هويدي 2-12-2002
في انقرة واستانبول سمعت من كثيرين اعتزازهم بأن المجتمع هو الذي اتى بحزب «العدالة والتنمية» الى الحكم وان الناس هم الذين فرضوا رئيس الوزراء على السلطة، مدفوعين في ذلك بعوامل عدة، من بينها تحدي ارادة المؤسسة الرسمية التي جندت كل قواها وابواقها لمحاصرة حزب العدالة، بل وبطشت برئيسه رجب الطيب اردوغان الذي يحظى بشعبية كبيرة، فسجنته وحرمته من حقوقه السياسية، وكانت النتيجة ان المجتمع عاقب السلطة، فصوت لصالحه اغلبية تمكنه بجهد بسيط من تجاوز الحاجز القانوني، واستعادة المنصب الذي استحقه رغم أنف الجميع.
حين وصلت الى انقرة كنت أحمل معي بعض الصحف العربية الصادرة في نفس اليوم، وتلك التي لم يتسن لي قراءتها من صحف الايام القليلة السابقة، وفي نهاية يوم حفل بلقاءات وحوارات ترددت فيه على مسامعي أكثر من مرة عبارة كلمة المجتمع وصوته، خطر لي ان افتش في حزمة الصحف العربية التي حملتها عن صوت المجتمع الذي قدمت منه، لكنني بعد أن قلبت بعض الصحف لم استطع ان أكمل، حيث تلبستني حالة من الحزن والكآبة افقدتني الرغبة في مواصلة القراءة، ذلك انني وجدت الصفحات الأولى والعناوين الرئيسية ليست أكثر من ترديد لصوت السلطة، ولو أن الأمر وقف عند ذلك الحد لهان، وكان يمكن احتمال مرارته، ولكن الأنكى من ذلك والأسوأ انني وجدت المجتمع في الصحافة الداخلية أما ملاحقا من قبل السلطة ومحزونا يشكو ويلتمس منها العطف والرضى.
اظن ان الشق الأول يحتاج الى برهان، فأجهزة الاعلام في عالمنا العربي هي في الاساس تحت هيمنة السلطة مرآة عاكسة للواقع الذي ألغى فيه بدرجة أو أخرى حضور المجتمع وصورته، ولهذا فانها تصور عالمنا وكأنه رأس بلا جسم، أو قل رأس كبير وجسد ضامر وهزيل يستحق الرثاء والعطف بأكثر مما يستحق الاحترام أو تحيطه الهيبة.
الشق الثاني كانت المصادفة فيه عجيبة، لأن عينة الصحف التي وقعت عليها كانت حافلة باخبار الحملات والمداهمات التي يتعرض لها المجتمع العربي من اقصاه الى اقصاه، ذلك فضلا عن كم الشكاوى التي نشرتها الصحف، احيانا في التماسات موجهة الى أصحاب القرار لكي يعينوا في رد حق مضيع، أو لكي يوفروا لاهل ناحية معينة التيار الكهربائي الذي يفتقدونه والحماية من حوادث القطارات التي تلتهم ابناءها، أو لكي يساعدوا أسرة على العثور على أحد أبنائها اختفى في ظروف غامضة، ذلك فضلا عن شكاوى الآرامل اللاتي لم يعرفن معاشاتهن، أو المرضى الذين يحتاجون الى أجهزة تعويضية أو علاجية.. الخ.
كلها شكاوى تدل على ان القوانين واللوائح على كثرتها ليست كافية في حماية حقوق الناس، ولا تضمن تسيير عجلة المجتمع على نحو منتظم وسليم، وانما لابد من تدخل نفوذ السلطة ويدها لكي تسترد الحقوق وتدور العجلة في الاتجاه الصحيح، وحين ترفع السلطة يدها أو تلتزم الصمت فإن «الدولاب» يتوقف، والعجلة تكف على الدوران، ويصاب المجتمع بالشلل، وذلك جوهر الفرق بين المواطنين والراعية، فالمواطنون قوم تنتظم حياتهم وتستقر أمورهم طالما انهم ظلوا على احترامهم للنظام العام والقانون، أما الرعايا ـ كأس قطيع ـ فإن حركتهم مرهونة بارادة الراعي ولا تنطلق لهم مسيرة أو تنتظم الا اذا جاءت هذه الاشارة التي تحدد المسار والهدف، وفي الحالة الأولى فإن المجتمع يتحرك مسترشدا بادراكه للمصالح العليا، أما في الحالة الثانية فإن حركة المجتمع تظل معلقة بارادة الراعي ومن ثم مسترشدة برؤاه ومصالح ادارته ونظامه.
