الشيطان)، في دلالة على أن المصطلح في ذاته لا إشكال فيه، وإنَّما الإشكال فيما تعلَّق به مِن حقٍّ وباطل، أو خير وشر، أو هدى وضلال. وقد اعتبر الإسلام تحزُّب المجتمع ضدَّ بعضه البعض أمرًا محرَّمًا ومذمومًا. لكنَّه سكت عن تحزُّب المجتمع في المباحات أو المنافسات، لأنَّ التحزَّب في هذه الحالة تعبير عن وضع طبيعي أو اختيار متقبَّل. فما كان مِن التحزُّب معبِّرًا عن التنوع المفيد والهادف بحيث يجتمع كلِّ أصحاب اختصاص ومهنة وهدف ووظيفة لخدمة احتياجاتهم وتلبية متطلَّباتهم وتحقيق غاياتهم فهو أمر طبيعي. أمَّا التحزُّب ضدَّ الآخرين، لإلحاق الضرر بهم، أو الإساءة إليهم، أو انتهاك حقوقهم، أو العدوان عليهم، فهذا منهي عنه، وهو المشار إليه في القرآن حال الذمِّ.
ولا مانع في الإطار السياسي أن يتنافس أبناء المجتمع في تشكيل أنفسهم في هيئة أحزاب لتقديم برامج خدمية للمجتمع والتنافس على النجاح فيها. كما قد يتنافس أصحاب المهن والأعمال والمصالح. فالتنافس في الخير أمر مشروع، بكلِّ وسائله المباحة. وخير ما يتنافس المجتمع التنافس في القيام بشئونه ومصالحه العامَّة التي يقوى بها وينتفع ويترقَّى.
وإنَّه يذمُّ تحزُّب أهل الصلاح ضدَّ بعضهم، على سبيل القطيعة والصدام والبغي، كما يذمُّ التحزُّب على معانٍ مخالفة للدين أو على تكالب على الدنيا وشهواتها. وسواء كان هذا التحزُّب بصفة قانونية أو صفة عفوية، فوصف التحزُّب قد يتحقَّق واقعًا وإلَّم يقرُّ ويرخَّص قانونًا.
وقد جعل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الأمر مِن بعده في ستَّة مِن الصحابة، كلٌّ مِنهم صالح للخلافة، فتنازل بعضهم وتمسَّك بعضهم بحقِّه في المنافسة للوصول إلى السلطة. وكان المرجِّح بين الشخصيَّتين اللَّتين تمسَّكتا بحقِّهما في المنافسة (عثمان وعلي رضي الله عنهما) هو اختيار المجتمع.
في الإسلام تختار الأمَّة الحاكم وتبايعه، ومفهوم البيعة أي منحه التفويض والتعاقد الذي يمكِّنه مِن مزاولة سلطته. وهذا المفهوم يقابله اليوم مع تطوُّر الوسائل والأساليب العملية (الانتخابية)، فهي تعطي نتيجة اختيار المجتمع لممثِّليه، سواء في السلطة التشريعية أو التنفيذية (الرئاسية)، ويعلم الجميع أنَّه بموجب الانتخاب والدستور تؤول السلطة لأوفر المرشَّحين اختيارًا (أصواتًا). فكأنَّ مواد الدستور والقانون قد نابت عن البيعة التي تلي الاختيار باعتبارهما يسمِّيان الفائز مستحقًّا بالمنصب محلَّ الانتخاب. ومِن ثمَّ فالانتخابات اليوم ليست إلَّا شكلًا مِن أشكال إدارة الشورى وتعبير المجتمع عن اختياره.
