-الشيخ أحمد الزومان
مقصود الاعتكاف الأعظَم: عُكوف القلب على الله - تعالى - وجمعه عليه، والخلوة به، والانقِطاع عن الاشتِغال بالخلق، والاشتِغال به وحدَه - سبحانه - بحيث يَصِير ذكرُه وحبُّه والإقبال عليه في محلِّ هموم القلب وخَطراته، فيستَولِي عليه بدلها، ويَصِير الهم كلُّه به، والخطرات كلُّها بذكره، والتفكُّر في تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيَصِير أنسُه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه[1].
ومن مَقاصِد الاعتكاف تحصيلُ ليلة القدر، والتفرُّغ في ليلتها للطاعات؛ فعن أبي سعيدٍ الخدري - رضِي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - اعتَكَف العشر الأُوَل من رمضان، ثم اعتَكَف العشر الأوسط في قبَّة تركيَّة على سدَّتها حصير، قال: فأخَذ الحصير بيده فنحَّاها في ناحية القبَّة، ثم أطلع رأسه فكلَّم الناس فدنوا منه، فقال: ((إنِّي اعتكفتُ العشر الأُوَل ألتَمِس هذه الليلة، ثم اعتَكفتُ العشر الأوسط، ثم أُتِيتُ فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمَن أحبَّ منكم أن يعتَكِف فليعتَكِف))، فاعتكف الناس معه، قال: ((وإنِّي أُرِيتها ليلةَ وترٍ، وإنِّي أسجُدُ صبيحتها في طينٍ وماء))، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه ورَوْثَة أنفه فيهما الطينُ والماءُ، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر[2].
سنَّة الاعتكاف:
الاعتكاف مسنونٌ للرجال والنساء في مساجد الصلوات الخمس والجوامع؛ فعن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: ’’كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعتَكِف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله، ثم اعتَكَف أزواجه من بعده’’[3]، فتعتَكِف المرأة في المسجد إذا لم يُخشَ عليها.
وعلى المعتَكِف أنْ يُرجِّح بين المصالح والمفاسد؛ فمثلاً مَن كان عنده أبَوان يحتاجانه، أو كان له أولادٌ يحتاجون إلى رِعاية ومُتابعة على الصلاة وغيرها، فهذا يَترُك الاعتكاف، فالاعتكاف أفضل من تَركِه غالبًا في حقِّ مَن ليس لدَيْه أولاد كبار، فليستغلَّ المرء هذه الفترة لأنَّه سيمرُّ عليه وقتٌ قد لا يتمكَّن من الاعتِكاف، وكذلك كبار السن ممَّن استقلَّ أولادهم عنهم.
وقت الاعتكاف:
الاعتكاف مشروعٌ في السنة كلها؛ قال ابن عبدالبر: ’’أجمع العلماء على أنَّ رمضان كلَّه موضعٌ للاعتكاف، وأنَّ الدهر كلَّه موضعٌ للاعتكاف، إلاَّ الأيام التي لا يجوز صيامها’’[4]؛ بِناءً على الخلاف: هل الصيام شرطٌ لصحَّة الاعتكاف أو لا؟ إلاَّ أنَّه في العشر الأواخر من رمضان آكَدُ؛ لأنَّه الذي استقرَّ عمل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليه، ولَمَّا لم يعتكف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - العشر الأواخر من رمضان قَضاه في شوال.
وقت الدخول والخروج لِمَن اعتَكَف العشر:
من اعتكف العشر الأواخر من رمضان يدخل قبل غروب شمس اليوم العشرين؛ لأنَّ العشر الأواخر من رمضان تَبدَأ بليلة إحدى وعشرين، وما جاء في حديث عائشة - رضِي الله عنها -: ’’إذا أراد أنْ يعتكف صلَّى الفجر ثم دخل مُعتَكَفه’’[5]، فالمراد به المكان الخاص الذي يخلو به، والله أعلم.
ويخرج ليلة العيد فحينما يعلن أنَّ غدًا العيد تكون انتهَتِ العشر الأواخر ودخَل شهر شوال.
