مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2025/08/09 13:16
دعوة لتجديد التصوف

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد جاءت الشريعة آمرة بالزهد، حاثة على محاسبة النفس، والاستعداد لما بعد الرحيل؛ فقال ﷺ: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس»، وقال ﷺ: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل».

وفي وصف أئمة الهدى، الأولياء الأصفياء: صحابة النبي ﷺ الكرام، يقول تعالى: ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ الله وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾[الفتح:29].

وقال سبحانه: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].

 وقال عز وجل: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[النور:51].

وثبت عن النبي ﷺ أنه كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويقول: «أفلا أكون عبداً شكوراً؟»، وكان يبيت الليالي طاوياً، وينام على الحصير حتى يؤثّر في جنبه الشريف، وقال ﷺ: «ما لي وللدنيا؟ ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة ثم راح وتركها».

ولقد نشأ التصوف في بادئ أمره في أحضان هذا الزهد المشروع، وكان في مراحله الأولى منبثقاً من الهدي النبوي، ودائراً في فلك الورع والتقوى وإصلاح الظاهر والباطن، والعناية بأعمال القلوب، والتعبد بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا، ومرتكزاً على التأمل في آيات الله الشرعية والكونية، متجافياً عن زخارف الدنيا ومنافساتها.

ومع مرور الزمن، برز أعلام عظام في ميدان التزكية، التزموا جادّة الحق، وتمسكوا بمنهج الكتاب والسنة، كالحسن البصري، وإبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وسفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك، وسهل التستري، والجنيد شيخ الطائفة، الذي قال: "طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يُقتدى به في طريقنا".

وقال الشبلي: "من لم يزن أفعاله وأحواله في كل وقت بالكتاب والسنة، ولم يتّهم خواطره، فلا يُعدّ في ديوان الرجال".

ولقد شغل هذا التصوف السني، المتشرب بهدي النبوة، المقيد بجادة الشريعة، حيزاً واسعاً من مسيرة التدين الإسلامي الرشيد، وترك أثراً بالغاً في تربية القلوب وتهذيب النفوس، وقدّم في عصوره الأولى نماذج مضيئة في الزهد والعبادة، ومواقف عالية في الإخلاص والبذل والمجاهدة، جمعت بين العلم والعمل، وصفاء الاتباع، وصدق الإرادة، والتجرد عن حظوظ النفس ومتابعة أهوائها.

غير أن هذا المسار السوي لم يسلم، مع تعاقب الأجيال، من تسلل مفاهيم دخيلة وممارسات منحرفة، وطقوس غريبة، تسربت إليه في ظل غياب الضبط العلمي، وهيمنة العوام، وتقديس الرموز، وضعف المراجعة والنقد، ونتيجة دخول من ليس من أهل الباب تحت مظلته؛ حتى اختلطت أنواره الأصيلة بموروثات فلسفية، ومبالغات طقوسية، وتأويلات باطنية، لا تمت لنهج النبوة بصلة، بل تخالفه ظاهراً وباطناً.

وقد أدى هذا الانحراف المشين إلى أن يقترن مسمى التصوف، في أذهان طوائف من المسلمين، بصور من البدع والانحرافات والعقائد الزائفة والمذاهب الردية، فساء الفهم، واضطرب التلقي، وانقسم الناس فيه بين غالٍ وجاف؛ وبين من ألغاه بالكلية، ومن قبله بمصائبه وعلى علاته.

ومن هنا، برزت الحاجة الماسة إلى دعوة علمية موضوعية، تسعى إلى تجديد التصوف: بتخليصه من شوائب الزيغ والانحراف، وربطه من جديد بالوحي المطهر، وتأكيد التزامه بالمنهاج الشرعي، وإحياء مسار التزكية السني، القائم على العلم والإخلاص والاتباع والخشية، وتنقيح مفاهيمه، وتنقية مصطلحاته مما التصق بها من زيف وباطل، وردّ ميزان السلوك إلى الكتاب والسنة، واستلهام معالم التزكية القرآنية والمأثورة عن النبي ﷺ وأصحابه.

