رهانات مخطئة حول)أوباما)
د.باسم خفاجي
مع قرب انتهاء مدة الرئيس الأمريكي (جورج بوش) وتولِّي خَلَفِه (باراك أوباما) منصبَ الرئيس الأمريكي القادم في ظهر يوم 20 يناير من عام 2009م؛ تنتشر التحليلات السياسية والتوقعات الشعبية عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الرئيس القادم في صياغة السياسة الأمريكية، وتنتشر مع هذه التحليلات الرهانات المخطئة والمفاهيم المغلوطة والرؤى المغالية؛ إما في التفاؤل أو التشاؤم، وتجر الأمة مع هذه التحليلات إلى الجنوح إما إلى المبالغة في السذاجة أو المبالغة في الولع بفكرة المؤامرة.
إننا بحاجة إلى قدر كبير من التعقُّل والاعتدال والبصيرة في التعامل مع أحداث الأعوام المقبلة.
أظهرت الأيام الماضية طَرَفَيْ نقيض في التعامل مع التوقعات حول إدارة (أوباما) القادمة:
فريقاً من المعجبين بشخصية (أوباما)، والظروف التي ساعدته على الوصول إلى أن يصبح «الرئيس المنتخب» القادم لأمريكا؛ أصبحوا يظنون أن أمريكا ستنفض عن كاهلها كل ما قامت به من جرائم خلال العقود الماضية، وأنها ستتحول في ليلة وضحاها إلى كيان عادل مناصر للعرب والمسلمين، ومحب للخير والسلام، وكأن الولايات المتحدة لم يكن يعيبها إلا إدارة (جورج بوش) ونائبه (ديك تشيني)، أو كأنهما لم يُنتخبا، وإنما جاءا ومعهما المحافظون الجدد في غفلة من التاريخ، أو رغم إرادة الناخب الأمريكي لفترتين رئاسيتين مع كل جرائمهم.
تصوُّرُ أن أمريكا ستتحول عن كل مواقفها الإستــراتيجية أو نزعاتها الإمبراطورية لمجرد انتخاب شخص يمكن الإعجاب به في البيت الأبيض، مقارنةً بالأحمق الذي يتولى المنصب حالياً؛ هو وَهْمٌ خادع ومضلل، وموقف مغالٍ في التفاؤل أيضاً.
أما الفريق الآخر - وبالدرجة نفسها من الجنوح بعيداً عن الحق - فإنه يرى أن أمريكا بلد «شيطاني» بالمطلق، وأنه لا يمكن أن يُرجَى منها أي درجة من الاعتدال، مهما تغيرت قناعات شعبها، أو أسفرت عنه نتائج انتخاباتها، وأنها صنيعة صهيونية وعميلة بالكامل للكيان الصهيوني، دون أدنى احتمال لأن يتغير هذا بأيِّ درجة أو بأيِّ نسبة، بصرف النظر عمن سيشغل البيت الأبيض، أو حتى بصرف النظر عن مصالح الولايات المتحدة نفسها. ويشعر هذا الفريق أن اختيار (أوباما) ليس إلا جزءاً من مؤامرة جديدة بشكل جديد على الشعوب العربية والإسلامية تحديداً، وأن (باراك أوباما) ليس إلا «شيطاناً» جديداً في ملمس ناعم، ولون جلد مختلف، ولكنه سيحمل الحقد نفسه على أمتنا، وسيلتزم بنمط السياسة المعادية لنا نفسه، وهو موقف مخطئ ومغالٍ في التشاؤم أيضاً.
هناك خطورة من أن تتحول الأمة عن الوسط والاعتدال إلى أقصى درجات التفاؤل، أو أقصى درجات التشاؤم والانفعال. نحن بحاجة إلى الفهم قبل الحكم، وإلى إدراك طبيعة اللحظة الراهنة في الحياة الأمريكية، وفي المتغيرات الدولية، وفي نتائج العولمة وتبعاتها، وأثر كل ذلك على الإدارة الأمريكية القادمة، وعلى مصالح أمتنا وحقوقها ومبادئها، وكيف يمكن توظيف الفهم الصحيح للواقع الدولي من أجل صحة الحكم على المجريات، وحسن الاستفادة منها لما ينفع المجتمعات العربية والمسلمة.
هناك مفاهيم مغلوطة ورهانات مخطئة حول (باراك أوباما) يجب أن نعمل على سرعة تصحيحها حتى لا تتحول إلى مسلَّمات تجعل الرؤية الصحيحة للواقع الدولي عسيرة وغير ناضجة، ومن هذه الرهانات المخطئة أن (أوباما):
1 - نصير العرب والمسلمين:
لا شك أن (باراك أوباما) هو الرئيس الأمريكي الأول في تاريخ الولايات المتحدة الذي عرف عن الإسلام، وعاش مدة من حياته في ديار المسلمين، وتفهَّم قبل وصوله إلى الحكم بمدة طويلة رؤية العرب والمسلمين للعديد من القضايا، وعلى رأسها حقوق الشعب الفلسطيني.
تحدث (أوباما) مراراً عن ذلك، وعن علاقاته الشخصية بشخصيات فلسطينية معادية للكيان الصهيوني، وهذا بالتأكيد أمر مهم وجديد على ساكني البيت الأبيض، ولكن في المقابل لا بد من وضع أمرين في الحسبان:
الأمر الأول: أن (باراك أوباما) قد نجح في هذه اللحظة الفارقة في الحياة الأمريكية لأنه ضد (جورج بوش) ولأنه حاول أن يظهر على أنه يركز على مصالح الشعب الأمريكي أولاً، وهو كذلك غير مدين للقوى الضاغطة الأمريكية بانتخابه، وهي سابقة حقيقية في الحياة الأمريكية، وقد تجعل منه شخصاً متحرراً بدرجة محدودة من تلك الضغوط.
الأمر الثاني: أنه استجاب بدرجة ما إلى الضغوط التي يمارسها اللوبي الصهيوني منذ شهور عليه، وأظهر اختيــاره لـ (رام إيمانويل - وهو سياسي أمريكي متعاطف بقوة مع الدولة الصهيونية) لمنصب كبير موظفي البيت الأبيض؛ أنه لن يكون بمنأى عن تلك الضغوط الصهيونية طوال مدة رئاسته، وحتى قبل أن تبدأ، كما أنه اختار (جوزيف بايدن) لمنصب نائب الرئيس، وهو شخصية معروفة بولائها المعلن لمصالح الكيان الصهيوني.
لن يكون (باراك أوباما) نصيراً للعرب والمسلمـين؛ لأنـه لا يفترض فيه أن يكون كذلك ابتداء، ولأننا لن نمارس ضغطاً استراتيجياً مقابلاً للضغوط الصهيونية التي تجري ممارستها منذ ظهر احتمال وصول (أوباما) إلى البيت الأبيض، وهنا مربط الفرس لنا.
(أوباما) قد يستجيب للضغوط من الموالين لمصالح العرب والمسلمين، ولو بدرجة بسيطة، ولكن إن لم نحمل نحن قضايانا إليه، ونحارب من أجل إدراجها ضمن أولويات إدارته، ونجتهد في أن يفهم العالم حقوق شعبنا في فلسطين على سبيل المثال؛ فلن يناصرنا أحد في هذه الإدارة الأمريكية القادمة أو أي إدارة أخرى لمجرد أن الحق بجانبنا. نحن بحاجة إلى القوة التي تخدم الحق، والمنطق القادر على الدفاع عن الحق، والضغوط الملزمة للآخرين للاستجابة بدرجة ما لمطالبنا وليس بالضرورة لحقوقنا.
من أجل كل ما سبق لا نتوقع ولا نفترض أن يكون (أوباما) نصيراً للعرب والمسلمين، ولا نظن في المقابل أنه سيكون صديقاً مخلصاً للكيان الصهيوني.