أقل الاعتكاف وأكثره:
أقلُّ المنقول عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيه ليلة؛ فعن ابن عمر- رضِي الله عنهما -أنَّ عمر - رضِي الله عنه - سأل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: كنتُ نذرت في الجاهليَّة أنْ أعتَكِف ليلةً في المسجد الحرام؟ قال: ((فأوفِ بنذرك))[6] ، وفيه دليلٌ على أنَّ الاعتِكاف لا يُشتَرَط له الصوم، ولا حدَّ لأكثر الاعتكاف؛ لعموم الأدلَّة.
هدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الاعتكاف:
كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ينفَرِد وهو معتَكِف في مكانٍ خاصٍّ؛ ففي حديث أبي سعيد - رضِي الله عنه -: ’’في قبَّة تركيَّة’’، مشتَغِلاً بالذكر، ومن ذلك القرآن؛ فعن ابن عباسٍ قال: ’’كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أَجوَدَ الناس، وكان أجوَدَ ما يكون في رمضان حين يَلقاه جبريل، وكان يَلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضان فيُدارِسه القرآن، فلَرسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود بالخير من الرِّيح المُرسَلَة’’[7].
مشتَغِلاً بالصلاة فتَشغَله العبادة حتى عن الطعام والشراب في بعض الأحيان؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ’’نهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الوصال في الصوم، فقال له رجلٌ من المسلمين: إنَّك تُواصِل يا رسول الله؟ قال: ((وأيُّكم مثلي؛ إنِّي أَبِيتُ يُطعِمني ربي ويَسقِين))، فلمَّا أبَوْا أنْ ينتهوا عن الوصال واصَل بهم يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال’’[8].
والمراد من قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُطعِمني ربي ويسقين))، طعام وشراب معنوي لا حسي، فانشِغاله بذِكرِه ومُناجاته التي هي غِذاء القلوب تُنسِيه الأكل والشرب، فمَن اشتَغَل قلبُه بشيءٍ مهمٍّ أنساه الطعامَ والشرابَ؛ كالْمُصاب بفَقْدِ عزيزٍ أو الظفر به، والله أعلم.
زيارة المعتكف والاتِّصال بالهاتف:
يستَقبِل المعتكف مَن يزوره؛ فعن صفية - رضِي الله عنها - أنَّها جاءتْ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تزورُه في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثَتْ عنده ساعةً ثم قامت تنقَلِب...[9]، وكذلك للمعتكف أنْ يتَّصِل بغيره ويستَقبِل المكالمات، وليكن ذلك للحاجَة؛ لأنَّ الإكثار من استِقبال الزائرين والإكثار من المكالمات يُنافِي الحكمة من مشروعيَّة الاعتكاف.
قال ابن القيِّم: ’’ما يفعَلُه الجهَّال من اتِّخاذ المعتَكَف موضع عِشرَةٍ، ومَجلَبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لونٌ، والاعتكاف النبويُّ لونٌ، والله الموفِّق’’[10].
قضاء الاعتكاف:
يُستَحبُّ القضاء لِمَن فاتَه اعتِكاف العشر بعذرٍ؛ فعن عائشة - رضِي الله عنها -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكَر أنْ يعتَكِف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنَتْه عائشةُ فأَذِنَ لها، وسألتْ حفصة عائشةَ أنْ تستَأذِن لها ففعلَتْ، فلمَّا رَأَتْ ذلك زينب ابنة جحش أمرت ببناءٍ فبُنِي لها، قالت: وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا صلى انصَرَف إلى بنائه، فبَصُرَ بالأبنية فقال: ((ما هذا؟))، قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البِرَّ أردنَ بهذا؟ ما أنا بمعتكفٍ))، فرجع، فلمَّا أفطر اعتَكَف عشرًا من شوال[11].
خروج المعتكف ببدنه:
1 - الخروج لما لا بُدَّ له منه حسًّا: كحاجة الإنسان من بول وغائط، فهذا جائزٌ بإجماع أهل العلم[12]، وعن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: ’’كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا اعتَكَف يُدنِي إلَيَّ رأسَه فأُرجِّله، وكان لا يَدخُل البيت إلا لحاجة الإنسان’’[13].
وله الخروجُ إذا احتاج إلى الأكل والشرب إذا لم يكن له مَن يأتيه به، أو لما لا بُدَّ له منه شرعًا كالطهارة.
