مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
سؤال العودة: كيف وليس هل؟
هويدي 3-3-2002

في الانباء أن السلطات الاسرائيلية فرضت حراسة خاصة على الدكتور سري نسيبة مسؤول ملف القدس في السلطة الفلسطينية، بعدما تلقى خلال الاسابيع الاخيرة تهديدات بالقتل من جراء التصريحات التي نادى فيها بأن السلام في الشرق الاوسط لن يعم، والدولة الفلسطينية لن تقوم لها قيامة، الا اذا تخلى الفلسطينيون عن مطلبهم في العودة الى ديارهم. واضاف في هذا الصدد ان عودة اللاجئين ستهدد الطابع اليهودي للدولة الاسرائيلية، وهو الكلام الذي قاله امام حشد من الاسرائيليين في الجامعة العبرية، وقوبل بحفاوة كبيرة في داخل اسرائيل وفي الاوساط الاعلامية الامريكية.
لا غرابة في الاجراء الذي اتخذته السلطات الاسرائيلية، ولا مفاجأة في التهديدات التي تلقاها الدكتور نسيبة، ذلك ان كلاما كالذي قاله الرجل ـ سفه فيه الانتفاضة ووصفها بأنها «تشنج عصبي ملطخ بالدم» ـ يقتضي حماية اسرائيلية لا ريب، من حيث ان ترديده يلقى هوى لدى الاسرائيليين ويطرب اسماعهم، فضلا عن انه قد يشجع اخرين على السير على ذلك الدرب. في الوقت نفسه فمثل هذا الكلام لا يمكن ان يمر فلسطينيا دون ان يحدث صداه المفترض، الناشئ عن صدمة مفاجأة خمسة ملايين فلسطيني بحرمانهم من حقهم في العودة الى ديارهم. وهي صدمة تتجاوز حدود فلسطين بطبيعة الحال، ولكن اثرها يمتد الى مختلف المنافي التي يقبع فيها اللاجئون متعلقين بأمل العودة الى ديارهم يوما ما، ويورثون ذلك الامل لابنائهم واحفادهم جيلا بعد جيل.
هذه التهديدات التي تلقاها الدكتور سري نسيبة، والتي تعرض حياته للخطر، لها دلالتها غير الخافية، والمهمة في ذات الوقت، ذلك ان احدا لا يستطيع ان يتنبأ بحجم الانفجار والعنف الذي يمكن ان تشهده الساحة الفلسطينية وربما الساحة العربية ايضا، اذا ما ذهبت فكرة التنازل عن حق العودة الى أبعد من الاعلام، من قبيل ان تتحول ـ مثلا ـ الى قرار وموقف يتبناه المفاوض الفلسطيني، متصورا أنه الورقة الثمينة التي يمكن ان يضعها على الطاولة، لكي يكسب في مقابلها اقرارا اسرائيليا بفكرة الدولة الفلسطينية أو غير ذلك، لذلك فاخشى ما اخشاه ان يتوهم أي طرف له صلة بالموضوع ان التنازل عن حق العودة مقابل اقامة الدولة المرجوة من شأنه ان يحل الإشكال ويفتح الباب لاقرار السلام في المنطقة، لان العكس هو الصحيح تماما، حيث المتوقع ان تكون هذه بداية لطور آخر من الاضطرابات والقلاقل، التي لا يعرف الا الله مداها. وهي قد تبدأ شقا في الصف الفلسطيني، يضع المفرطين في جانب، وضحايا تلك الخطوة في جانب آخر، وتتطور بعد ذلك الى ما هو اسوأ واعمق للاسف الشديد، وربما تحولت التهديدات التي تلقاها الدكتور نسيبة، الذي تكلم فقط في الموضوع، الى تصفيات حقيقية تستهدف الذين تبنوا الدعوة ووصلوا بها الى آخر المطاف.
اذ ليس سهلا ان تمر المفاجأة في اوساط مليوني لاجئ في الاردن، وثلاثة ارباع المليون في قطاع غزة ونصف مليون في الضفة، و400 الف في لبنان و450 ألفا في سورية و50 ألفا في مصر و275 ألفا في السعودية وحوالي 150 ألفا في دول الخليج و75 ألفا في العراق وليبيا، ذلك غير الموجودين في خارج حدود العالم العربي، وعددهم حوالي 400 الف شخص، هذه الاعداد الكبيرة من البشر، التي تنتظر العودة منذ نصف قرن، لن تقبل بسهولة ان تغلق الابواب في وجوهها فجأة، ثم يقال للجميع: آسفون. ليس لكم مكان في فلسطين! ـ وهي نهاية مأساوية قد تدفع البعض الى الاستسلام. لكن الاكثرية لا بد ان تصاب باليأس المسكون بالغضب والحسرة، واليأس درجة خطرة في العمل العام، حيث يستشعر مهانة وفقدانا للامل تستوي في ظله الحياة مع الموت، الامر الذي يفرخ عنفا تعد عمليات الاغتيال والعمليات الاستشهادية في مقدمة تجلياته، اذ ان اليأس في هذه الحالة لن يجد غير شعار «علي وعلى اعدائي» يهتدي به ويفرغ من خلاله طاقة غضبه. وهو معذور ان فعل ذلك اذ على الذين أوصلوه الى تلك الحالة ان يتحملوا مسؤولية حصاد ما زرعوه.