سيحاول (باراك أوباما) أن يتوازن في هذه المسألة بالشكل الذي لا يضرر برئاسته أولاً، ولا يؤثر على فرصة إعادة انتخابه ثانياً، ولا يضر بمصالح الولايات المتحدة ثالثاً، ولا يتعارض مع مبادئه الأخلاقية والسياسية في الدرجة الرابعة والأخيرة.
2 - سينفذ وعوده الانتخابية:
يظن المعجبون بـ (باراك أوباما) في العالم العربي والإسلامي أن التزاماته الأخلاقية والحزبية أيضاً ستفرض عليه أن يلتزم بكل ما قطعه على نفسه من وعود خلال حملته الانتخابية؛ لذلك سينسحب من العراق، وسيعيد الحقوق المدنية الأمريكية إلى ما كانت عليه قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وقد يلتزم أيضاً بالحوار مع إيران وأفغانستان.
الوعود الانتخابية غير ملزمة للرئيس عند انتخابه، ولم يحدث في تاريخ أي رئيس أمريكي أن حقق كل ما وعد به، والتزم بتنفيذه في حملته الانتخابية، بعد أن نجح في الوصول إلى مقعد الرئاسة. هذا هو الواقع، ولا يجب أن نغرق في التفاؤل بشأن ما سينفذه (أوباما) من وعود.
ومن ناحية أخرى؛ يجب أن يدرك هذه النقطة نفسها فريق المتشائمين في أمتنا، ومن يظنون أنه لمجرد أن (أوباما) ذكر في خطابه لدى اللوبي الصهيوني (إيباك) أنه سيلتزم بأن تكون القدس الموحدة عاصمة للدولة الصهيونية؛ أنه سيفعل ذلك بالتأكيد.
(جورج بوش) قطع على نفسه وعلى إدارته الوعد نفسه، ولم يحققه، وفعل مثله (بيل كلينتون)، ولم يلتزم به، ومن المتوقع أن يسير (باراك أوباما) على النهج نفسه أيضاً. ولن يكون (أوباما) بالضرورة صنيعة في يد اللوبي الموالي للدولة الصهيونية؛ لأنه ليس مديناً لهم، ولكنه يدرك حجم تأثيرهم وقوتهم، ومن ثم سيضع ذلك في حسبانه بالتأكيد.
من المهم أن ندرك أن هدف الوعود الانتخابية في الحياة الأمريكية هو تقديم أفضل صورة ممكنة لسياسات المرشح الانتخابي، وأن الواقع بعد نجاح هذا المرشح يختلف كثيراً عن مدة الحملة الانتخابية، وأن بعض الوعود تُقطَع لا لكي تُنفَّذ، ولكن لكي يُنتخب المرشح.
بالتأكيد هذا أمر غير أخلاقي، ولكنه متكرر ومعروف وشائع في الحياة السياسية الأمريكية، ولا يُتوقع أن يكون (باراك أوباما) مختلفاً كثيراً عن تصرفات السياسي التقليدي الأمريكي في هذا الشأن.
ليس وارداً أن ينفذ (أوباما) جميع الوعود الانتخابية التي يحلم بها المتفائلون في مجتمعاتنا، ولا أن ينفذ كذلك كل الوعود التي يخشى من تنفيذها المتشائمون في عالمنا العربي والإسلامي. سينفذ (أوباما) ما يفيده من الوعود التي قطعها، وما يمكن له عملياً أن ينفذه بقدر مناسب من المخاطرة السياسية، وليس أكثر من ذلك.
3 - عديم الخبرة وضعيف الشخصية:
يعتقد بعض الناس أن الخبرة شرط أساسي في الرئاسة الأمريكية، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الإدارة الأمريكية تعمل وَفْق نظام مُحْكَم يسمح لمن لا يتمتع بالخبرة الكافية أن يحصل عليها في وقت قياسي، وبشكل لا يضر كثيراً بقوة الإدارة نفسها.
الأهم من الخبرة هو الحكمة السياسية والقدرة على اختيار القرار الصحيح من الخيارات المتاحة، وبُعْد النظر، وهي أمور لا ينالها الإنسان بالخبرة فقط. أظهر (باراك أوباما) في سباق الرئاسة أن لديه من الصفات الشخصية ما يؤهله للمنصب، وهو بالتأكيد ليس ضعيف الشخصية كما يحلو لبعضهم في الإعلام العربي أن يصفه.
الكثير من الرؤساء الأمريكيين في السابق لم تكن لديهم مؤهلات كافية لحكم الولايات المتحدة، ومنهم (رونالد ريجان) على سبيل المثال، و (جون كنيدي) كذلك، ولكنهم حققوا لبلادهم ما تعدُّه أمريكا نجاحات لها، وسيكون (باراك أوباما) من هذا النوع من الرؤساء الأمريكيين ممن يجيد إخفاء حداثة التجربة السياسية تحت عباءة النظرة الثاقبة وإدراك احتياجات الناخب الأمريكي والاستجابة لها.
من المخاطرة الاستغراق في فكرة أن نقص الخبرة وضعف الشخصية سيكونان من عيوب الإدارة القادمة. إن أسلوب إدارة الحملة الرئاسية لـ (باراك أوباما) يؤكد قدرته على أن يحيط نفسه بأفضل العقول المتاحة له، وأن يحسن الاستفادة من مجموع خبراتهم، وأن يوظفها لتحقيق الانتصارات لأهدافه هو، وليس لأهداف مَنْ حوله بالضرورة.
4 - ليبرالي عَلْماني:
يُعرَف الحزب الديمقراطي الأمريكي بأنه الحزب الذي يرفع راية الليبرالية الأخلاقية والاجتماعية، وأنه كذلك يناصر حركات الشواذ والحركة النسوية، وإبعاد الدين عن الحياة، والفصل الكامل بين الدين والسياسة، والدعوة إلى الحريات المطلقة. كل ذلك صحيح بالمجمل، ولكنه لا يعني بالضرورة أن جميع مَنْ في الحزب الديمقراطي يعتنقون هذه الأفكار كاملة، أو يدافعون عنها.
يوجد ضمن الحزب الديمقراطي تيار ناشط يجب الاهتمام برصده، ينتمي إليه (باراك أوباما)، هو تيار الوسط الذي يميل إلى الجانب المحافظ، كما أن في الحزب الديمقراطي العديد من التوجهات الأخرى ولها العديد من المسميات، وبعضها يندرج بالعموم تحت شعار «الديمقراطيين المحافظين»، وبعضها يندرج تحت التوجهات الليبرالية الأكثر ميلاً نحو العَلْمانية.
ويسمى التيار الذي ينتمـي إليـه (بـاراك أوبامـا) أحياناً بـ «اليسار الجديد»، ويطلق على مجموعة منهم أكثر محافظة داخل أروقة الكونجرس الأمريكي أيضاً مسمى «الكلاب الزرق - Blue Dogs»، وكلها في النهاية تدل على تيار يميل إلى الليبرالية في مجالات السياسة وبعض مناحي الاقتصاد، ولكنه تيار أقرب إلى التقاليد المحافظة في الموضوعات الاجتماعية والحقوقية والدينية أيضاً.
التيار الذي ينتمي إليه (باراك أوباما) داخل الحزب الديمقراطي تفوَّق على التيار الليبرالي التقليدي في الحزب، والذي تنتمي إليه (هيلاري كلينتون)، وكانت هذه الانتخابات الرئاسية تمثل ليس فوز الديمقراطيين على الجمهوريين وحسب، وإنما أيضاً فوز التيار الديمقراطي الوسطي والمحافظ داخل الحزب الديمقراطي على التيار الليبرالي العَلْماني اليساري في الحزب نفسه.
