مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2020/05/27 11:04
الإرهابُ الفِقْهِيُّ في بلادنا إلى أين ؟!
 
أبو سعيد الصياد
محمد الأول إبراهيم النيجيري
قد يبدو العنوان غريبا بعض الشيء لبعض الناس ، لكنه حقيقة نعايشها و واقع نلمسه في الحياة الدعوية شمال البلاد .
من المقرر لدى علماء الفقه الإسلامي و طلابه أن الخلاف في المسائل الفرعية واقع لا يرفض ، و حقيقة لا تدفع ، و أنه شاءت حكمة الله تعالى أن تكون المسائل القطعية والظنية مقصودة لدى الشارع لحكمة بالغة قضاها ، و لو شاء لجعلها قطعيات كلها واضحات ،فيتساوى في إدراكها الصغير والكبير ، والعالم والجاهل على حد سواء  ، يقول الشاطبي - رحمه الله - : فإن الله - تعالى - حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار و مجالا للظنون ، و قد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة ، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف ، لكن في الفروع دون الأصول ، و في الجزئيات دون الكليات ، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف ) . و قال الزركشي - رحمه الله - : ( اعلم أن الله لم ينصب على جميع الأحكام الشرعية أدلة قاطعة ، بل جعلها ظنية قصدا للتوسع على المكلفين ، لئلا ينحصروا في مذهب واحد لقيام الدليل القاطع ... ) و كلام أرباب الفقه و علماء الملة في هذا كثير لا يحصى .
إن المتأمل لما يجري الحديث عنه من مسائل الخلاف في الساحة الدعوية شمال البلاد - بين الفينة والأخرى -  ليرى عجبا عجابا ، خصومةً جهلاءَ ، و عصبيةً عَمياء ، و رعونة في التفكير ، و تَحَمُّلاً بِلا مبرر ، و قتالا في غير ميدان القتال ، و جهلاً أصلعَ له قرنان ينهش في جسم العامة بلا هوادة ، حتى غدت عندنا خلافات موسمية ، و عند حلولها في كل عام تشتكي المسائل إلى باريها تطاولَ الدهماء و الجهلاء عليها ، فالساحة تشتعل ردودا و خصومة ما اجمعت الجمعة و العيد في يوم واحد ، و حول جواز إخراج زكاة الفطر بالقيمة من عدمه معركة أخرى ، ثم جاءت قضية إغلاق المساجد جراء وباء الكورونا ليزداد الخلاف اتساعا ، ثم تلتها قضية رؤية شهر شوال لهذا العام ، لتزيد الطينة بلة ، حيث أن جهات زعمت أنها رأت هلال شوال في التاسع والعشرين من رمضان ، و أنها أبلغت الجهة المعنية برصد الهلال و إعلانه و لم ترفع لذلك رأسا ، فأفطر أولئك في اليوم التالي ، و صام جماهير الناس الثلاثين ، فأفطروا بعد أولئك بيوم عملا بإعلان الجهة الرسمية ، فحمي إثر ذلك وطيس الخلاف و الردود ، فتقاذف الناس و تلاسنوا ، واتهم بعضهم بعضا في دينه ، و خون بعضهم بعضا .
على أنه ليس مشكلة أن يجري الاختلاف في مسائل كهذه ، لكن المشكلة تكمن في افتقادنا لأدب الخلاف ، والتشنيع على المخالف في مسائل فقهية فرعية يسوغ فيها الخلاف ، واتهام الناس في دينهم ونياتهم ، و توظيف مسائل الخلاف للتشفي من المخالف لموقف عدائي سابق .
و أنت ترى في هذه الدومة الفوضوية افتقاد أولئك المتحرشين  لبوصلة الأولويات ، و إشغالهم العامة بما لا يعود عليها بخير في دينها أو دنياها ، و حمل الناس على رأي فقهي واحد مع إصرار على تجاهل آراء فقهية معتبرة مخالفة ، أو التقليل من شأنها ، و لسان حال هؤلاء يتناغم مع المنطق الفرعوني المستبد ( ما أريكم إلا ما أرى ) و يتماشى كذلك مع عقلية الجبابرة ( إن لم تكن معي فأنت عدوي ) إرهاب فقهي رهيب ! يعمل على توسعة رقعة الخلاف في الأمة ، و يعمق جراحها ، و يشتت أبناءها المشتتين ، يُفَرق و لا يُجَمِّع ، و يفسد و لا يُصلح ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( و أما الاختلاف في الأحكام فأكثرُ من أن ينضبط ، و لو كان كلما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة و لا أخوة  ) .
فما أحوجنا إلى استحضار أدب الخلاف حين الخلاف ، والتشبع بثقافته ، و تدريسه لطلابنا و نشره بين العامة سَعيا في تضييق منطقة الخلاف ما أمكن بين المسلمين  ، و هم يواجهون حربا كونية تسعى لاجتثاثهم من الوجود واستئصال شأفتهم و إبادة خضراءهم .
فالله نسأل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد ، و أن يهدينا و إياكم سواء السبيل ، و صلى الله و سلم على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم .
 

أضافة تعليق