2 - الخروج من غير حاجة: يُفسِد الاعتكاف؛ لأنَّ ملازمة المسجد ركن الاعتكاف الأعظم، ولمفهوم حديث عائشة - رضِي الله عنها - ويستوي في ذلك القليل والكثير، وهذا هو الأصل في مُفسِدات العبادة؛ كنواقض الوضوء، ومُفسِدات الصيام.
خروج بعض بدن المعتَكِف:
لا يفسد الاعتكاف بذلك كمَن أخرج رأسه من باب المسجد أو من النافذة؛ لحديث عائشة - رضِي الله عنها -: ’’كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا اعتَكَف يُدنِي إلَيَّ رأسه فأُرجِّله’’.
[1] انظر: ’’زاد المعاد’’ (2/86 - 87).
[2] رواه البخاري (2027) ومسلم (1167).
السُّدَّة: الباب الذي يسدُّ، وكف المسجد: قطر سقفه بالماء، روثة الأنف: طرفه ومقدمه.
[3] رواه البخاري (2026) ومسلم (1172).
[4] ’’التمهيد’’ (23/56)، وانظر: ’’المبدع’’ (3/63)، و’’تحفة المحتاج’’ (1/535)، و’’نهاية المحتاج’’ (3/214)، و’’مطالب أولي النهى’’ (3/150).
[5] رواه البخاري (2045) ومسلم (1173) واللفظ له.
[6] رواه البخاري (2032) ومسلم (1656).
[7] رواه البخاري (6) ومسلم (2308).
[8] رواه البخاري (1965) ومسلم (1103).
[9] رواه البخاري (2035) ومسلم (2175).
[10] ’’زاد المعاد’’ (2/90).
[11] رواه البخاري (2045) ومسلم (1173)
[12] انظر: ’’الإجماع’’ ص: 54، و’’مراتب الإجماع’’ ص: 41، و’’شرح السنة’’ (6/398)، و’’المغني’’ (3/133)، و’’فتح الباري’’ (4/273)، و’’العدة شرح العمدة’’ (1/208)، و’’كشف اللثام’’ (4/78).
[13] رواه البخاري (2029) ومسلم (297).
*الألوكة
مقصود الاعتكاف الأعظَم: عُكوف القلب على الله - تعالى - وجمعه عليه، والخلوة به، والانقِطاع عن الاشتِغال بالخلق، والاشتِغال به وحدَه - سبحانه - بحيث يَصِير ذكرُه وحبُّه والإقبال عليه في محلِّ هموم القلب وخَطراته، فيستَولِي عليه بدلها، ويَصِير الهم كلُّه به، والخطرات كلُّها بذكره، والتفكُّر في تحصيل مراضيه وما يُقرِّب منه، فيَصِير أنسُه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق، فيعده بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور حين لا أنيس له، ولا ما يفرح به سواه[1].
ومن مَقاصِد الاعتكاف تحصيلُ ليلة القدر، والتفرُّغ في ليلتها للطاعات؛ فعن أبي سعيدٍ الخدري - رضِي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - اعتَكَف العشر الأُوَل من رمضان، ثم اعتَكَف العشر الأوسط في قبَّة تركيَّة على سدَّتها حصير، قال: فأخَذ الحصير بيده فنحَّاها في ناحية القبَّة، ثم أطلع رأسه فكلَّم الناس فدنوا منه، فقال: ((إنِّي اعتكفتُ العشر الأُوَل ألتَمِس هذه الليلة، ثم اعتَكفتُ العشر الأوسط، ثم أُتِيتُ فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمَن أحبَّ منكم أن يعتَكِف فليعتَكِف))، فاعتكف الناس معه، قال: ((وإنِّي أُرِيتها ليلةَ وترٍ، وإنِّي أسجُدُ صبيحتها في طينٍ وماء))، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح، فمطرت السماء فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه ورَوْثَة أنفه فيهما الطينُ والماءُ، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر[2].
سنَّة الاعتكاف:
الاعتكاف مسنونٌ للرجال والنساء في مساجد الصلوات الخمس والجوامع؛ فعن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: ’’كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعتَكِف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله، ثم اعتَكَف أزواجه من بعده’’[3]، فتعتَكِف المرأة في المسجد إذا لم يُخشَ عليها.