نحتاج في العالم العربي والإسلامي إلى عدد من الدراسات حول تيار «اليسار الجديد»، والمؤسسات الداعمة له، وتوجهاته الفكرية، ومراكز الفكر التي تدعمه، والقوى الضاغطة التي تعبِّر عن مصالحه؛ حتى نستطيع التعامل مع الإدارة الأمريكية القادمة. كما أننا بحاجة إلى دراسات حول فكر تيار «الديمقراطيين المحافظين»؛ لأن من المتوقع أن يقاوم هذا التيار بعض أفكار (باراك أوباما) في التحرير الاقتصادي ومواجهة الأزمات المالية في أمريكا وخارجها. هذه الدراسات تعدّ أولوية هامة في المرحلة الراهنة؛ حتى لا نقع في خطأ تصنيف (باراك أوباما) في إطار فكري يختلف عن منهجه وتصوراته، وسينبني على ذلك عدم إجادة التعامل مع تلك الإدارة الديمقراطية القادمة.
(أوباما) ليس ليبرالياً عَلْمانياً بالمفهوم الشائع لهذا المصطلح، ولكنه ديمقراطي يميل إلى الوسط اقتصادياً وسياسياً، ويميل إلى الفكر الديمقراطي المحافظ في المجالات الاجتماعية، ولا يعني ذلك التوصيف أنه أفضل من التوصيف الأول أو أسوأ، ولكنه مختلف بالتأكيد، ومن هنا يقع بعضهم في الرهان المخطئ على ما يمكن أن يفعله أو لا يفعله الرئيس (باراك أوباما) بعد أن يتولى المنصب الرئاسي.
5 - ستكون إدارته القادمة «عادلة»:
يتخيَّل بعض المتفائلين أن غضب الشارع الأمريكي من الظلم الفادح الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية الحالية في العديد من بقاع العالم، وحتى داخل الولايات المتحدة نفسها؛ سوف يفرز بالتأكيد إدارة جديدة «عادلة»، وهذا وَهْمٌ بالتأكيد. العدل مع الآخرين لم يكن يوماً من محددات أي إدارة أمريكية أو أي سياسة خارجية.
تحاول أمريكا دائماً أن تتغنى بتلك القيم الأخلاقية السامية، ولكن يدرك الجميع أن الدور الأهم لساكن البيت الأبيض هو الحفاظ على تفوُّق الولايات المتحدة، وأن «العدالة» مع الآخرين تقف في كثير من الأحيان عائقاً أمام تحقيق هذا التفوُّق، وأن الأهم في تلك المواقف أن تحافظ أمريكا على تفوُّقها، وليس على عدالتها.
لن تختلف الإدارة الأمريكية القادمة عن الإدارات الأمريكية السابقة في هذا التصور الاستراتيجي والمبدئي، وهو أن العدالة مع الدول الأخرى تأتي تالية للحفاظ على المصالح الأمريكية الحيوية والقومية.
هناك بعض التفاؤل بأن الظلم لن يمارس بالشكل الفاضح وغير الأخلاقي الذي مارسته الإدارة الحالية، وهذا صحيح بالمجمل، ولكن السياسات الأمريكية لن تكون أبداً «عادلة»، على الأقل في المنظور الزمني القريب، وستبقى أمريكا دائماً بلداً يقدِّر القوة ويعشقها، ويستجيب للأقوياء، ويرى منظار العدل بشكل نسبي، مرتبطاً بالقوة بدرجة كبرى، وبمصالح أمريكا بالتأكيد أيضاً.
6 - لن يستطيع تغيير أي سياسة أمريكية:
هناك من يراهن على أن ما فعله المحافظون الجدد طوال السنوات الماضية لا يمكن تغييره في إدارة (باراك أوباما) القادمة؛ لأن التغيير الذي حدث كان عميقاً داخل العقلية الأمريكية، وداخل المؤسسات الحاكمة بأكملها، ولأن المحافظين الجدد لن يتخلوا عن السلطة ببساطة للقادم الجديد من التيار الفكري المضاد لهم.
ويرى هذا الفريق أن (باراك أوباما) لن ينجح بوصفه فرداً في تغيير أساليب الحكم الأمريكية القائمة؛ لأنها تتجاوز الأفراد؛ فأمريكا كيان مؤسسي لا يستطيع الفرد أن يغيِّر فيه كثيراً، ومن أجل ذلك؛ فإن هذا الفريق يرى أن أيَّ تفاؤل حول التغيُّر في السياسات الأمريكية هو مجرد وَهْم وتخدير للعقول، وإساءة قراءة للواقع الأمريكي.
وهنا يطالعنا خطأ متكرر يقع فيه بعض المحللين والمراقبين في عالمنا العربي والإسلامي، وهو إساءة قراءة اللحظة، والاعتماد على الأحكام المجملة والمطلقة في فهم مجتمع ديناميكي متغير ومختلف تماماً عن المجتمعات التي أَلِفْناها، ويتخيل هؤلاء أن أمريكا في النهاية لا تختلف عن غيرها كثيراً.
لست ممن يؤمنون بالاستثنائية أو التفرد الأمريكي، ولكنه بالقطع مجتمع مختلف عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ فالمجتمع الأمريكي فيه الكثير من العيوب، ولكنه يتمتع بمميزات فريدة حققت للولايات المتحدة الأمريكية نهضتها المدنية والعمرانية والتقنية، وساهمت في قوتها السياسية والعسكرية أيضاً، ومن أهمِّ تلك المميزات الفريدة: قدرة الفرد في أمريكا على التغيير.
إذا أُتيحت للفرد في أمريكا فرص التغيير، وأحسن استغلالها؛ فيمكنه أن يحقق نقلات كبيرة في الحياة الأمريكية، وينطبق ذلك على السياسيين ورجال الدين ورجال الأعمال، وكل من يسعى إلى اقتناص فرصة النجاح في أمريكا، واستغلال ديناميكية المجتمع، وولعه بالتغيير لخدمة مصالحه.
لا نقصد هنا تزكية أمريكا، أو مدح المجتمع لغرض المدح أو الإفراط فــي الثنــاء في غير محلِّــه، ولكــن الله - جل وعلا - علَّمنا أن «العدل أقرب إلى التقوى» وأن ظلــم أقـوام لا يجب أن يمنعنا من العدل في الحكم عليهم.
(باراك أوباما) يملك فرصة حقيقية في تغيير بعض السياسات الأمريكية، أو قليل منها، ومن المؤكد أنه سيسعى إلى ذلك، وهي فرصة حقيقية لأن نكون كياناً ضاغطاً في المجتمع الأمريكي لحماية مصالح الأمة والدفاع عنها؛ لكي يساهم في أن يكون التغيير القادم أكثر استجابة لقضايا أمتنا.
هناك تغيير حقيقي سيحدث في الولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل القريب، ولنا الخيار في أن نبقى مشاهدين، أو أن نغمض أعيننا وندعي عدم وجود أي تغيير، أو أن نقتنص الفرصة ونضغط بكل ما لدينا من إمكانات كي يحمل هذا التغيير بعض الخير، أو درجة أقل من الشرور تجاه مصالحنا وقضايانا. الخيار في ذلك لنا، وليس لـ (باراك أوباما)، والتغيير بلا شك قادم.
7 - ليس عنصرياً، ولن يستخدم ورقة العنصرية:
(أوباما) «أسود اللون» في بلد لم يتعود على احترام غير البيض. هذه حقيقة سادت في أمريكا طوال قرنين من الزمان، ولن تتغير فقط لأن الشعب الأمريكي اختار (أوباما) انتقاماً من بوش، أو للتعبير عن ضيقه من (جون ماكين) أو لإعجابه بإصرار (أوباما) أو لحاجته إليه بوصفه خياراً وحيداً متاحاً لحلِّ الأزمة الاقتصادية.
(باراك أوباما) لم يكن لينجح لولا أنه استخدم ورقة الخلفية العرقية بذكاء شديد لتحييد عنصرية البيض من ناحية، ولحشد الأنصار من الأقليات العرقية الأمريكية (سود، لاتينيين، عرب.. إلخ) من ناحية أخرى.