تقول لنا الشكاوى بصوت عال انه في عالمنا العربي لا يكفي ان يكون المرء انسانا لكي ينال حقوقه، ولا يشفع له ان يؤدي ما عليه من واجبات، بدءا باداء عمله وانتهاء بالوفاء بما عليه من ضرائب، اذ ليس كل انسان يدب على أرض البلد مواطنا بالضرورة، أو قل انه كذلك في المجتمعات التي تعلو فيها هامة القانون على غيره من الهامات، أما حين يحدث العكس، وتكون هامة السلطة هي الأعلى، فالأمر يختلف اذ لابد في هذه الحالة من الارتكان الى نفوذ تلك الهامة الأعلى، لابد من عصا الراعي لكي ينتظم حال الرعية.
واذا كان ذلك شأن أصحاب الحاجات الخاصة فإن، الأمر لم يختلف كثيرا، بل اسوأ فيما يخص الشأن العام، فالصحف التي طالعتها مثلا نشرت اخبار ملاحقات تعرض لها معارضو التطبيع مع اسرائيل في أكثر من قطر عربي، بعضهم دعا الى مؤتمر في ساحة عامة بعد صلاة الجمعة، فالغي المؤتمر ومنعت الصلاة في الساحة بحجة ان ذلك لا يسمح له الا بإذن من الجهات المختصة، ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، وانما اعتقلت السلطة ثلاثة من كبار المهنيين النقابيين لأنهم من الناشطين في دعوة المقاطعة، في قطر آخر وزع بعض الطلاب منشورات دعت الى قطع العلاقات مع اسرائيل فألقي القبض عليهم، وصدرت بحقهم انذارات وجزاءات تأديبية من ادارة جامعاتهم، من جراء «انحراف» سلوكهم.
في قطر آخر تم اعتقال ثلاثة من كبار المحامين لمجرد انهم شكلوا فريقا للدفاع عن حقوق الانسان وحماية السجناء في بلادهم، وطالبوا باستقلال القضاء وتحصينه ضد تدخلات السلطة، حتى لا يتحول الى سوط لقمع المعارضين السياسيين، في قطر ثالث حدثت اشتباكات بين الشرطة والطلاب الذين منعوا من الاشتراك في انتخابات الاتحاد الذي يمثلهم، بحجة انهم ينتمون الى تيار سياسي معارض، وفي بلد رابع أدين احد الكتاب وحكم عليه بالاعدام لمجرد ان كتب مقالا انتقد فيه ممارسات الحكم، وحين خرج طلاب الجامعات لكي يعبروا عن اعتراضهم على الحكم الجائر، تصدت لهم قوات الأمن والميليشيات العسكرية، واتهموا من قبل القيادة بانهم دعاة للفتنة، في بلد خامس تم فض اعتصام بالقوة قام به عدة مئات من العمال الذين فصلتهم احدى شركات القطاع العام بعد خصخصتها.
في كل تلك النماذج حاول المجتمع ان يرفع صوته بالاعتراض أو النقد، ولكنه اسكت بصور شتى، ورغم ان الممارسات كانت سليمة ولم تكن تستهدف شيئا في اساسيات الحكم، وانما تركز الاحتجاج فيها على بعض السياسات المتبعة، فإن السلطات لجأت الى قمعها بشدة، في حين انها لو سمحت بها، وحافظت على حدوثها كما يحدث في الدول الأخرى الديمقراطية لكسبت الانظمة كثيرا، أولا لأن مثل هذه التعبيرات السليمة تخفف من الاحتقان العام، وثانيا لأنها قد تنبه السلطات الى اخطاء وقعت فيها لتحاول تصحيحها، وهو ما يخدم المصلحة العام بكل تأكيد، وثالثا لأنها تعلم الناس انهم بهذا الاسلوب المتحفز يمكن ان يسمعوا صوتهم ويوصلوا احتجاجهم وتقنعهم في الوقت ذاته باستبعاد العنف الذي لا تحصى خسائره، بكلام آخر فإن السماح بممارسة امثال تلك الاحتجاجات السليمة يسهم في تربية الشعوب وفي تجنيب الانظمة احتمالات اللجوء الى العنف كخيار للتعبير عن الاحتجاج أو الغضب، وفي هذا وذاك تعزيز للاستقرار بكل تأكيد.