ان المرء لا يستطيع أن يخفي تعجبه ازاء الموقف المدهش لبعض العرب، الذين يريدون تحويل موضوع العودة الى ورقة للمساومة في المفاوضات مع الفلسطينيين. وتكمن الدهشة في امرين، اولهما ان الجهد العالمي في شأن اللاجئين منصب بالدرجة الاولى على كيفية اعادتهم الى اوطانهم واستقرارهم فيها، ولكن ذلك الجهد اتخذ اتجاها معاكسا تماما في شأن الحالة الفلسطينية، على نحو غير مسبوق، واحسبه لن يكون ملحوقا ايضا، لان الجهد العالمي يتبنى الآن ـ بترحيب مستغرب ـ فكرة اقتلاعهم من وطنهم، وعدم اعادتهم اليه، وتشجيعهم بمختلف المغريات على ان يستقروا في المنافي التي القت بهم المقادير اليها، وهو امر على مرارته يمكن ان يفهم اوروبيا وامريكيا، لكن يستحيل قبوله أو فهمه فلسطينيا أو عربيا.
الامر الثاني ان حق العودة اصيل وثابت، وغير قابل للتنازل، ولا تستطيع اي جهة ان تساوم عليه. هو حق مكفول بمقتضى مواد الميثاق العالمي لحقوق الانسان، ومنها مادة تقضي بحق كل مواطن في العيش في بلاده، أو تركها، أو العودة اليها، وهو مرتبط بحق الملكية الفردية والانتفاع بها، والعيش على الارض المملوكة. وحق الملكية لا يزول بالاحتلال، فلا يجوز انتزاع ملكية شخص من قبل أي سلطة احتلال. فضلا عن ان الاحتلال ذاته غير مشروع في القانون الدولي، واذا تم الاقرار بالهزيمة واضفاء الشرعية على الاحتلال، فان ذلك لا يلغي حق الملكية الفردية، حيث ذلك الحق لا يزول ببسط أي دولة جديدة لسيادتها على البلد، فالدولة العثمانية حين تنازلت عن سيادتها على فلسطين عام 1920، لم يسقط حق الفلسطينيين في اراضيهم، كما ان انتهاء الانتداب البريطاني لا يعني على الاطلاق سقوط حقوق ملكيتهم الفردية.
حق العودة مكفول ايضا بحق تقرير المصير. وهو حق اعترفت به الامم المتحدة عام 1946 كمبدأ، وكحق، أي انه ليس قرارا سياسيا، أو اتفاقا بالتراضي. وقد اعترفت الامم المتحدة بتطبيقه صراحة على الشعب الفلسطيني منذ عام 1969 فصاعدا، بل ان الجمعية العامة ذهبت الى حد الاقرار بأن للفلسطينيين الحق في الكفاح المسلح لتنفيذه، لانه مشروع، ومستند الى مبدأ الدفاع عن النفس. لذلك فان حق العودة مكفول حسب القانون الدولي للفلسطينيين افرادا عن طريق ميثاق حقوق الانسان وجماعة عن طريق حق تقرير المصير.
وتجدر ملاحظة ان هذا الحق ليس منبثقا عن اتفاقيات سياسية، أو اتفاقيات تسليم بعد الهزيمة وهو حق لا يسقط بالتقادم، لكن الخطر الوحيد على سقوط هذا الحق هو التنازل عنه على يد جهة تمثل الشعب الفلسطيني أو بعضه، وهذا هو الهدف الذي تسعى مختلف الضغوط الغربية لتحقيقه حتى الآن.
ثمة نص صريح اصدرته الامم المتحدة عن حق العودة هو القرار رقم 3/194 الفقرة 11 الصادر في 1948/12/11 وقد اكدته المنظمة الدولية كل عام حتى اليوم بموافقة الاغلبية الساحقة لدول العالم ومعارضة اسرائيل دائما وامريكا اخيرا ونصه كما يلي:
تقرر (الجمعية العامة) ان اللاجئين الراغبين في العودة الى أوطانهم والعيش بسلام مع جيرانهم، يجب ان يسمح لهم بذلك، في اول فرصة عملية ممكنة، وانه يجب دفع تعويض لممتلكات الذين لا يرغبون في العودة، ودفع تعويض للخسارة والضرر الذي اصاب الممتلكات لاصلاحها وارجاعها الى اصلها من قبل الحكومات والسلطات المسؤولة، بناء على قواعد القانون الدولي والعدالة.
حين يدقق المرء في القرار يلاحظ ما يلي:
* ان الخيار في حق العودة يعود الى اللاجئين انفسهم، وليس لغيرهم. واذا قرروا العودة، فإن منعهم بالقوة يعتبر ضمنا عملا عدوانيا.