(أوباما) لم يتجاهل العنصرية، ولكنه طوَّعها لخدمة حملته الانتخابية، ومن المتوقع أن يستمر في محاولة استخدامها في مدة رئاسته أيضاً؛ لأنها تعطيه الكثير من الحماية، فمن السهل أن تهاجم كل من ينتقد (أوباما) على أنه «عنصري»، ومن السهل على (أوباما) أن يحشد الأقليات خلفه؛ لأنه «أسود»، وأن يحاول أن يقدم صورة جديدة عن الحياة الأمريكية يحتل فيها غير الأبيض مكانة طبيعية وإنسانية حُرِمَ منها طوال العقود الماضية بأشكال متعددة ومقززة أيضاً.
ستشهد أمريكا في المرحلة القادمة نوعاً من العنصرية المضادة؛ وذلك أن الأقليات العرقية ستمارس ما يمارسه (باراك أوباما) من الازدواجية في التعامل مع ورقة العرق؛ لتحييد العنصرية البيضاء ومهاجمتها من ناحية، وتقوية العنصرية العرقية السوداء من ناحية أخرى.
ستزحف هذه العنصرية المضادة بهدوء ولكن بدرجة متسارعة إلى المشهد الفكري والسياسي، وقد يكون لها تبعات خطيرة على تماسك المجتمع الأمريكي، أو على سلامة الرئيس القادم ونجاته من محاولات اغتيال تغذيها النظرة العنصرية، أو الانتقام العنصري.
(باراك أوباما) يستخدم ورقة العنصرية بذكاء شديد، ولكنها ورقة حساسة وخطرة، وقد يتحول استخدامها في المستقبل القريب إلى خطأ استراتيجي قاتل للرئاسة الأمريكية القادمة.
من المهم لنا أن نُحْسِن قراءة واقع العنصرية والعنصرية المضادة في الحياة الأمريكية، وتبعاتها السياسية والاجتماعية، ولا ننسى أن أغلب المسلمين في القارة الأمريكية هم من المسلمين «السود»، وقد يتحول تعاطفهم الشديد في هذه المرحلة مع (باراك أوباما) إلى نقمة شديدة مضادة إذا لم يشعروا أنه قد استجاب لطموحاتهم وقضاياهم بدرجة كافية أو بسرعة كافية، وقد يتسبَّب ذلك في إشعال فتيل العنصرية من ناحية، واتِّهام الإسلام بها من ناحية أخرى أيضاً.
من المهم أن يهتم الدعاة والمصلحون وقادة المجتمع المسلم في القارة الأمريكية بدراسة هذا الأمر، واختيار الأسلوب الأنسب للتعامل معه، مع إدراك أن (باراك أوباما) سيستخدم ورقة الخلفية العرقية بذكاء وبمخاطرة متصاعدة أيضاً.
8 - رئيس أمريكي، ونجاحه أو فشله شأن داخلي:
ظهرت أصوات وآراء متعددة في الإعلام العربي تنتقد الاهتمام بالانتخابات الأمريكية، وتركز على فكرة أن انتخابات أمريكا شأن داخلي لا يجب أن ننشغل به. ولا شك أن في ذلك بعض الصحة؛ لأن المغالاة في هذا الجانب قد تكون غير مبررة وغير نافعة أيضاً. لكن من المهم أن ندرك كذلك أن الرئاسة الأمريكية لم تعد شأناً داخلياً فقط، بل إنها تؤثر بقوة على مصالح وحقوق وقضايا عربية وإسلامية هامة وعاجلة وإنسانية أيضاً.
الرئيس الأمريكي القادم سيحتاج إلى علاج كارثة العراق، وإنهاء الاحتلال، والتعامل مع أزمة أفغانستان، وأزمات دارفور، وأسعار النفط، والأزمة المالية العالمية، وحقوق شعب فلسطين، واستمرار الهجوم الغربي على الإسلام، وكلها قضايا هامة ومحورية في حياة الكثير من أبناء مجتمعاتنا.
للرئيس الأمريكي القــادم دور رئيــس في التعــامل مع تلك الأزمات، وقد حدث ذلك - بلا شك - بسبب التدخــلات الأمريكية، وحدث بسبب العولمة أيضاً، ويرجع إلى أخطاء وقعت فيها أمتنا كذلك، ولكن المحصلة النهائية أن انتخاب الرئيس الأمريكي وشكل الإدارة القادمة هما من الاهتمامات التي لها بُعْد محلي واضح للمواطن العربي والمسلم؛ لذلك فإن نجاح هذا الرئيس القادم أو فشله لم يعد شأناً أمريكياً داخلياً فقط، بل إن تبعاته على قضايا الأمة ومصالحها واضحة.
9 - مُوَالٍ للوبي الصهيوني (إيباك) وسيخدم مصالحه:
ظهر في أمريكا في العام الماضي انقسام حاد داخل الكيانات الضاغطة الموالية للكيان الصهيوني حول أمرين، هما: هل من صالح ذلك الكيان الحرب أم السلام؟ والأمر الثاني: حول توظيف الدين في خدمة المشروع الصهيوني.
كما ظهر على الساحة الأمريكية في الأعوام الأخيرة تيار متعاطف مع الكيان الصهيوني، ولكنه معارض للوبي المعروف باسم (إيباك) (AIPAC).
التيار الجديد أعلن عن نفسه في العامين الماضيين تحت اسم (جي ستريت) (J-Street)، وهو تيار يرى أن خدمة مصالح الكيان الصهيوني تقتضي السعي نحو السلام، وأن الدين لا يجب توظيفه في خدمة «الدولة الصهيونية» لأن المشروع العَلْماني والليبرالي أقدر على خدمة مصالح ذلك الكيان.
وحدث مؤخراً نوع من الانقسام، أو لنقل: تقاسم الأدوار؛ بحيث إن (جي ستريت) أصبحت أكثر ارتباطاً بالتيار الديمقراطي في أمريكا، ومالت (إيباك) إلى مناصرة التيار الجمهوري بقوة أكبر.
تكمن أهمية الحديث عن ذلك في أن كلاً من (باراك أوباما) وكذلك نائبه (جوزيف بايدن) يميلان إلى التعاطف مع ذلك التيار الجديد، ويبادلهما تيار (جي ستريت) الإعجاب والتعاون والمساندة.
ومن المتوقع أن يكون تأثير هذا التيار على الإدارة الأمريكية القادمة أقوى وأكثر وضوحاً من تأثير اللوبي الصهيوني التقليدي المعروف بـ (إيباك).
ومن الخطأ أن نتصور أولاً أن (أوباما) لن يناصر الكيان الصهيوني، فهذا خطأ، ولكنه سيقدم أطروحة تميل إلى أن السلام هو الخيار الأفضل لمساندة ذلك الكيان، وليس المزيد من الحروب والعنف.
ومن الخطأ أيضاً أن نتصور أن (أوباما) و (بايدن) سيخضعان إلى كل أوامر (إيباك) فلن يحدث هذا بالضرورة، ولن يكون معناه حينها التخلي عن الكيان الصهيوني، وإنما دعـمـه بشكـل مخـتلـف، وبعيـداً بـدرجـة ما عـن تأثيـرات أو إملاءات (إيباك).
هذا التحول من المهم أن يُرصَد بشكل صحيح، وأن يتم التعرف على توجهات التيار الجديد الموالي للكيان الصهيوني، والمتعاطف مع اليسار ومع الحزب الديمقراطي؛ لأنها ظاهرة سياسية جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومجمل القول أن هناك العديد من المفاهيم المغلوطة والرهانات المخطئة حول (باراك أوباما)، وقد حاولنا في هذا المقال التعرض لبعض هذه المفاهيم، ولا شك أن الأحداث والأيام القادمة ستُظِهر المزيد من النقاط التي يجب أن تُصَحَّح، والرهانات المخطئة التي تحتاج إلى علاج، ولذلك؛ فإن هدف هذه الدراسة لم يتركز فقط على سرد المفاهيم المخطئة، وإنما الأهم هو التركيز على الحاجة إلى الفهم الصحيح للواقع والمتغيرات، وقراءة هذه اللحظة الفارقة قراءةً واعية، والاستفادة منها لصالح مجتمعنا العربي والإسلامي.