وليست هذه الدعوة بطعنٍ في التصوف بالجملة، ولا خصومة مذهبية، بل هي غيرة على الدين، وحرص على صفاء التزكية النبوية، ووفاء لأئمة الصلاح والهدى، وتَوْقٌ إلى بعث الروح السنية في المسار الصوفي من جديد، وفق هدي النبوة ومقاصد الشريعة ومحكماتها.

أولاً: منطلقات حاكمة:

1.  أن التصوف السني، المنضبط بالشرع، القائم على التزكية القرآنية، وتعظيم النص، ومجاهدة النفس ومحاسبتها، هو من أعظم وسائل ترقية الإيمان، وتحقيق مقام الإحسان.

2.  أن الموقف المتزن من التصوف، هو التمييز بين الموروث السني الأصيل، وبين ما علق به من زيغ وغلو، وهذا هو منهاج أهل العلم الربانيين الذين يزنون الأقوال والأشخاص بميزان الوحي، لا بالعاطفة أو الهوى.

3.  أن الانحرافات في بعض أنماط التصوف لا يجوز التغاضي عنها باسم "حسن الظن"، أو "توقير المشايخ"، أو "تقليد بعض من سبق"، فإن ذلك خيانة للدين، وإقرار للباطل، وتشويش على العامة.

4.  أن محبة العلماء الربانيين، والأولياء والصالحين منزلة من منازل الإيمان، لكنها لا تبيح الغلو فيهم، ولا رفعهم فوق منزلتهم الشرعية، ولا تقديم أقوالهم على النصوص المحكمة من الكتاب والسنة.

5.  أن نقد الانحرافات الدخيلة على التصوف السني السوي ليس طعناً في مقام التزكية الشرعية، بل هو وفاء لها، وصيانة لمسارها من التبديل، ودعوة إلى تجديدها على الجادة، لا محوها من الوجود.

ثانياً: إشكالات تتطلب التصحيح:

لقد تراكمت في بعض مسالك التصوف المتأخر ممارسات ومفاهيم تشكل انحرافاً بيناً عن أصل التزكية الشرعية، ولعل من أبرزها:

1.  القول بوحدة الوجود والحلول والاتحاد، وهي أقوال كفرية باطلة، كقول بعضهم: "العبد رب والرب عبد، يا ليت شعري من المكلّف؟"، وهي تهدم التوحيد من أساسه، وتساوي بين الخالق والمخلوق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

2.  تحريف معاني التوحيد، وتمييع الحدود الفاصلة بين التوحيد الخالص والشرك الأكبر، مما أدى إلى الطواف بالقبور، والاستغاثة بالأموات، والنذر لهم، وادعاء تصرف الأولياء في الكون، أو مغفرتهم للذنوب، وتحكمهم بمن يدخل الجنة ومن لا يلجها.

3.  الغلو في المشايخ، وادعاء علمهم بالغيب، أو تصرفهم في الكون، أو بلوغ بعضهم رتبة "القطب" الذي تدور عليه السماوات، أو زعم أنهم أرفع منزلة من الأنبياء.

4.  العبث بالشريعة، عبر تأويل النصوص الشرعية تأويلات باطنية باطلة، وإسقاط التكليف، وتعطيل السنة الصحيحة باسم الكشف أو الذوق أو الإلهام، مما يخرج التصوف من كونه سلوكاً شرعياً منضبطاً إلى حالة من العبث والهذيان.

5.  الغلو في النبي ﷺ، وادعاء أنه خُلق من نور، أو أنه يعلم الغيب المطلق الذي استأثر الله بعلمه، أو أنه يُستغاث به بعد موته، وقد قال ﷺ: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله."

6.  تقديس الطرق الصوفية، وربط التدين الحق بسلاسل تلك الطرق، حتى صار مفارقتها نكوصاً، والانتماء إليها شرطاً للصلاح، مما يزرع العصبية الجاهلية، ويثير الفتنة، ويمزق وحدة الأمة.

7.  استبدال الذكر الشرعي بالطقوس الغريبة، كالرقص، والوجد، والإنشاد غير المنضبط شرعاً، واعتبار تلك المحدثات وسائل للتقرب، مع الاستهانة بالسنة والنظرة بدون إلى هدي النبي ﷺ في هذا الباب.