* ان العودة تتم في اول فرصة عملية ممكنة. وقد حانت تلك الفرصة عند توقف القتال وتوقيع اتفاقيات الهدنة في مصر اولا في فبراير (شباط) 1949، ومع سورية اخيرا في يوليو (تموز) 1949، ويعني ذلك ان منع اسرائيل اللاجئين من العودة الى ديارهم من 1949 الى 1966، هو خرق مستمر لهذا القرار، ويترتب عليه انها مسؤولة كذلك عن المعاناة النفسية التي قاسوها، على نفس المبادئ التي عوضت بها المانيا اليهود لافعال النازية حسب اتفاقية لكسمبورج في عام 1952.
* ان التعويض يدفع عن كل ممتلكات اللاجئين الذين لا يرغبون في العودة، اما الذين يرغبون في العودة فيدفع التعويض لهم عن الخسارة أو الضرر الذي لحق بممتلكاتهم، الى ان يعود صالحا كما كان، وبناء على ذلك فان التعبير الشائع «العودة أو التعويض» خاطئ وصحته «العودة والتعويض»، وتركز المذكرة التفسيرية للقرار على التعويض عن «النهب والسلب للممتلكات الخاصة، وتدمير الممتلكات والقرى دون حاجة عسكرية».
ان المسؤول عن التعويض هو «الحكومات والسلطات المسؤولة» وهنا يشمل حكومة اسرائيل المؤقته عام 1948، وخليفتها الحالية، ومنظمات الهاجاناه والارغون والشتيرن، والصندوق القومي اليهودي وغيرها.
الذين يدركون استحالة اسقاط حق العودة من الاسرائيليين يحاولون المساومة على الارقام، فمنهم من يقبل بعدد رمزي في حدود 100 ألف لاجئ (يوسي كاتسي)، ومنهم من يدعو الى اعادة 150 ألفا (شلومو بن عامي) و«الكرماء» للغاية يتحدثون عن السماح بعودة 200 ألف لاجئ على مدى عشرين عاما، وهو ما يعادل نصف في المائة من لاجئي النكبة، وللعلم فان الرئيس الامريكي الاسبق هاري ترومان، الذي لا يشك في تحيزه لاسرائيل، كان قد اقترح على موسى شروتوك رئيس الوزراء السماح باعادة 300 الف لاجئ (أي ما يعادل مليونين بمعدلات هذا الزمان)، وهم سكان المناطق التي احتلتها اسرائيل متجاوزة في ذلك خطوط التقسيم.
ان الكلام عن اعادة اقل من واحد في المائة من اللاجئين الان، بزعم «الحل الوسط» بمثابة هزل سخيف في موضع الجد، الامر الذي ينبغي استبعاده من الاساس، ويتعين رفض مناقشته من أي باب، ليس فقط لتدني النسبة على نحو لا يكاد يذكر، ولكن ـ وهذا هو الاهم ـ لانه يفتح باب المساومة على مبدأ وحق لا مجال للمساومة عليه.
من السخافات غير المقبولة ايضا ذلك الربط الذي يعمد اليه البعض بين قيام الدولة الفلسطينية وحق عودة اللاجئين، فالاولى قضية سياسية قد تخضع عناصرها للمساومة، خصوصا فيما يتعلق بالحدود أو السيادة أو السكان، اما حق العودة فهو مبدأ انساني، مثل الحق في الحياة، لا يحتمل مساومة أو مفاوضة أو حلا وسطا.
يقوي الموقف العربي ويعززه في مسألة حق العودة، ليس فقط كونه مبدأ انسانيا وقانونيا واخلاقيا ـ وهذه عناصر غاية في الاهمية ـ ولكن كون هذه العودة ممكنة على صعيد التطبيق العملي، دون ان يؤثر ذلك على توزيع السكان في اسرائيل. وهو البعد الجديد في المسألة الذي عكف عليه الباحث الفلسطيني البارز الدكتور سلمان أبو سنة طيلة السنوات العشر الاخيرة، واثبت فيه امكانية تحقيق تلك العودة، وبطلان الزعم الاسرائيلي القائل ان البلاد ملآنة بالبشر ولا مكان فيها لأولئك اللاجئين. ورغم ان الحقوق لا تسقط بسبب صعوبة تطبيقها، الا انه تبين من الدراسة ان 78% من الاسرائيليين يعيشون على 14% فقط من الارض، وانه بالامكان عودة جميع اللاجئين الى قراهم، التي لا تزال مواقعها خالية حتى الآن، باستثناء 3% منهم فقط، الذين كانوا يسكنون حول تل ابيب والقدس، وهو مشروع كبير اجرى الدكتور أبو سنة ابحاثا كثيرة بصدده، لا مجال للخوض فيها الا اذا غيرنا السؤال الخاص بحق العودة من هل الى كيف؟
ذلك ان الاول يفتح الباب للتفريط في القضية بينما الثاني هو مفتاح اساسي لحلها.
أضافة تعليق