مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
هل كان القبول ضروريا بسبب تعذر رفض مقترحات واشنطن؟
هويدي 8-1-2001

نحتاج الى تفسير وتحرير مسألة «الموافقة المشروطة» التي اعلنها الرئيس ياسر عرفات في رده على مقترحات الرئيس كلينتون، بصدد اطار الحل النهائي للقضية الفلسطينية، ذلك ان مسألة «نعم ولكن» قد تكون محتملة أو مقبولة في مسائل عادية، مما يمكن معالجتها بالدبلوماسية الرقيقة، التي تعبر عن الموافقة من باب جبر الخاطر، ثم تضع بعض التحفظات لتحسين الموقف وتجميله. لكن الامر يختلف لا ريب اذا ما تعلق بحل نهائي لواحد من أعقد واشرس الصراعات التاريخية في العصر الحديث، حيث يتوقع ان يكون حساب الكلمات بل الحروف والفواصل والنقاط، بمنتهى الحذر والدقة. يدعونا الى ذلك ليس تعقيد الصراع وشراسته فحسب، ولكن ايضا استمراره الذي يتجلى هذه الايام في الانتفاضة، بكل ما في الكلمة من شحنة غضب عارم وما في تداعيات الفعل من مواكب تنتظم ارواح مئات الشهداء وآلاف الجرحى والمعوقين.
والأمر كذلك، فمن المهم للغاية ان نعرف على ماذا كانت الموافقة وما هي التحفظات التي قدمها أبو عمار. وقد حاولت من جانبي ان اتحرى هذه النقطة، خصوصا في جانب الموافقة، فاعدت قراءة المقترحات الامريكية للمرة العاشرة، بحثا عن شيء فيها يمكن ان يوافق عليه أي فلسطيني أو عربي عادي، لم تطمس معالم القضية من ذاكرته أو وجدانه بعد. ولا اخفي انني في كل قراءة كنت اكتشف فيها مزيدا من العورات وليس الايجابيات، حتى استقر لديّ يقين مفاده ان المقترحات كارثية بامتياز، في منطلقها ومحتواها. لماذا؟
هي كارثة في منطلقها لانها تقدم لاول مرة تفسيرا امريكيا لقرارات الامم المتحدة رقم 194 و242 و338 وهو تفسير يخدم المصالح الاسرائيلية ويكافئ اسرائيل على احتلالها للاراضي وتشريدها للاجئين، ولان هذا التفسير يصدر عن واشنطن، التي ظلت طيلة نصف القرن تؤيد قرارات المنظمة الدولية ولا تتطوع بتفسيرها، فان الادارة الامريكية ارادت به فسخ قرارات الشرعية الدولية، واضفاء مرجعية على مقترحاتها الجديدة، بحيث تصبح هي المرجعية الوحيدة المعترف بها.
وهي كارثية في محتواها لانها لا تمثل اي خطوة ايجابية باتجاه استرداد الحقوق الفلسطينية المهدورة ـ ولو عند الحد الادنى ـ ولا تقدم أي حل عادل لاي عنصر من عناصر القضية، ناهيك من تغييبها التام لبعض العناصر الجوهرية (المياه مثلا) هذا الى جانب ما تحفل به من فخاخ والغام، تخدم في نهاية المطاف اهداف اسرائيل ومخططاتها. من هذه الفخاخ، مثلا، النص على استمرار الوجود الاسرائيلي في الارض المحتلة لمدة ثلاث سنوات ثم السماح باستمرار بقاء القوات الاسرائيلية في وادي الاردن لثلاث سنوات اخرى اضافية باعتبارها قوات دولية، ثم وجود ثلاث محطات انذار في الضفة الغربية لمدة عشر سنوات مع السماح للقوات الاسرائيلية بالانتشار في الاراضي الفلسطينية عند اعلان حالة الطوارئ، هذا الى جانب فتح الاجواء الفلسطينية لحاجات اسرائيل التدريبية والعملياتية...الخ.
ان المقترحات الامريكية في ما يخص القضايا الاربع الاساسية، الارض والقدس واللاجئين والامن، ليست سوى اعادة صياغة لمقترحات اسرائيلية سبق تقديمها في جولات المفاوضات السابقة. وحين يراد بها وهي بهذا الشكل ان تكون اطارا لحل المشكلة نهائيا، مع التوقيع على وثيقة تنهي الصراع، فانها تتحول في الحقيقة الى مقبرة لدفن الحلم الفلسطيني بصورة نهائية. ومن ثم فان الحديث عن قبول أي شيء فيها يصبح باعثا على الدهشة بل الذهول والصدمة.
خطر لي بانني قد أكون متحمسا أو منفعلا اكثر من اللازم، فعمدت الى قراءة التقرير الذي نشرته «الشرق الاوسط» يوم الخميس الماضي (1/4)، والذي كان بمثابة رسالة بعث بها ياسر عبد ربه، رئيس فريق المفاوضين الفلسطينيين، الى المسؤولين الاميركيين قبل وصول الرئيس ياسر عرفات الى واشنطن للقاء الرئيس كلينتون والاستماع الى وجهة نظره وايضاحه لما قدمه من مقترحات، ووجدت الرسالة تقول ما نصه «ان المقترحات فشلت في تلبية الشروط الضرورية للسلام الدائم، من حيث انها:
ـ تقسم الدولة الفلسطينية الى ثلاث مقاطعات تربطها وتقسمها في نفس الوقت طرق عربية خالصة واخرى اسرائيلية خالصة مما يبطل وجود الدولة الفلسطينية.