في هذا السياق لا نستطيع ان نتجاهل واقعتين مهمتين ارتفع فيهما صوت المجتمع العربي أخيرا على نحو ايجابي وصحي، يستحق الحفاوة والتقدير، الواقعة الأولى تمثلت في البيان الذي اصدره نفر من العلماء والمثقفين السعوديين، والذي أيده وشارك في التوقيع عليه عدد آخر من علماء ومثقفي المسلمين، وهو ذلك الذي صدر بمناسبة التهديدات الاميركية الموجهة الى المنطقة، وقلت في مقام سابق انه ليس احتجاجا فقط ولكنه دعوة عامة الى الاصلاح لتقوية المجتمعات العربية والاسلامية، وتمكينها من التصدي لمختلف التحديات والتهديدات التي طالت الخرائط والشعوب والأنظمة.
ادري ان هذه ليست المرة الأولى التي يصدر فيها العلماء والمثقفون السعوديون بيانات يخاطبون فيها الشعب والأمة، ولكني احسب انها من المرات القليلة التي نشر فيها البيان على الملأ في الصحف، ووضع على موقع في شبكة المعلومات الدولية «الانترنت»، ودعي الجميع للتوقيع عليه، في التعبير عن التأييد والتضامن، ولخلق رأي عام شعبي يتيح للناس ان يسمعوا اصواتهم للكافة.
الواقعة الثانية حدثت في البحرين، حين خرج عدد من الرجال والنساء في مظاهرة احتجاج اتجهت الى وزارة العدل، واعتصمت امامها، مطالبة بمحاكمة احد كبار الضباط الذين نسبت اليهم تجاوزات واتهامات تعلقت بانتهاكات حقوق الانسان في البحرين، واتسمت المسيرة والاعتصام بالطابع السلمي، وحسنا فعلت الاجهزة الامنية حين اتاحت للمتظاهرين ان يبلغوا رسالتهم الى السلطة، وان يعود كل مشارك الى بيته سالما بعد ذلك.
هذه الممارسات تحدث على سلبيل الاستثناء في هذا القطر أو ذاك، لكنها محظورة تماما في عدة اقطار عربية، من تلك التي لا يسمح للناس فيها ان يرفعوا اصواتهم الا على سبيل شكر اولي الامر وامتداح خصالهم والدعاء لهم بطول العمر. وهذا الذي نتنسم رائحته في كل مكان، ونعتبره حدثا فريدا في بابه، هو جزء من الحياة العادية في المجتمعات الديمقراطية وبعضها خصص اماكن في بعض الساحات العامة لكي يتظاهر فيها الناس، ويسمعوا اصواتهم يوميا، حيث يفترض انها تسمع في كل انتخابات عامة، نيابية كانت أم بلدية، وفي الصحف التي طالعتها كانت الاعتصامات والمظاهرات تملأ شوارع باريس وتعم مرفق النقل في انجلترا. اما في سويسرا فقد ارتفع صوت المجتمع معترضا على مقترحات الاحزاب اليمينية التي دعت الى وضع قيود على الهجرة الى البلاد، ومعروف ان الدستور السويسري يفتح الباب لاستفتاء الناس في كل ما يهمهم في الماضي والمستقبل، من اقامة الجسور إلى تصدير السلاح الى اقامة المصانع، فيما ازعم ان ممارسة عملية لفكرة «الشورى» التي تستعين برأي المجتمع فيما يهمه طول الوقت، وهي تطوير للعملية الديمقراطية التي تسمح للمجتمع ان يختار كل اربع أو خمس سنوات.
لاحظ ان طموحات تراجعت الى حد كبير ولم نعد نتحدث عن شفافية في الحكم أو مشاركة في القرار ناهيك عن تداول للسلطة، وانما صرنا ندافع عن حد ادنى من حق المجتمع في ان يرفع صوته ويقول شيئا غير «نعم» وهو حد لا يرضينا بأي حال، وانما هو خطوة على الطريق الطويل الذي ارجو الا يتجاوز الالف ميل.