*عن مجلة البيان
د.باسم خفاجي
مع قرب انتهاء مدة الرئيس الأمريكي (جورج بوش) وتولِّي خَلَفِه (باراك أوباما) منصبَ الرئيس الأمريكي القادم في ظهر يوم 20 يناير من عام 2009م؛ تنتشر التحليلات السياسية والتوقعات الشعبية عن الدور الذي يمكن أن يلعبه الرئيس القادم في صياغة السياسة الأمريكية، وتنتشر مع هذه التحليلات الرهانات المخطئة والمفاهيم المغلوطة والرؤى المغالية؛ إما في التفاؤل أو التشاؤم، وتجر الأمة مع هذه التحليلات إلى الجنوح إما إلى المبالغة في السذاجة أو المبالغة في الولع بفكرة المؤامرة.
إننا بحاجة إلى قدر كبير من التعقُّل والاعتدال والبصيرة في التعامل مع أحداث الأعوام المقبلة.
أظهرت الأيام الماضية طَرَفَيْ نقيض في التعامل مع التوقعات حول إدارة (أوباما) القادمة:
فريقاً من المعجبين بشخصية (أوباما)، والظروف التي ساعدته على الوصول إلى أن يصبح «الرئيس المنتخب» القادم لأمريكا؛ أصبحوا يظنون أن أمريكا ستنفض عن كاهلها كل ما قامت به من جرائم خلال العقود الماضية، وأنها ستتحول في ليلة وضحاها إلى كيان عادل مناصر للعرب والمسلمين، ومحب للخير والسلام، وكأن الولايات المتحدة لم يكن يعيبها إلا إدارة (جورج بوش) ونائبه (ديك تشيني)، أو كأنهما لم يُنتخبا، وإنما جاءا ومعهما المحافظون الجدد في غفلة من التاريخ، أو رغم إرادة الناخب الأمريكي لفترتين رئاسيتين مع كل جرائمهم.
تصوُّرُ أن أمريكا ستتحول عن كل مواقفها الإستــراتيجية أو نزعاتها الإمبراطورية لمجرد انتخاب شخص يمكن الإعجاب به في البيت الأبيض، مقارنةً بالأحمق الذي يتولى المنصب حالياً؛ هو وَهْمٌ خادع ومضلل، وموقف مغالٍ في التفاؤل أيضاً.
أما الفريق الآخر - وبالدرجة نفسها من الجنوح بعيداً عن الحق - فإنه يرى أن أمريكا بلد «شيطاني» بالمطلق، وأنه لا يمكن أن يُرجَى منها أي درجة من الاعتدال، مهما تغيرت قناعات شعبها، أو أسفرت عنه نتائج انتخاباتها، وأنها صنيعة صهيونية وعميلة بالكامل للكيان الصهيوني، دون أدنى احتمال لأن يتغير هذا بأيِّ درجة أو بأيِّ نسبة، بصرف النظر عمن سيشغل البيت الأبيض، أو حتى بصرف النظر عن مصالح الولايات المتحدة نفسها. ويشعر هذا الفريق أن اختيار (أوباما) ليس إلا جزءاً من مؤامرة جديدة بشكل جديد على الشعوب العربية والإسلامية تحديداً، وأن (باراك أوباما) ليس إلا «شيطاناً» جديداً في ملمس ناعم، ولون جلد مختلف، ولكنه سيحمل الحقد نفسه على أمتنا، وسيلتزم بنمط السياسة المعادية لنا نفسه، وهو موقف مخطئ ومغالٍ في التشاؤم أيضاً.
هناك خطورة من أن تتحول الأمة عن الوسط والاعتدال إلى أقصى درجات التفاؤل، أو أقصى درجات التشاؤم والانفعال. نحن بحاجة إلى الفهم قبل الحكم، وإلى إدراك طبيعة اللحظة الراهنة في الحياة الأمريكية، وفي المتغيرات الدولية، وفي نتائج العولمة وتبعاتها، وأثر كل ذلك على الإدارة الأمريكية القادمة، وعلى مصالح أمتنا وحقوقها ومبادئها، وكيف يمكن توظيف الفهم الصحيح للواقع الدولي من أجل صحة الحكم على المجريات، وحسن الاستفادة منها لما ينفع المجتمعات العربية والمسلمة.
هناك مفاهيم مغلوطة ورهانات مخطئة حول (باراك أوباما) يجب أن نعمل على سرعة تصحيحها حتى لا تتحول إلى مسلَّمات تجعل الرؤية الصحيحة للواقع الدولي عسيرة وغير ناضجة، ومن هذه الرهانات المخطئة أن (أوباما):
1 - نصير العرب والمسلمين:
لا شك أن (باراك أوباما) هو الرئيس الأمريكي الأول في تاريخ الولايات المتحدة الذي عرف عن الإسلام، وعاش مدة من حياته في ديار المسلمين، وتفهَّم قبل وصوله إلى الحكم بمدة طويلة رؤية العرب والمسلمين للعديد من القضايا، وعلى رأسها حقوق الشعب الفلسطيني.
تحدث (أوباما) مراراً عن ذلك، وعن علاقاته الشخصية بشخصيات فلسطينية معادية للكيان الصهيوني، وهذا بالتأكيد أمر مهم وجديد على ساكني البيت الأبيض، ولكن في المقابل لا بد من وضع أمرين في الحسبان:
الأمر الأول: أن (باراك أوباما) قد نجح في هذه اللحظة الفارقة في الحياة الأمريكية لأنه ضد (جورج بوش) ولأنه حاول أن يظهر على أنه يركز على مصالح الشعب الأمريكي أولاً، وهو كذلك غير مدين للقوى الضاغطة الأمريكية بانتخابه، وهي سابقة حقيقية في الحياة الأمريكية، وقد تجعل منه شخصاً متحرراً بدرجة محدودة من تلك الضغوط.
الأمر الثاني: أنه استجاب بدرجة ما إلى الضغوط التي يمارسها اللوبي الصهيوني منذ شهور عليه، وأظهر اختيــاره لـ (رام إيمانويل - وهو سياسي أمريكي متعاطف بقوة مع الدولة الصهيونية) لمنصب كبير موظفي البيت الأبيض؛ أنه لن يكون بمنأى عن تلك الضغوط الصهيونية طوال مدة رئاسته، وحتى قبل أن تبدأ، كما أنه اختار (جوزيف بايدن) لمنصب نائب الرئيس، وهو شخصية معروفة بولائها المعلن لمصالح الكيان الصهيوني.
لن يكون (باراك أوباما) نصيراً للعرب والمسلمـين؛ لأنـه لا يفترض فيه أن يكون كذلك ابتداء، ولأننا لن نمارس ضغطاً استراتيجياً مقابلاً للضغوط الصهيونية التي تجري ممارستها منذ ظهر احتمال وصول (أوباما) إلى البيت الأبيض، وهنا مربط الفرس لنا.
(أوباما) قد يستجيب للضغوط من الموالين لمصالح العرب والمسلمين، ولو بدرجة بسيطة، ولكن إن لم نحمل نحن قضايانا إليه، ونحارب من أجل إدراجها ضمن أولويات إدارته، ونجتهد في أن يفهم العالم حقوق شعبنا في فلسطين على سبيل المثال؛ فلن يناصرنا أحد في هذه الإدارة الأمريكية القادمة أو أي إدارة أخرى لمجرد أن الحق بجانبنا. نحن بحاجة إلى القوة التي تخدم الحق، والمنطق القادر على الدفاع عن الحق، والضغوط الملزمة للآخرين للاستجابة بدرجة ما لمطالبنا وليس بالضرورة لحقوقنا.
من أجل كل ما سبق لا نتوقع ولا نفترض أن يكون (أوباما) نصيراً للعرب والمسلمين، ولا نظن في المقابل أنه سيكون صديقاً مخلصاً للكيان الصهيوني.
سيحاول (باراك أوباما) أن يتوازن في هذه المسألة بالشكل الذي لا يضرر برئاسته أولاً، ولا يؤثر على فرصة إعادة انتخابه ثانياً، ولا يضر بمصالح الولايات المتحدة ثالثاً، ولا يتعارض مع مبادئه الأخلاقية والسياسية في الدرجة الرابعة والأخيرة.