ـ تقسم القدس الفلسطينية الى جزر معزولة عن بعضها البعض، ومن بقية فلسطين.
ـ تجبر اللاجئين الفلسطينيين على التنازل عن حق العودة.
قال التقرير ايضا في الخلاصة ما نصه ان المقترحات تستجيب لمطالب اسرائيل بينما تهمل المطلب الفلسطيني الاساسي: الدولة الفلسطينية المعززة الوجود.
التفاصيل التي اوردتها الرسالة في الموضوعات الثلاثة لا تخرج في تقييمها النهائي عن الاطار الذي قلناه من حيث انها تكرس الاحتلال وتقننه وتحميه، وتعطي اسرائيل ما تريد، بينما تجهض للفلسطيني كل حلم. كل فقرة في رسالة ياسر عبد ربه فيها اعتراض وتحفظ ولم اجد في الرسالة اشارة الى أي شيء ايجابي في المقترحات، الامر الذي دفعني الى التساؤل: ما هي اذن المساحة أو النقاط التي رأى فيها أبو عمار بادرة ايجابية فقبل بها ثم تحفظ على الباقي؟
سألت بعض العارفين فقالوا ان الرد الحقيقي على المقترحات كان ينبغي ان يكون: لا ولا، لكن أبو عمار لم يكن يستطيع ان يقولها على هذا النحو، فاستبدل بها نعم ولا. قالوا ايضا ان هناك أوضاعا كثيرة في خرائط المنطقة يتعذر في ظلها على اي رئيس ان يقول لسيد البيت الابيض «لا»، وهذا ينسحب على الفلسطينيين كما ينسحب على الاسرائيليين ايضا، ولان هوى الرئيس الامريكي مع اسرائيل فهو ضامن مسبقا للموافقة الاسرائيلية وفي هذه الظروف لم يكن امام أبو عمار خيار غير الذي اعلنه.
من ناحية ثانية ـ اضافوا ـ فان الرئيس الفلسطيني واجه ضغوطا دولية لانتزاع الموافقة منه بدت قوية للغاية بحيث يتعذر على أبو عمار صدها ورفضها جميعها، يكفي ان حوالي 60 وزير خارجية ومسؤولا دوليا بارزا اتصلوا به هاتفيا قبل ذهابه الى واشنطن لاقناعه باعلان الموافقة، وعدم تفويت ما زعموا انه «فرصة» لاحلال السلام بالمنطقة.
من ناحية ثالثة فان بعضا من المحيطين بالرئيس الفلسطيني مستعدون في ما يبدو للقبول بأي شيء يسمح باقامة الدولة الفلسطينية، وفي تقديرهم ان البديل هو اللاشيء.
وفي حدود علمي فان المحيطين بعرفات تتنازعهم تيارات ثلاثة، اولها يدعو الى عدم التسرع والتأجيل قدر الامكان لكسب الوقت، حتى تنتهي ولاية كلينتون، وهؤلاء يعتبرون ان المراهنة على الرئيس الجديد جورج بوش فرصتها افضل، وبعضهم يقول ان ثمة اشارات مشجعة من جانب قيادات الحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه الرئيس الجديد تعزز فكرة التأجيل.
التيار الثاني يبدي قلقا من سقوط ايهود باراك في الانتخابات وفوز ارييل شارون برئاسة الحكومة، الامر الذي يمكن ان يؤجج الصراع بدرجة اكبر، ويفتح الباب واسعا لاحتمالات تدمير كل ما انجزه الفلسطينيون، وهو ما يمكن ان يضاعف الى ما لا نهاية الخسائر في الارواح الفلسطينية عند الحد الادنى، وهؤلاء في مقدمة الذين يميلون الى القبول بالمقترحات.
التيار الثالث تتبناه اصوات عالية في منظمة فتح بوجه اخص تقول ان المسألة ينبغي ان تحسب على نحو مختلف، والمراهنة على الرئيس بوش أو القلق من وصول شارون الى السلطة ليست هي الفصل في حسم الموقف من المقترحات المتعلقة بمصير القضية، وانما الفيصل هو مصلحة الشعب الفلسطيني أولا واخيرا، وهؤلاء يرفضون منطق «نعم ولكن»، ولا يرون غضاضة في اشهار كلمتي «لا ولا» لان الشعب الفلسطيني ـ بعد كل الذي دفعه وهو كثير ـ ليس مستعدا في الوقت الراهن لان يفرط أو يتنازل عن قضيته، وهو الان «ظهره الى الحائط» وبعد ان خسر كل شيء، فالامريكيون يريدون بالمقترحات ان يخسر الفلسطينيون انفسهم بحيث يوقعون على صك الهزيمة الكاملة والتنازل عن اية حقوق لهم في الحاضر أو المستقبل.
وهي مفارقة ـ لا ريب ـ ان يراهن البعض على الدور الامريكي أو الخرائط السياسية الاسرائيلية، مغفلين الدور الجوهري للمقاومة الفلسطينية، بينما تظهر كتابات في الصحف الاسرائيلية ـ «هآرتس» و«معاريف» و«يديعوت احرونوت» ـ مذكرة الجميع بأن حكومة اسرائيل لم تتراجع الى الوراء في صراعها الممتد ضد العرب، الا تحت ضغط المقاومة العربية على الجبهات: المصرية (حرب 73) والفلسطينية (بعد انتفاضة 87) واللبنانية (امام حزب الله سنة 2000).
ان اسرائيل لا تفهم سوى لغة القوة، والذين يراهنون على غير ذلك لن يحصلوا منها الا على قبض الريح.
أضافة تعليق