في انقرة واستانبول سمعت من كثيرين اعتزازهم بأن المجتمع هو الذي اتى بحزب «العدالة والتنمية» الى الحكم وان الناس هم الذين فرضوا رئيس الوزراء على السلطة، مدفوعين في ذلك بعوامل عدة، من بينها تحدي ارادة المؤسسة الرسمية التي جندت كل قواها وابواقها لمحاصرة حزب العدالة، بل وبطشت برئيسه رجب الطيب اردوغان الذي يحظى بشعبية كبيرة، فسجنته وحرمته من حقوقه السياسية، وكانت النتيجة ان المجتمع عاقب السلطة، فصوت لصالحه اغلبية تمكنه بجهد بسيط من تجاوز الحاجز القانوني، واستعادة المنصب الذي استحقه رغم أنف الجميع.
حين وصلت الى انقرة كنت أحمل معي بعض الصحف العربية الصادرة في نفس اليوم، وتلك التي لم يتسن لي قراءتها من صحف الايام القليلة السابقة، وفي نهاية يوم حفل بلقاءات وحوارات ترددت فيه على مسامعي أكثر من مرة عبارة كلمة المجتمع وصوته، خطر لي ان افتش في حزمة الصحف العربية التي حملتها عن صوت المجتمع الذي قدمت منه، لكنني بعد أن قلبت بعض الصحف لم استطع ان أكمل، حيث تلبستني حالة من الحزن والكآبة افقدتني الرغبة في مواصلة القراءة، ذلك انني وجدت الصفحات الأولى والعناوين الرئيسية ليست أكثر من ترديد لصوت السلطة، ولو أن الأمر وقف عند ذلك الحد لهان، وكان يمكن احتمال مرارته، ولكن الأنكى من ذلك والأسوأ انني وجدت المجتمع في الصحافة الداخلية أما ملاحقا من قبل السلطة ومحزونا يشكو ويلتمس منها العطف والرضى.
اظن ان الشق الأول يحتاج الى برهان، فأجهزة الاعلام في عالمنا العربي هي في الاساس تحت هيمنة السلطة مرآة عاكسة للواقع الذي ألغى فيه بدرجة أو أخرى حضور المجتمع وصورته، ولهذا فانها تصور عالمنا وكأنه رأس بلا جسم، أو قل رأس كبير وجسد ضامر وهزيل يستحق الرثاء والعطف بأكثر مما يستحق الاحترام أو تحيطه الهيبة.
الشق الثاني كانت المصادفة فيه عجيبة، لأن عينة الصحف التي وقعت عليها كانت حافلة باخبار الحملات والمداهمات التي يتعرض لها المجتمع العربي من اقصاه الى اقصاه، ذلك فضلا عن كم الشكاوى التي نشرتها الصحف، احيانا في التماسات موجهة الى أصحاب القرار لكي يعينوا في رد حق مضيع، أو لكي يوفروا لاهل ناحية معينة التيار الكهربائي الذي يفتقدونه والحماية من حوادث القطارات التي تلتهم ابناءها، أو لكي يساعدوا أسرة على العثور على أحد أبنائها اختفى في ظروف غامضة، ذلك فضلا عن شكاوى الآرامل اللاتي لم يعرفن معاشاتهن، أو المرضى الذين يحتاجون الى أجهزة تعويضية أو علاجية.. الخ.
كلها شكاوى تدل على ان القوانين واللوائح على كثرتها ليست كافية في حماية حقوق الناس، ولا تضمن تسيير عجلة المجتمع على نحو منتظم وسليم، وانما لابد من تدخل نفوذ السلطة ويدها لكي تسترد الحقوق وتدور العجلة في الاتجاه الصحيح، وحين ترفع السلطة يدها أو تلتزم الصمت فإن «الدولاب» يتوقف، والعجلة تكف على الدوران، ويصاب المجتمع بالشلل، وذلك جوهر الفرق بين المواطنين والراعية، فالمواطنون قوم تنتظم حياتهم وتستقر أمورهم طالما انهم ظلوا على احترامهم للنظام العام والقانون، أما الرعايا ـ كأس قطيع ـ فإن حركتهم مرهونة بارادة الراعي ولا تنطلق لهم مسيرة أو تنتظم الا اذا جاءت هذه الاشارة التي تحدد المسار والهدف، وفي الحالة الأولى فإن المجتمع يتحرك مسترشدا بادراكه للمصالح العليا، أما في الحالة الثانية فإن حركة المجتمع تظل معلقة بارادة الراعي ومن ثم مسترشدة برؤاه ومصالح ادارته ونظامه.