وعلى المعتَكِف أنْ يُرجِّح بين المصالح والمفاسد؛ فمثلاً مَن كان عنده أبَوان يحتاجانه، أو كان له أولادٌ يحتاجون إلى رِعاية ومُتابعة على الصلاة وغيرها، فهذا يَترُك الاعتكاف، فالاعتكاف أفضل من تَركِه غالبًا في حقِّ مَن ليس لدَيْه أولاد كبار، فليستغلَّ المرء هذه الفترة لأنَّه سيمرُّ عليه وقتٌ قد لا يتمكَّن من الاعتِكاف، وكذلك كبار السن ممَّن استقلَّ أولادهم عنهم.
وقت الاعتكاف:
الاعتكاف مشروعٌ في السنة كلها؛ قال ابن عبدالبر: ’’أجمع العلماء على أنَّ رمضان كلَّه موضعٌ للاعتكاف، وأنَّ الدهر كلَّه موضعٌ للاعتكاف، إلاَّ الأيام التي لا يجوز صيامها’’[4]؛ بِناءً على الخلاف: هل الصيام شرطٌ لصحَّة الاعتكاف أو لا؟ إلاَّ أنَّه في العشر الأواخر من رمضان آكَدُ؛ لأنَّه الذي استقرَّ عمل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عليه، ولَمَّا لم يعتكف النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - العشر الأواخر من رمضان قَضاه في شوال.
وقت الدخول والخروج لِمَن اعتَكَف العشر:
من اعتكف العشر الأواخر من رمضان يدخل قبل غروب شمس اليوم العشرين؛ لأنَّ العشر الأواخر من رمضان تَبدَأ بليلة إحدى وعشرين، وما جاء في حديث عائشة - رضِي الله عنها -: ’’إذا أراد أنْ يعتكف صلَّى الفجر ثم دخل مُعتَكَفه’’[5]، فالمراد به المكان الخاص الذي يخلو به، والله أعلم.
ويخرج ليلة العيد فحينما يعلن أنَّ غدًا العيد تكون انتهَتِ العشر الأواخر ودخَل شهر شوال.
أقل الاعتكاف وأكثره:
أقلُّ المنقول عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيه ليلة؛ فعن ابن عمر- رضِي الله عنهما -أنَّ عمر - رضِي الله عنه - سأل النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: كنتُ نذرت في الجاهليَّة أنْ أعتَكِف ليلةً في المسجد الحرام؟ قال: ((فأوفِ بنذرك))[6] ، وفيه دليلٌ على أنَّ الاعتِكاف لا يُشتَرَط له الصوم، ولا حدَّ لأكثر الاعتكاف؛ لعموم الأدلَّة.
هدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الاعتكاف:
كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ينفَرِد وهو معتَكِف في مكانٍ خاصٍّ؛ ففي حديث أبي سعيد - رضِي الله عنه -: ’’في قبَّة تركيَّة’’، مشتَغِلاً بالذكر، ومن ذلك القرآن؛ فعن ابن عباسٍ قال: ’’كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أَجوَدَ الناس، وكان أجوَدَ ما يكون في رمضان حين يَلقاه جبريل، وكان يَلقاه في كلِّ ليلةٍ من رمضان فيُدارِسه القرآن، فلَرسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أجود بالخير من الرِّيح المُرسَلَة’’[7].
مشتَغِلاً بالصلاة فتَشغَله العبادة حتى عن الطعام والشراب في بعض الأحيان؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ’’نهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الوصال في الصوم، فقال له رجلٌ من المسلمين: إنَّك تُواصِل يا رسول الله؟ قال: ((وأيُّكم مثلي؛ إنِّي أَبِيتُ يُطعِمني ربي ويَسقِين))، فلمَّا أبَوْا أنْ ينتهوا عن الوصال واصَل بهم يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال’’[8].
والمراد من قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُطعِمني ربي ويسقين))، طعام وشراب معنوي لا حسي، فانشِغاله بذِكرِه ومُناجاته التي هي غِذاء القلوب تُنسِيه الأكل والشرب، فمَن اشتَغَل قلبُه بشيءٍ مهمٍّ أنساه الطعامَ والشرابَ؛ كالْمُصاب بفَقْدِ عزيزٍ أو الظفر به، والله أعلم.