2 - سينفذ وعوده الانتخابية:
يظن المعجبون بـ (باراك أوباما) في العالم العربي والإسلامي أن التزاماته الأخلاقية والحزبية أيضاً ستفرض عليه أن يلتزم بكل ما قطعه على نفسه من وعود خلال حملته الانتخابية؛ لذلك سينسحب من العراق، وسيعيد الحقوق المدنية الأمريكية إلى ما كانت عليه قبل الحادي عشر من سبتمبر 2001م، وقد يلتزم أيضاً بالحوار مع إيران وأفغانستان.
الوعود الانتخابية غير ملزمة للرئيس عند انتخابه، ولم يحدث في تاريخ أي رئيس أمريكي أن حقق كل ما وعد به، والتزم بتنفيذه في حملته الانتخابية، بعد أن نجح في الوصول إلى مقعد الرئاسة. هذا هو الواقع، ولا يجب أن نغرق في التفاؤل بشأن ما سينفذه (أوباما) من وعود.
ومن ناحية أخرى؛ يجب أن يدرك هذه النقطة نفسها فريق المتشائمين في أمتنا، ومن يظنون أنه لمجرد أن (أوباما) ذكر في خطابه لدى اللوبي الصهيوني (إيباك) أنه سيلتزم بأن تكون القدس الموحدة عاصمة للدولة الصهيونية؛ أنه سيفعل ذلك بالتأكيد.
(جورج بوش) قطع على نفسه وعلى إدارته الوعد نفسه، ولم يحققه، وفعل مثله (بيل كلينتون)، ولم يلتزم به، ومن المتوقع أن يسير (باراك أوباما) على النهج نفسه أيضاً. ولن يكون (أوباما) بالضرورة صنيعة في يد اللوبي الموالي للدولة الصهيونية؛ لأنه ليس مديناً لهم، ولكنه يدرك حجم تأثيرهم وقوتهم، ومن ثم سيضع ذلك في حسبانه بالتأكيد.
من المهم أن ندرك أن هدف الوعود الانتخابية في الحياة الأمريكية هو تقديم أفضل صورة ممكنة لسياسات المرشح الانتخابي، وأن الواقع بعد نجاح هذا المرشح يختلف كثيراً عن مدة الحملة الانتخابية، وأن بعض الوعود تُقطَع لا لكي تُنفَّذ، ولكن لكي يُنتخب المرشح.
بالتأكيد هذا أمر غير أخلاقي، ولكنه متكرر ومعروف وشائع في الحياة السياسية الأمريكية، ولا يُتوقع أن يكون (باراك أوباما) مختلفاً كثيراً عن تصرفات السياسي التقليدي الأمريكي في هذا الشأن.
ليس وارداً أن ينفذ (أوباما) جميع الوعود الانتخابية التي يحلم بها المتفائلون في مجتمعاتنا، ولا أن ينفذ كذلك كل الوعود التي يخشى من تنفيذها المتشائمون في عالمنا العربي والإسلامي. سينفذ (أوباما) ما يفيده من الوعود التي قطعها، وما يمكن له عملياً أن ينفذه بقدر مناسب من المخاطرة السياسية، وليس أكثر من ذلك.
3 - عديم الخبرة وضعيف الشخصية:
يعتقد بعض الناس أن الخبرة شرط أساسي في الرئاسة الأمريكية، ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الإدارة الأمريكية تعمل وَفْق نظام مُحْكَم يسمح لمن لا يتمتع بالخبرة الكافية أن يحصل عليها في وقت قياسي، وبشكل لا يضر كثيراً بقوة الإدارة نفسها.
الأهم من الخبرة هو الحكمة السياسية والقدرة على اختيار القرار الصحيح من الخيارات المتاحة، وبُعْد النظر، وهي أمور لا ينالها الإنسان بالخبرة فقط. أظهر (باراك أوباما) في سباق الرئاسة أن لديه من الصفات الشخصية ما يؤهله للمنصب، وهو بالتأكيد ليس ضعيف الشخصية كما يحلو لبعضهم في الإعلام العربي أن يصفه.
الكثير من الرؤساء الأمريكيين في السابق لم تكن لديهم مؤهلات كافية لحكم الولايات المتحدة، ومنهم (رونالد ريجان) على سبيل المثال، و (جون كنيدي) كذلك، ولكنهم حققوا لبلادهم ما تعدُّه أمريكا نجاحات لها، وسيكون (باراك أوباما) من هذا النوع من الرؤساء الأمريكيين ممن يجيد إخفاء حداثة التجربة السياسية تحت عباءة النظرة الثاقبة وإدراك احتياجات الناخب الأمريكي والاستجابة لها.
من المخاطرة الاستغراق في فكرة أن نقص الخبرة وضعف الشخصية سيكونان من عيوب الإدارة القادمة. إن أسلوب إدارة الحملة الرئاسية لـ (باراك أوباما) يؤكد قدرته على أن يحيط نفسه بأفضل العقول المتاحة له، وأن يحسن الاستفادة من مجموع خبراتهم، وأن يوظفها لتحقيق الانتصارات لأهدافه هو، وليس لأهداف مَنْ حوله بالضرورة.
4 - ليبرالي عَلْماني:
يُعرَف الحزب الديمقراطي الأمريكي بأنه الحزب الذي يرفع راية الليبرالية الأخلاقية والاجتماعية، وأنه كذلك يناصر حركات الشواذ والحركة النسوية، وإبعاد الدين عن الحياة، والفصل الكامل بين الدين والسياسة، والدعوة إلى الحريات المطلقة. كل ذلك صحيح بالمجمل، ولكنه لا يعني بالضرورة أن جميع مَنْ في الحزب الديمقراطي يعتنقون هذه الأفكار كاملة، أو يدافعون عنها.
يوجد ضمن الحزب الديمقراطي تيار ناشط يجب الاهتمام برصده، ينتمي إليه (باراك أوباما)، هو تيار الوسط الذي يميل إلى الجانب المحافظ، كما أن في الحزب الديمقراطي العديد من التوجهات الأخرى ولها العديد من المسميات، وبعضها يندرج بالعموم تحت شعار «الديمقراطيين المحافظين»، وبعضها يندرج تحت التوجهات الليبرالية الأكثر ميلاً نحو العَلْمانية.
ويسمى التيار الذي ينتمـي إليـه (بـاراك أوبامـا) أحياناً بـ «اليسار الجديد»، ويطلق على مجموعة منهم أكثر محافظة داخل أروقة الكونجرس الأمريكي أيضاً مسمى «الكلاب الزرق - Blue Dogs»، وكلها في النهاية تدل على تيار يميل إلى الليبرالية في مجالات السياسة وبعض مناحي الاقتصاد، ولكنه تيار أقرب إلى التقاليد المحافظة في الموضوعات الاجتماعية والحقوقية والدينية أيضاً.
التيار الذي ينتمي إليه (باراك أوباما) داخل الحزب الديمقراطي تفوَّق على التيار الليبرالي التقليدي في الحزب، والذي تنتمي إليه (هيلاري كلينتون)، وكانت هذه الانتخابات الرئاسية تمثل ليس فوز الديمقراطيين على الجمهوريين وحسب، وإنما أيضاً فوز التيار الديمقراطي الوسطي والمحافظ داخل الحزب الديمقراطي على التيار الليبرالي العَلْماني اليساري في الحزب نفسه.