تقول لنا الشكاوى بصوت عال انه في عالمنا العربي لا يكفي ان يكون المرء انسانا لكي ينال حقوقه، ولا يشفع له ان يؤدي ما عليه من واجبات، بدءا باداء عمله وانتهاء بالوفاء بما عليه من ضرائب، اذ ليس كل انسان يدب على أرض البلد مواطنا بالضرورة، أو قل انه كذلك في المجتمعات التي تعلو فيها هامة القانون على غيره من الهامات، أما حين يحدث العكس، وتكون هامة السلطة هي الأعلى، فالأمر يختلف اذ لابد في هذه الحالة من الارتكان الى نفوذ تلك الهامة الأعلى، لابد من عصا الراعي لكي ينتظم حال الرعية.
واذا كان ذلك شأن أصحاب الحاجات الخاصة فإن، الأمر لم يختلف كثيرا، بل اسوأ فيما يخص الشأن العام، فالصحف التي طالعتها مثلا نشرت اخبار ملاحقات تعرض لها معارضو التطبيع مع اسرائيل في أكثر من قطر عربي، بعضهم دعا الى مؤتمر في ساحة عامة بعد صلاة الجمعة، فالغي المؤتمر ومنعت الصلاة في الساحة بحجة ان ذلك لا يسمح له الا بإذن من الجهات المختصة، ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، وانما اعتقلت السلطة ثلاثة من كبار المهنيين النقابيين لأنهم من الناشطين في دعوة المقاطعة، في قطر آخر وزع بعض الطلاب منشورات دعت الى قطع العلاقات مع اسرائيل فألقي القبض عليهم، وصدرت بحقهم انذارات وجزاءات تأديبية من ادارة جامعاتهم، من جراء «انحراف» سلوكهم.
في قطر آخر تم اعتقال ثلاثة من كبار المحامين لمجرد انهم شكلوا فريقا للدفاع عن حقوق الانسان وحماية السجناء في بلادهم، وطالبوا باستقلال القضاء وتحصينه ضد تدخلات السلطة، حتى لا يتحول الى سوط لقمع المعارضين السياسيين، في قطر ثالث حدثت اشتباكات بين الشرطة والطلاب الذين منعوا من الاشتراك في انتخابات الاتحاد الذي يمثلهم، بحجة انهم ينتمون الى تيار سياسي معارض، وفي بلد رابع أدين احد الكتاب وحكم عليه بالاعدام لمجرد ان كتب مقالا انتقد فيه ممارسات الحكم، وحين خرج طلاب الجامعات لكي يعبروا عن اعتراضهم على الحكم الجائر، تصدت لهم قوات الأمن والميليشيات العسكرية، واتهموا من قبل القيادة بانهم دعاة للفتنة، في بلد خامس تم فض اعتصام بالقوة قام به عدة مئات من العمال الذين فصلتهم احدى شركات القطاع العام بعد خصخصتها.
في كل تلك النماذج حاول المجتمع ان يرفع صوته بالاعتراض أو النقد، ولكنه اسكت بصور شتى، ورغم ان الممارسات كانت سليمة ولم تكن تستهدف شيئا في اساسيات الحكم، وانما تركز الاحتجاج فيها على بعض السياسات المتبعة، فإن السلطات لجأت الى قمعها بشدة، في حين انها لو سمحت بها، وحافظت على حدوثها كما يحدث في الدول الأخرى الديمقراطية لكسبت الانظمة كثيرا، أولا لأن مثل هذه التعبيرات السليمة تخفف من الاحتقان العام، وثانيا لأنها قد تنبه السلطات الى اخطاء وقعت فيها لتحاول تصحيحها، وهو ما يخدم المصلحة العام بكل تأكيد، وثالثا لأنها تعلم الناس انهم بهذا الاسلوب المتحفز يمكن ان يسمعوا صوتهم ويوصلوا احتجاجهم وتقنعهم في الوقت ذاته باستبعاد العنف الذي لا تحصى خسائره، بكلام آخر فإن السماح بممارسة امثال تلك الاحتجاجات السليمة يسهم في تربية الشعوب وفي تجنيب الانظمة احتمالات اللجوء الى العنف كخيار للتعبير عن الاحتجاج أو الغضب، وفي هذا وذاك تعزيز للاستقرار بكل تأكيد.