8.  ابتداع أوراد وأذكار لا أصل لها في الشريعة، تشتمل على ألفاظ غير عربية أو أسماء غير معروفة، أو إشارات غامضة، وأعداد محددة لا دليل عليها من الكتاب والسنة، بزعم أن لها أسراراً باطنية وفيوضات خاصة.

9.  تقديم الكشف والذوق على النص والعلم، وازدراء الفقه وأهل العلم، وتقديم المنامات والمكاشفات دون تمحيص أو ضوابط، مما يفتح باب التلبيس والانحراف، ويؤسس للزيغ والضلالة.

10.  توريث المشيخة، وتحويل الطريق الصوفي إلى ملك عائلي، يتناقل بالتوارث لا بالتحقق، فيغيب التأهيل العلمي والتربوي، وتضعف المراقبة، ويُقدَّم الجاه على التقوى، والكسب الدنيوي على ما عند الله تعالى من ثواب وأجر.

11.  تسخير التصوف -في أحيان- لخدمة الطغيان، إذ ارتبط في بعض عصوره المتأخرة بالتحالف مع المحتلين، وتبرير الظلم، والسكوت عن تعطيل الشريعة، بدعوى "القدر" أو "التسامح" أو "المصلحة"، حتى صار أداة للتدجين بدل أن يكون وسيلة للترقي.

12.  العزلة السلبية عن واقع الأمة، وادعاء أن الخمول والسكوت من تمام التفويض، مما عطّل فريضة الاستخلاف، وولّد أجيالاً من المريدين المنقطعين عن الجهاد والدعوة، الغافلين عن فقه السنن، العاجزين عن التفاعل مع تحديات الأمة.

وهذا كله انحراف خطير، يجعل التصوف - إن بقي على تلك الصورة - حجاباً عن النهضة، لا سبيلاً إليها، وعائقاً عن الإصلاح، لا معيناً عليه.

ثالثاً: مسؤوليات كبيرة:

- أهل العلم الشرعي: تقع على عاتقهم مسؤولية التمييز بين التصوف السني والانحرافات الدخيلة عليه، والدعوة إلى تصحيح المسار، وتجديد التزكية على منهاج النبوة، والحكم على الأقوال والأفعال والأشخاص بالرحمة والعدل، وتقديم الدليل على المشايخ لا العكس.

-  أهل الطرق الصوفية: مطلوب منهم وقفة مراجعة صادقة، لتحرير مسالكهم من الموروثات الفاسدة، وتنقيتها من البدع والشوائب، وإرجاعها إلى هدي النبي ﷺ وصحابته العظام.

-  الدعاة وطلاب العلم: ينبغي أن يكونوا قدوة في الجمع بين العلم والتزكية، والإحسان والاتباع، وأن يضمّنوا خطابهم التربوي بُعد السلوك والتهذيب، دون أن يتساهلوا في الثوابت أو يغضوا الطرف عن الانحرافات.

وختاماً:

فإن التصوف السني حين يتجرد من مظاهر الغلو والانحراف، ويقوم على الكتاب والسنة، ويتأسس على التزكية القرآنية، يصبح معيناً صافياً للنهضة الإيمانية، ومقوّماً فاعلاً في بناء النفس، وترسيخ معاني العبودية، وتحقيق مقام الإحسان.

وإن من أعظم واجبات العصر: إحياء هذا المسار السني في التزكية، ودعمه علمياً وتربوياً، ليكون التصوف رافداً للتجديد، لا عائقاً له، وسبيلاً للاتباع، لا ذريعة للابتداع، ومقاوماً للجفاف الروحي الذي هيمن في عصرنا هذا ولطغيان المادية المرعب.

نسأل الله العظيم، أن يقيمنا على دينه القويم، وأن يهيئ له من يُحيي معالمه، ويُطهّر مسالكه، ويُرشد سالكيه، إلى الحق المبين، الذي يحبه ويرضاه، إنه جواد كريم

والله الهادي

أضافة تعليق