نحتاج في العالم العربي والإسلامي إلى عدد من الدراسات حول تيار «اليسار الجديد»، والمؤسسات الداعمة له، وتوجهاته الفكرية، ومراكز الفكر التي تدعمه، والقوى الضاغطة التي تعبِّر عن مصالحه؛ حتى نستطيع التعامل مع الإدارة الأمريكية القادمة. كما أننا بحاجة إلى دراسات حول فكر تيار «الديمقراطيين المحافظين»؛ لأن من المتوقع أن يقاوم هذا التيار بعض أفكار (باراك أوباما) في التحرير الاقتصادي ومواجهة الأزمات المالية في أمريكا وخارجها. هذه الدراسات تعدّ أولوية هامة في المرحلة الراهنة؛ حتى لا نقع في خطأ تصنيف (باراك أوباما) في إطار فكري يختلف عن منهجه وتصوراته، وسينبني على ذلك عدم إجادة التعامل مع تلك الإدارة الديمقراطية القادمة.
(أوباما) ليس ليبرالياً عَلْمانياً بالمفهوم الشائع لهذا المصطلح، ولكنه ديمقراطي يميل إلى الوسط اقتصادياً وسياسياً، ويميل إلى الفكر الديمقراطي المحافظ في المجالات الاجتماعية، ولا يعني ذلك التوصيف أنه أفضل من التوصيف الأول أو أسوأ، ولكنه مختلف بالتأكيد، ومن هنا يقع بعضهم في الرهان المخطئ على ما يمكن أن يفعله أو لا يفعله الرئيس (باراك أوباما) بعد أن يتولى المنصب الرئاسي.
5 - ستكون إدارته القادمة «عادلة»:
يتخيَّل بعض المتفائلين أن غضب الشارع الأمريكي من الظلم الفادح الذي ارتكبته الإدارة الأمريكية الحالية في العديد من بقاع العالم، وحتى داخل الولايات المتحدة نفسها؛ سوف يفرز بالتأكيد إدارة جديدة «عادلة»، وهذا وَهْمٌ بالتأكيد. العدل مع الآخرين لم يكن يوماً من محددات أي إدارة أمريكية أو أي سياسة خارجية.
تحاول أمريكا دائماً أن تتغنى بتلك القيم الأخلاقية السامية، ولكن يدرك الجميع أن الدور الأهم لساكن البيت الأبيض هو الحفاظ على تفوُّق الولايات المتحدة، وأن «العدالة» مع الآخرين تقف في كثير من الأحيان عائقاً أمام تحقيق هذا التفوُّق، وأن الأهم في تلك المواقف أن تحافظ أمريكا على تفوُّقها، وليس على عدالتها.
لن تختلف الإدارة الأمريكية القادمة عن الإدارات الأمريكية السابقة في هذا التصور الاستراتيجي والمبدئي، وهو أن العدالة مع الدول الأخرى تأتي تالية للحفاظ على المصالح الأمريكية الحيوية والقومية.
هناك بعض التفاؤل بأن الظلم لن يمارس بالشكل الفاضح وغير الأخلاقي الذي مارسته الإدارة الحالية، وهذا صحيح بالمجمل، ولكن السياسات الأمريكية لن تكون أبداً «عادلة»، على الأقل في المنظور الزمني القريب، وستبقى أمريكا دائماً بلداً يقدِّر القوة ويعشقها، ويستجيب للأقوياء، ويرى منظار العدل بشكل نسبي، مرتبطاً بالقوة بدرجة كبرى، وبمصالح أمريكا بالتأكيد أيضاً.
6 - لن يستطيع تغيير أي سياسة أمريكية:
هناك من يراهن على أن ما فعله المحافظون الجدد طوال السنوات الماضية لا يمكن تغييره في إدارة (باراك أوباما) القادمة؛ لأن التغيير الذي حدث كان عميقاً داخل العقلية الأمريكية، وداخل المؤسسات الحاكمة بأكملها، ولأن المحافظين الجدد لن يتخلوا عن السلطة ببساطة للقادم الجديد من التيار الفكري المضاد لهم.
ويرى هذا الفريق أن (باراك أوباما) لن ينجح بوصفه فرداً في تغيير أساليب الحكم الأمريكية القائمة؛ لأنها تتجاوز الأفراد؛ فأمريكا كيان مؤسسي لا يستطيع الفرد أن يغيِّر فيه كثيراً، ومن أجل ذلك؛ فإن هذا الفريق يرى أن أيَّ تفاؤل حول التغيُّر في السياسات الأمريكية هو مجرد وَهْم وتخدير للعقول، وإساءة قراءة للواقع الأمريكي.
وهنا يطالعنا خطأ متكرر يقع فيه بعض المحللين والمراقبين في عالمنا العربي والإسلامي، وهو إساءة قراءة اللحظة، والاعتماد على الأحكام المجملة والمطلقة في فهم مجتمع ديناميكي متغير ومختلف تماماً عن المجتمعات التي أَلِفْناها، ويتخيل هؤلاء أن أمريكا في النهاية لا تختلف عن غيرها كثيراً.
لست ممن يؤمنون بالاستثنائية أو التفرد الأمريكي، ولكنه بالقطع مجتمع مختلف عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية؛ فالمجتمع الأمريكي فيه الكثير من العيوب، ولكنه يتمتع بمميزات فريدة حققت للولايات المتحدة الأمريكية نهضتها المدنية والعمرانية والتقنية، وساهمت في قوتها السياسية والعسكرية أيضاً، ومن أهمِّ تلك المميزات الفريدة: قدرة الفرد في أمريكا على التغيير.
إذا أُتيحت للفرد في أمريكا فرص التغيير، وأحسن استغلالها؛ فيمكنه أن يحقق نقلات كبيرة في الحياة الأمريكية، وينطبق ذلك على السياسيين ورجال الدين ورجال الأعمال، وكل من يسعى إلى اقتناص فرصة النجاح في أمريكا، واستغلال ديناميكية المجتمع، وولعه بالتغيير لخدمة مصالحه.
لا نقصد هنا تزكية أمريكا، أو مدح المجتمع لغرض المدح أو الإفراط فــي الثنــاء في غير محلِّــه، ولكــن الله - جل وعلا - علَّمنا أن «العدل أقرب إلى التقوى» وأن ظلــم أقـوام لا يجب أن يمنعنا من العدل في الحكم عليهم.
(باراك أوباما) يملك فرصة حقيقية في تغيير بعض السياسات الأمريكية، أو قليل منها، ومن المؤكد أنه سيسعى إلى ذلك، وهي فرصة حقيقية لأن نكون كياناً ضاغطاً في المجتمع الأمريكي لحماية مصالح الأمة والدفاع عنها؛ لكي يساهم في أن يكون التغيير القادم أكثر استجابة لقضايا أمتنا.
هناك تغيير حقيقي سيحدث في الولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل القريب، ولنا الخيار في أن نبقى مشاهدين، أو أن نغمض أعيننا وندعي عدم وجود أي تغيير، أو أن نقتنص الفرصة ونضغط بكل ما لدينا من إمكانات كي يحمل هذا التغيير بعض الخير، أو درجة أقل من الشرور تجاه مصالحنا وقضايانا. الخيار في ذلك لنا، وليس لـ (باراك أوباما)، والتغيير بلا شك قادم.
7 - ليس عنصرياً، ولن يستخدم ورقة العنصرية:
(أوباما) «أسود اللون» في بلد لم يتعود على احترام غير البيض. هذه حقيقة سادت في أمريكا طوال قرنين من الزمان، ولن تتغير فقط لأن الشعب الأمريكي اختار (أوباما) انتقاماً من بوش، أو للتعبير عن ضيقه من (جون ماكين) أو لإعجابه بإصرار (أوباما) أو لحاجته إليه بوصفه خياراً وحيداً متاحاً لحلِّ الأزمة الاقتصادية.
(باراك أوباما) لم يكن لينجح لولا أنه استخدم ورقة الخلفية العرقية بذكاء شديد لتحييد عنصرية البيض من ناحية، ولحشد الأنصار من الأقليات العرقية الأمريكية (سود، لاتينيين، عرب.. إلخ) من ناحية أخرى.