في هذا السياق لا نستطيع ان نتجاهل واقعتين مهمتين ارتفع فيهما صوت المجتمع العربي أخيرا على نحو ايجابي وصحي، يستحق الحفاوة والتقدير، الواقعة الأولى تمثلت في البيان الذي اصدره نفر من العلماء والمثقفين السعوديين، والذي أيده وشارك في التوقيع عليه عدد آخر من علماء ومثقفي المسلمين، وهو ذلك الذي صدر بمناسبة التهديدات الاميركية الموجهة الى المنطقة، وقلت في مقام سابق انه ليس احتجاجا فقط ولكنه دعوة عامة الى الاصلاح لتقوية المجتمعات العربية والاسلامية، وتمكينها من التصدي لمختلف التحديات والتهديدات التي طالت الخرائط والشعوب والأنظمة.
ادري ان هذه ليست المرة الأولى التي يصدر فيها العلماء والمثقفون السعوديون بيانات يخاطبون فيها الشعب والأمة، ولكني احسب انها من المرات القليلة التي نشر فيها البيان على الملأ في الصحف، ووضع على موقع في شبكة المعلومات الدولية «الانترنت»، ودعي الجميع للتوقيع عليه، في التعبير عن التأييد والتضامن، ولخلق رأي عام شعبي يتيح للناس ان يسمعوا اصواتهم للكافة.
الواقعة الثانية حدثت في البحرين، حين خرج عدد من الرجال والنساء في مظاهرة احتجاج اتجهت الى وزارة العدل، واعتصمت امامها، مطالبة بمحاكمة احد كبار الضباط الذين نسبت اليهم تجاوزات واتهامات تعلقت بانتهاكات حقوق الانسان في البحرين، واتسمت المسيرة والاعتصام بالطابع السلمي، وحسنا فعلت الاجهزة الامنية حين اتاحت للمتظاهرين ان يبلغوا رسالتهم الى السلطة، وان يعود كل مشارك الى بيته سالما بعد ذلك.
هذه الممارسات تحدث على سلبيل الاستثناء في هذا القطر أو ذاك، لكنها محظورة تماما في عدة اقطار عربية، من تلك التي لا يسمح للناس فيها ان يرفعوا اصواتهم الا على سبيل شكر اولي الامر وامتداح خصالهم والدعاء لهم بطول العمر. وهذا الذي نتنسم رائحته في كل مكان، ونعتبره حدثا فريدا في بابه، هو جزء من الحياة العادية في المجتمعات الديمقراطية وبعضها خصص اماكن في بعض الساحات العامة لكي يتظاهر فيها الناس، ويسمعوا اصواتهم يوميا، حيث يفترض انها تسمع في كل انتخابات عامة، نيابية كانت أم بلدية، وفي الصحف التي طالعتها كانت الاعتصامات والمظاهرات تملأ شوارع باريس وتعم مرفق النقل في انجلترا. اما في سويسرا فقد ارتفع صوت المجتمع معترضا على مقترحات الاحزاب اليمينية التي دعت الى وضع قيود على الهجرة الى البلاد، ومعروف ان الدستور السويسري يفتح الباب لاستفتاء الناس في كل ما يهمهم في الماضي والمستقبل، من اقامة الجسور إلى تصدير السلاح الى اقامة المصانع، فيما ازعم ان ممارسة عملية لفكرة «الشورى» التي تستعين برأي المجتمع فيما يهمه طول الوقت، وهي تطوير للعملية الديمقراطية التي تسمح للمجتمع ان يختار كل اربع أو خمس سنوات.
لاحظ ان طموحات تراجعت الى حد كبير ولم نعد نتحدث عن شفافية في الحكم أو مشاركة في القرار ناهيك عن تداول للسلطة، وانما صرنا ندافع عن حد ادنى من حق المجتمع في ان يرفع صوته ويقول شيئا غير «نعم» وهو حد لا يرضينا بأي حال، وانما هو خطوة على الطريق الطويل الذي ارجو الا يتجاوز الالف ميل.