مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2025/08/05 15:08
العصبية اليهودية: من التماسك الصُلْب إلى الروح المُنقسمة

في مكان ما من شوارع نيويورك أو لندن، يقف شابّان يهوديان في طرفي نقيض في تظاهرة صاخبة. أحدهما يلفّ نفسه بالعلم الإسرائيلي، والآخر يرفع لافتة كتب عليها "ليس باسمنا". كلاهما يستدعي تاريخه وقيمه، وكلاهما يرى في الآخر خائناً. هذه ليست مجرّد صورة عابرة، بل هي لقطة مكثّفة لأعمق أزمة وجودية تعصف بالمجتمع اليهودي الحديث منذ سبعة عقود. إنها قصّة "عصبية" كانت تبدو يوماً ما صلبة كالفولاذ، واليوم تتآكل وتتصدّع تحت وطأة "طوفان ثقافي" كشف تناقضاتها الكامنة، مهدّداً بجرّها نحو مستقبلٍ من الانقسامات العميقة. لفهم كيف وصلنا إلى هنا، وما السيناريوهات التي تتربّص بهذه الكتلة البشرية، لا بدّ من العودة إلى جذور هذا التماسك وكيفية تشكّله.
لم تكن العصبية اليهودية الحديثة، التي سادت في النصف الثاني من القرن العشرين، مجرّد امتدادٍ طبيعي لروابط الدين والتاريخ القديمة. بل كانت بناءً نفسياً وسياسياً حديثاً، شُيّد على أنقاض أكبر صدمة في تاريخ اليهود. قام هذا الحصن المنيع على ثلاثة أعمدة رئيسية. أولها صدمة المحرقة (الهولوكوست)، التي كانت الجرح التأسيسي الذي شكّل الوعي اليهودي المعاصر. لقد غرست في اللاوعي الجمعي إحساساً عميقاً بالهشاشة والخطر الوجودي، وولّدت عقيدة "لن يتكرّر هذا أبداً". أصبحت هذه العقيدة بمثابة البوصلة الأخلاقية، وفُسّرت (في المقام الأول) واجباً لحماية الذات اليهودية من أي تهديد مقبل. وإذا كانت المحرقة هي الصدمة، فإن قيام دولة إسرائيل كان الردّ العلاجي. قُدّمت إسرائيل حلّاً مادياً وسياسياً لمسألة الضعف والشتات، وضمانة ملموسة لكيلا يتكرّر التاريخ. تحوّلت الدولة بسرعة من مجرّد مشروع سياسي إلى مركز عاطفي وروحي ليهود العالم. أصبح الولاء لها، ودعمها سياسياً ومادياً، جزءاً من الهُويَّة اليهودية في الشتات، وتحديداً في الغرب.

تقف العصبية اليهودية في حالة سيولة خطيرة، إذ يستنزف الصراع الداخلي طاقتها. لم يعد السؤال: هل سيحدث انقسام؟ بل: ما هو شكل الانقسام المقبل؟