(أوباما) لم يتجاهل العنصرية، ولكنه طوَّعها لخدمة حملته الانتخابية، ومن المتوقع أن يستمر في محاولة استخدامها في مدة رئاسته أيضاً؛ لأنها تعطيه الكثير من الحماية، فمن السهل أن تهاجم كل من ينتقد (أوباما) على أنه «عنصري»، ومن السهل على (أوباما) أن يحشد الأقليات خلفه؛ لأنه «أسود»، وأن يحاول أن يقدم صورة جديدة عن الحياة الأمريكية يحتل فيها غير الأبيض مكانة طبيعية وإنسانية حُرِمَ منها طوال العقود الماضية بأشكال متعددة ومقززة أيضاً.
ستشهد أمريكا في المرحلة القادمة نوعاً من العنصرية المضادة؛ وذلك أن الأقليات العرقية ستمارس ما يمارسه (باراك أوباما) من الازدواجية في التعامل مع ورقة العرق؛ لتحييد العنصرية البيضاء ومهاجمتها من ناحية، وتقوية العنصرية العرقية السوداء من ناحية أخرى.
ستزحف هذه العنصرية المضادة بهدوء ولكن بدرجة متسارعة إلى المشهد الفكري والسياسي، وقد يكون لها تبعات خطيرة على تماسك المجتمع الأمريكي، أو على سلامة الرئيس القادم ونجاته من محاولات اغتيال تغذيها النظرة العنصرية، أو الانتقام العنصري.
(باراك أوباما) يستخدم ورقة العنصرية بذكاء شديد، ولكنها ورقة حساسة وخطرة، وقد يتحول استخدامها في المستقبل القريب إلى خطأ استراتيجي قاتل للرئاسة الأمريكية القادمة.
من المهم لنا أن نُحْسِن قراءة واقع العنصرية والعنصرية المضادة في الحياة الأمريكية، وتبعاتها السياسية والاجتماعية، ولا ننسى أن أغلب المسلمين في القارة الأمريكية هم من المسلمين «السود»، وقد يتحول تعاطفهم الشديد في هذه المرحلة مع (باراك أوباما) إلى نقمة شديدة مضادة إذا لم يشعروا أنه قد استجاب لطموحاتهم وقضاياهم بدرجة كافية أو بسرعة كافية، وقد يتسبَّب ذلك في إشعال فتيل العنصرية من ناحية، واتِّهام الإسلام بها من ناحية أخرى أيضاً.
من المهم أن يهتم الدعاة والمصلحون وقادة المجتمع المسلم في القارة الأمريكية بدراسة هذا الأمر، واختيار الأسلوب الأنسب للتعامل معه، مع إدراك أن (باراك أوباما) سيستخدم ورقة الخلفية العرقية بذكاء وبمخاطرة متصاعدة أيضاً.
8 - رئيس أمريكي، ونجاحه أو فشله شأن داخلي:
ظهرت أصوات وآراء متعددة في الإعلام العربي تنتقد الاهتمام بالانتخابات الأمريكية، وتركز على فكرة أن انتخابات أمريكا شأن داخلي لا يجب أن ننشغل به. ولا شك أن في ذلك بعض الصحة؛ لأن المغالاة في هذا الجانب قد تكون غير مبررة وغير نافعة أيضاً. لكن من المهم أن ندرك كذلك أن الرئاسة الأمريكية لم تعد شأناً داخلياً فقط، بل إنها تؤثر بقوة على مصالح وحقوق وقضايا عربية وإسلامية هامة وعاجلة وإنسانية أيضاً.
الرئيس الأمريكي القادم سيحتاج إلى علاج كارثة العراق، وإنهاء الاحتلال، والتعامل مع أزمة أفغانستان، وأزمات دارفور، وأسعار النفط، والأزمة المالية العالمية، وحقوق شعب فلسطين، واستمرار الهجوم الغربي على الإسلام، وكلها قضايا هامة ومحورية في حياة الكثير من أبناء مجتمعاتنا.
للرئيس الأمريكي القــادم دور رئيــس في التعــامل مع تلك الأزمات، وقد حدث ذلك - بلا شك - بسبب التدخــلات الأمريكية، وحدث بسبب العولمة أيضاً، ويرجع إلى أخطاء وقعت فيها أمتنا كذلك، ولكن المحصلة النهائية أن انتخاب الرئيس الأمريكي وشكل الإدارة القادمة هما من الاهتمامات التي لها بُعْد محلي واضح للمواطن العربي والمسلم؛ لذلك فإن نجاح هذا الرئيس القادم أو فشله لم يعد شأناً أمريكياً داخلياً فقط، بل إن تبعاته على قضايا الأمة ومصالحها واضحة.
9 - مُوَالٍ للوبي الصهيوني (إيباك) وسيخدم مصالحه:
ظهر في أمريكا في العام الماضي انقسام حاد داخل الكيانات الضاغطة الموالية للكيان الصهيوني حول أمرين، هما: هل من صالح ذلك الكيان الحرب أم السلام؟ والأمر الثاني: حول توظيف الدين في خدمة المشروع الصهيوني.
كما ظهر على الساحة الأمريكية في الأعوام الأخيرة تيار متعاطف مع الكيان الصهيوني، ولكنه معارض للوبي المعروف باسم (إيباك) (AIPAC).
التيار الجديد أعلن عن نفسه في العامين الماضيين تحت اسم (جي ستريت) (J-Street)، وهو تيار يرى أن خدمة مصالح الكيان الصهيوني تقتضي السعي نحو السلام، وأن الدين لا يجب توظيفه في خدمة «الدولة الصهيونية» لأن المشروع العَلْماني والليبرالي أقدر على خدمة مصالح ذلك الكيان.
وحدث مؤخراً نوع من الانقسام، أو لنقل: تقاسم الأدوار؛ بحيث إن (جي ستريت) أصبحت أكثر ارتباطاً بالتيار الديمقراطي في أمريكا، ومالت (إيباك) إلى مناصرة التيار الجمهوري بقوة أكبر.
تكمن أهمية الحديث عن ذلك في أن كلاً من (باراك أوباما) وكذلك نائبه (جوزيف بايدن) يميلان إلى التعاطف مع ذلك التيار الجديد، ويبادلهما تيار (جي ستريت) الإعجاب والتعاون والمساندة.
ومن المتوقع أن يكون تأثير هذا التيار على الإدارة الأمريكية القادمة أقوى وأكثر وضوحاً من تأثير اللوبي الصهيوني التقليدي المعروف بـ (إيباك).
ومن الخطأ أن نتصور أولاً أن (أوباما) لن يناصر الكيان الصهيوني، فهذا خطأ، ولكنه سيقدم أطروحة تميل إلى أن السلام هو الخيار الأفضل لمساندة ذلك الكيان، وليس المزيد من الحروب والعنف.
ومن الخطأ أيضاً أن نتصور أن (أوباما) و (بايدن) سيخضعان إلى كل أوامر (إيباك) فلن يحدث هذا بالضرورة، ولن يكون معناه حينها التخلي عن الكيان الصهيوني، وإنما دعـمـه بشكـل مخـتلـف، وبعيـداً بـدرجـة ما عـن تأثيـرات أو إملاءات (إيباك).
هذا التحول من المهم أن يُرصَد بشكل صحيح، وأن يتم التعرف على توجهات التيار الجديد الموالي للكيان الصهيوني، والمتعاطف مع اليسار ومع الحزب الديمقراطي؛ لأنها ظاهرة سياسية جديدة في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومجمل القول أن هناك العديد من المفاهيم المغلوطة والرهانات المخطئة حول (باراك أوباما)، وقد حاولنا في هذا المقال التعرض لبعض هذه المفاهيم، ولا شك أن الأحداث والأيام القادمة ستُظِهر المزيد من النقاط التي يجب أن تُصَحَّح، والرهانات المخطئة التي تحتاج إلى علاج، ولذلك؛ فإن هدف هذه الدراسة لم يتركز فقط على سرد المفاهيم المخطئة، وإنما الأهم هو التركيز على الحاجة إلى الفهم الصحيح للواقع والمتغيرات، وقراءة هذه اللحظة الفارقة قراءةً واعية، والاستفادة منها لصالح مجتمعنا العربي والإسلامي.
*عن مجلة البيان