نصَّ علماء الإسلام على أنَّ البيعة عقد بين طرفين (الأمَّة) و(الحاكم)، وأنَّ المنشئ له أساسًا (الأمَّة) لأنَّها الأصل الثابت والمالك للقرار والاختيار، والحاكم طارئ وأجير عندها. وإذا قبلت (الأمَّة) أن تأخذ بمبدأ تحديد مدَّة السلطة كان لها ذلك، لأنَّها صاحبة الشأن، وليس لأحد أن يفتئت عليها، أو حتَّى يفتئت على الشريعة، فإنَّ الشريعة هنا أناطت الأمر للأمَّة ((وأمرهم شورى بينهم))، ومسألة السلطة ليست مِن مسائل العبادات التي الأصل فيها التوقُّف بل مدارها على المعاني والمقاصد والمهام والمصالح والتغيُّرات. ومَن أجاز للأمَّة أن -وربَّما فرض عليها- طاعة المتغلِّب بفقهه فحريٌّ به أن يقرَّ بحقِّ الأمَّة أن تقيَّد ما تريد طالما وأنَّ الفقه معتبر في هذه المسائل.
يستشهد كثير مِن المعارضين لثورات الشعوب ضدَّ حكَّامها الظلمة المتجبِّرين بثورة الرعاع والهمج على عثمان -رضي الله عنه، دون مراعاة لفوارق القياس ولا اعتبار لتأصيل المبدأ مِن حيث هو قبل تعميم المثال وحصر الصورة فيه. فعثمان توفَّرت فيه شروط الولاية والأهليَّة، وقد انتخب مِن عموم الأمَّة، وحكم بالإسلام وشريعته، وله سابقته وتاريخه في الإسلام ونصرته، وقد زكَّاه الرسول -صلَّى الله عليه وسلَّم؛ في حين أنَّ الثائرين عليه هم مِن الهمج والرعاع الذين لم يوافقهم كبار الصحابة والتابعين على ما هم عليه، وكانوا فيما ادَّعوه على عثمان كذبة مفترين، أو متحاملين في أمور له في سعة للاجتهاد، أو مبالغين في أخطاء لا تستدعي الثورة عليه، فهو في كلِّ الأحوال بين الأجر والأجرين والعفو. ولو كانت الثورة في ذاتها محرَّمة أو مجرَّمة في الشريعة لذكر الصحابة -رضي الله عنهم- ذلك، ولنبَّهوهم إليه، أو قاتلوهم عليه كما قاتل علي -رضي الله عنه- الخوارج، لكنَّ اعتراض الصحابة لم يكن على مبدأ الثورة مِن حيث هو، وإنَّما على ثورة أولئك الهمج الرعاع على عثمان، ومَن ادَّعى أنَّ الصحابة أنكروا مبدأ الثورة في ذاته تحريمًا وتجريمًا فعليه بالدليل.
إنَّ أزمة العقول المسلمة اليوم أزمة في الفهم والاستنباط والتنزيل والتطبيق، وهو حصيلة الجمود والتقليد والتعصُّب الذي ضاعت فيه جهود وأوقات لمناصرة قضايا فرعية وهامشية وقابلة للاجتهاد والخلاف. كما أنَّها أزمة انعكست عن حال العداوة مع القوى الغربية المحتلَّة التي اعتدت وأجرمت في حقِّ المسلمين، وعن حال الالتباس في وجود معانٍ صائبة لدى الغرب وهو مَن هو في إلحاده وكفره وانحلاله وفساده وإجرامه. وهي معاني نبَّه القرآن الكريم والسنَّة النبوية على عدم جعلها حاجزًا بيننا وبين أنَّ نأخذ الحقَّ والصواب والنافع ممَّن أتى به.
هذه خلاصة للتنبيه، قلتها نصحًا للأمَّة، قد يتصدَّى لها العجلون الذين لا يعيدون النظر ولا يتعمَّقون في التفكير ولا يحسنون التأمُّل، لكنَّها ستبلغ الراشدين الذين يهتدون بهدي القرآن والسنَّة وتعي عقولهم ما يقرؤون وما يسمعون.
والله غالب على أمره ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون.
*نقلاً عن موقع حكمة يمانية