زيارة المعتكف والاتِّصال بالهاتف:
يستَقبِل المعتكف مَن يزوره؛ فعن صفية - رضِي الله عنها - أنَّها جاءتْ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تزورُه في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثَتْ عنده ساعةً ثم قامت تنقَلِب...[9]، وكذلك للمعتكف أنْ يتَّصِل بغيره ويستَقبِل المكالمات، وليكن ذلك للحاجَة؛ لأنَّ الإكثار من استِقبال الزائرين والإكثار من المكالمات يُنافِي الحكمة من مشروعيَّة الاعتكاف.
قال ابن القيِّم: ’’ما يفعَلُه الجهَّال من اتِّخاذ المعتَكَف موضع عِشرَةٍ، ومَجلَبة للزائرين، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لونٌ، والاعتكاف النبويُّ لونٌ، والله الموفِّق’’[10].
قضاء الاعتكاف:
يُستَحبُّ القضاء لِمَن فاتَه اعتِكاف العشر بعذرٍ؛ فعن عائشة - رضِي الله عنها -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكَر أنْ يعتَكِف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنَتْه عائشةُ فأَذِنَ لها، وسألتْ حفصة عائشةَ أنْ تستَأذِن لها ففعلَتْ، فلمَّا رَأَتْ ذلك زينب ابنة جحش أمرت ببناءٍ فبُنِي لها، قالت: وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا صلى انصَرَف إلى بنائه، فبَصُرَ بالأبنية فقال: ((ما هذا؟))، قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((البِرَّ أردنَ بهذا؟ ما أنا بمعتكفٍ))، فرجع، فلمَّا أفطر اعتَكَف عشرًا من شوال[11].
خروج المعتكف ببدنه:
1 - الخروج لما لا بُدَّ له منه حسًّا: كحاجة الإنسان من بول وغائط، فهذا جائزٌ بإجماع أهل العلم[12]، وعن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: ’’كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا اعتَكَف يُدنِي إلَيَّ رأسَه فأُرجِّله، وكان لا يَدخُل البيت إلا لحاجة الإنسان’’[13].
وله الخروجُ إذا احتاج إلى الأكل والشرب إذا لم يكن له مَن يأتيه به، أو لما لا بُدَّ له منه شرعًا كالطهارة.
2 - الخروج من غير حاجة: يُفسِد الاعتكاف؛ لأنَّ ملازمة المسجد ركن الاعتكاف الأعظم، ولمفهوم حديث عائشة - رضِي الله عنها - ويستوي في ذلك القليل والكثير، وهذا هو الأصل في مُفسِدات العبادة؛ كنواقض الوضوء، ومُفسِدات الصيام.
خروج بعض بدن المعتَكِف:
لا يفسد الاعتكاف بذلك كمَن أخرج رأسه من باب المسجد أو من النافذة؛ لحديث عائشة - رضِي الله عنها -: ’’كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذا اعتَكَف يُدنِي إلَيَّ رأسه فأُرجِّله’’.
[1] انظر: ’’زاد المعاد’’ (2/86 - 87).
[2] رواه البخاري (2027) ومسلم (1167).
السُّدَّة: الباب الذي يسدُّ، وكف المسجد: قطر سقفه بالماء، روثة الأنف: طرفه ومقدمه.
[3] رواه البخاري (2026) ومسلم (1172).
[4] ’’التمهيد’’ (23/56)، وانظر: ’’المبدع’’ (3/63)، و’’تحفة المحتاج’’ (1/535)، و’’نهاية المحتاج’’ (3/214)، و’’مطالب أولي النهى’’ (3/150).
[5] رواه البخاري (2045) ومسلم (1173) واللفظ له.
[6] رواه البخاري (2032) ومسلم (1656).
[7] رواه البخاري (6) ومسلم (2308).
[8] رواه البخاري (1965) ومسلم (1103).
[9] رواه البخاري (2035) ومسلم (2175).
[10] ’’زاد المعاد’’ (2/90).
[11] رواه البخاري (2045) ومسلم (1173)
[12] انظر: ’’الإجماع’’ ص: 54، و’’مراتب الإجماع’’ ص: 41، و’’شرح السنة’’ (6/398)، و’’المغني’’ (3/133)، و’’فتح الباري’’ (4/273)، و’’العدة شرح العمدة’’ (1/208)، و’’كشف اللثام’’ (4/78).
[13] رواه البخاري (2029) ومسلم (297).
*الألوكة