أما العمود الثالث فكان معاداة السامية عامل توحيد، فسواء كانت معاداة السامية حقيقية أو متخيّلة، فقد شكّلت جداراً خارجياً ضغط على الأفراد للالتصاق بالكتلة. أي نقد لإسرائيل كان يوضع بسهولة في هذا الإطار، ما يقيم آلية دفاعية قوية تجعل من الصعب على أي فرد من الداخل أن يخرج عن إجماع الجماعة خوفاً من اتهامه بالخيانة أو "كراهية الذات".
أوجدت هذه الأعمدة الثلاثة "أخلاقية بقاء" (An Ethic of Survival)، وهي سردية أخلاقية بسيطة وقوية: "العالم معادٍّ، ونحن وحدنا، وبقاؤنا يعتمد على قوتنا وتضامننا غير المشروط". هذه العصبية، القائمة على الصدمة المشتركة والمشروع الواحد والعدو الخارجي، نجحت بشكل مذهل في حشد الطاقات وتكوين لوبيات سياسية نافذة والحفاظ على تماسك فريد عقوداً.
ولكن لكلّ بناء مهما كان صلباً نقطة ضعف. ونقطة ضعف "الحصن اليهودي" كانت الفجوة بين سرديته الأخلاقية المُعلَنة (قيم العدل والرحمة في التراث اليهودي) وسرديته المضمرة (أخلاقية البقاء القومية). لعقود، تمكنت هذه العصبية من إخفاء هذه الفجوة. لكن الصدمة التي كشفت هذا التناقض جاءت عنيفة ومتسارعة، وتحديداً مع ما شهده العالم في غزّة أخيراً، والذي كان بمثابة "صدمة أخلاقية" كبرى فجّرت الأزمة.
لماذا كانت هذه الصدمة مختلفة؟ لسببين رئيسيين. فأولاً، حطّمت وسائل التواصل الاجتماعي احتكار السردية. لم يعد بإمكان المؤسّسات التقليدية فلترة الأخبار والصور. مشاهد الدمار والقتل والمعاناة الإنسانية أصبحت تُبثّ مباشرة ومن دون وسيط في هواتف الشباب في نيويورك وباريس ومونتريال، ما خلق حالة من "القرينة البصرية" التي لا يمكن إنكارها. وثانياً، تجاوزت شدّة العنف العسكري الإسرائيلي، واللغة التي استخدمها بعض المسؤولين، كلّ ما سبق. اتهامات "الإبادة الجماعية" التي ردّدتها محاكم دولية ومنظّمات حقوقية لم تعد مجرّد "دعاية معادية"، بل أصبحت فرضية قانونية وأخلاقية جدّية. هذا خلق حالة "عدم توازن ثقافي" حادّة، فالفعل في الأرض أصبح متطرّفاً إلى درجة أنه أجبر قطاعاً واسعاً على الاختيار: إمّا التمسّك بالولاء الأعمى للدولة، أو التمسّك بما يعتبرونه جوهر القيم الأخلاقية اليهودية.
اليوم، تقف العصبية اليهودية في حالة سيولة خطيرة، إذ يستنزف الصراع الداخلي طاقتها. لم يعد السؤال: هل سيحدث انقسام؟ بل: ما هو شكل الانقسام المقبل؟ هناك سيناريوهات رئيسية عدّة. الأول: الانشقاق الكبير (The Great Schism)، وهو الأكثر ترجيحاً. سيتبلور الانقسام الحالي ليصبح شرخاً دائماً. سينشأ في الغرب معسكران يهوديان متميّزان، معسكر الولاء القومي سيصبح أكثر تشدّداً وتطرّفاً في دفاعه عن إسرائيل، وسينكفئ على ذاته، ويعتبر أي نقد خيانة. سيحتفظ بالسيطرة على المؤسّسات التقليدية الكبرى، لكنّه سيفقد ارتباطه بالجيل الشاب. أمّا معسكر العدالة الكونية فسيشكّل مؤسّساته الخاصّة (مدارس، معابد، منظمات)، ويعيد تعريف الهُويَّة اليهودية على أساس قيم العدالة الاجتماعية العالمية، وقد يتبنّى مواقف نقدية حادّة تجاه الصهيونية بوصفها أيديولوجيا. سيؤدّي هذا إلى انهيار "الوسط"، وتصبح الهُويَّة اليهودية في حالة حرب أهلية ثقافية باردة.

نتهى عهد التماسك الصُّلب للمجتمع اليهودي، حين كسر "الطوفان الثقافي" المرآةَ التي عكست صورة موحّدة

السيناريو الثاني هو التطهير والانكفاء (The Purge and Retrenchment)، ينجح معسكر الولاء القومي في سحق المعارضة الداخلية. مستخدماً نفوذه المالي والمؤسّسي، سيقوم بعملية "تطهير" للأصوات الناقدة من المناصب الأكاديمية والدينية والمجتمعية، ووصمهم بالنبذ الاجتماعي. ستصبح الجالية اليهودية المنظّمة أصغر حجماً، لكنّها أكثر انسجاماً أيديولوجياً وانعزالاً عن التيّارات التقدمية في المجتمع الأوسع. ستكون عصبية منكمشة وقلقة، لكنها متماسكة في وجه ما تراه عالماً معادياً. بينما يبرز الإصلاح الشامل (The Universalist Reformation) سيناريو ثالثاً، أكثر جذرية وأقلّ احتمالاً على المدى القصير. فيه يتمكّن معسكر العدالة من إحداث تحوّل في التيار الرئيسي. سيتطلّب هذا إعادة تفكيك عميقة للعلاقة بين الهُويَّة اليهودية والصهيونية السياسية. ستعيد غالبية الجالية تعريف نفسها لا جماعة إثنية قومية مركزها دولة، بل جماعة دينية وثقافية عالمية، رسالتها "إصلاح العالم" (تيكون عولام). سيكون هذا بمثابة "إصلاح ديني" جديد، يعيد اليهودية إلى جذورها الأخلاقية النبوية.
أيّاً كان السيناريو الذي سيتحقّق، فإن أمراً واحداً مؤكّداً: لقد انتهى عهد التماسك الصُّلب الذي ميّز المجتمع اليهودي في القرن العشرين. لقد كسر "الطوفان الثقافي" المرآةَ التي كانت تعكس صورة موحّدة، وكشف وجوهاً متعدّدة ومتصارعة. إن الصراع الدائر اليوم ليس مجرّد خلاف سياسي حول أفعال دولة، بل هو معركة وجودية على روح وهُويَّة واحدة من أقدم جماعات العالم، تجد نفسها اليوم في قلب العاصفة، مجبرة على مواجهة أشباح تاريخها وتناقضات حاضرها، لتقرّر أي مستقبل ستكتب لنفسها.

*نقلاً عن موقع العربي الجديد

أضافة تعليق