مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
الحوافز الأمريكيَّة لتقسيم السودان!
هانئ رسلان
الأنباءُ القادمة من واشنطن تؤكِّد قيام الولايات المتحدة بوضع خطَّة جديدة لرفع العقوبات عن السودان خطوةً بخطوة عبر جدول زمني مشروط بتنفيذ الحكومة السودانيَّة لخطوات معيَّنة مع الاستمرار في التهديد إذا رفض السودان تنفيذ هذه الخطوات‏.‏

وبحسب الخبر المنشور في جريدة ’’الشرق الأوسط’’ فإن التطبيع سيبدأ في الحال بمبادرة من الرئيس أوباما تقضي برفْع الحظْر المفروض على تصدير الآلات والمعدَّات الزراعيَّة‏،‏ كنوعٍ من الهديَّة الافتتاحيَّة أو التشجيعيَّة وبدون قيدٍ أو شرط من الرئيس الأمريكي ‏(فيا لها من خطوةٍ جبَّارة سوف تقربُ السودان إلى النعيم الأمريكي الموعود‏)..‏ ثم ينتظر أوباما حتى يأتي الاستفتاءُ وتعترف الخرطوم بنتائجِه‏،‏ فيتفضَّل السيد الأمريكي بإصدار بيان برفْع الحظْر عن باقي الصادرات الأمريكيَّة عن السودان‏،‏ ولكن ‏(وما أدراك ما لكن‏)‏ دون أن يشملَ ذلك النفط‏،‏ وذلك في انتظار خطواتٍ أخرى من الخرطوم‏.‏

وفي حال اختار الجنوب الانفصال واعترف السودان به‏،‏ فإن الإدارة الأمريكيَّة لن تتعجَّل‏،‏ بل سوف تنتظر حتى توقعَ الخرطوم على حدود معترَف بها بين الدولتين الشماليَّة والجنوبيَّة، وكذلك اتفاقيَّة لتقسيم النفْط بين الطرفين مع التعهُّد بعدم التدخل في شئون الجنوب‏،‏ وعندها سيقوم البيت الأبيض بإرسال سفير إلى الخرطوم، ولكن الأمر لن ينتهي عند ذلك؛ إذ إن العلاقات لن تبلغَ مرحلة التطبيع الكامل، ولن يتم إلغاء كل قوانين المقاطعة إلا إذا تَمَّ حلّ مشكلة دارفور بما يرضي الأطراف المعنيَّة‏..‏ غير أن الغريب في الأمر أنه حتى عند بلوغ هذه النقطة فإن اسم السودان سيبقى في قائمة الدول الراعية للإرهاب‏،‏ حيث قد يكون ذلك جزءًا من الخطوة الأخيرة بعد حلّ مشكله دارفور‏.‏

هذه الوصفة الأمريكيَّة التي تمت تسميتها حوافز ليست سوى تعبير عن صلَف وغرور وعنجهيَّة قبيحة وغير مقبولة‏،‏ تفترض سلفًا أن الهدف السوداني الوحيد يتمثَّل في الحصول على رضا السيد الأمريكي‏،‏ باعتبار أن ذلك يمثِّل غاية ينبغي السعي لها في ذاتها‏،‏ وليست وسيلةً للوصول إلى أهداف أخرى لتحقيق السلام والاستقرار والتنمية‏..‏ إنها وصفةٌ تقول بشكل غليظ أننا بدلًا من ذبحكم على الفور فإننا سوف نفعلُ ذلك على خطوات ومراحل‏،‏ تنتهي بالقضاء على الدولة السودانيَّة وتحويلها إلى كانتونات‏،‏ أو انفلات الزمام وتحوُّل الأمر إلى الفوضى‏.‏

فالشروط الأمريكيَّة تطلب من السودان الاعتراف بالجنوب كدولة مستقلَّة ‏(وهذا أمر لا خلاف على أنه يمثِّل الحدّ الأدنى من مصالح الطرفين إذا جاء عبر استفتاء حرّ ونزيه وغير مزوَّر‏)،‏ ولكن واشنطن تطلب أيضًا الموافقة على ترسيم الحدود بالطريقة التي يريدُها الجنوبيون وليس عبر توافق الطرفين وتفاهمهما‏..‏ حيث أصبح من الواضح الآن أن الحركة الشعبية عازفة عن إنهاء ترسيم الحدود قبل الاستفتاء‏،‏ لكي تستبقيَ هذه القضيَّة بالغة الخطورة كمسمار جحا للاستمرار في تعبئة الجنوبيين ضد الشمال باعتباره العدو الغاصب للأرض‏،‏ وأيضًا لاستدعاء الضغوط الدوليَّة ضد الشمال وإجباره على الرضوخ لوجهة نظر الحركة الشعبيَّة وبعض المتنفِّذين داخلَها‏.‏

الشقّ الثاني من حزمة الحوافز الأمريكيَّة‏،‏ يتعلَّق بأزمة دارفور، ويشترط أن يتمَّ الوصولُ لحلٍّ لها بما يرضي الأطراف المعنيَّة‏،‏ ولاحظ هنا أن الحلَّ مشروط ومرهون‏ برضا الأطراف المعنيَّة،‏ أي حركات التمرُّد أو بمعنى أدقّ الأطراف الراعية لها‏،‏ وهو أمرٌ يعرف الجميع أنه لن يحدث أبدًا‏،‏ لسبب بسيط يتمثَّل في كثرة الرعاة والمتدخِّلين وتعددهم واختلاف أجنداتِهم‏،‏ فضلًا عن الانقسامات الداخليَّة في دارفور التي بلغت حدّ التشرذُم‏..‏ كما أن الحديث عن رضا الأطراف المعنيَّة هو حديث هُلامي لا يمكن الإمساك به أو تعريفه إجرائيًّا‏،‏ وهو يتضمن أيضًا تشجيعًا واضحًا لهذه الأطراف لرفع سقْف مطالبها أو بمعنى آخر أن تمدّد أرجلها كما تشاء، ومن ثم فإنه طبقًا لهذا المسار لن تكون هناك تسوية ولا يحزنون‏.‏

على الناحية الأخرى تقدّم الولايات المتحدة حوافز من نوع آخر‏..‏ وأيضًا من أجل دعم تقسيم السودان‏،‏ حيث نجد خططًا معدَّة لتقديم مساعدات بملياري دولار لإقامة البِنيَة التحتيَّة للدولة الجديدة، وكذلك ترتيبات أمنيَّة وعسكريَّة واسعة النطاق تشمل التدريب والتسليح وغير ذلك الكثير‏،‏ الذي تسربت تقارير عن بعضه بينما بقيَ بعضه الآخر طيّ الكتمان‏.‏

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا‏:‏ إذا كانت هذه الحزمة من الحوافز تمثِّل هديةً ملغومةً كما هو واضح للقاصي والداني‏،‏ فما هو الدافع لقبولها إذن؟ هل هو الخوف من أن ينقلبَ السيد الأمريكي ويظهر عينه الحمراء‏، (على طريقة أمنا الغولة‏)‏ ويقوم بتدخل عسكري أو حظر جوي‏!!‏ ولكن ذلك يطرح سؤالًا آخر ما الذي يتبقى للسودان كي يخسرَه إذا كان التقسيم والفوضى هي نهاية المسار في كل الأحوال‏؟!‏

وعلى الناحية الأخرى هل من مصلحة الولايات المتحدة أن تقوم بذلك فعلًا‏..‏ وهل من مصلحتها دفع الأمور إلى حافة الفوضى‏..‏ وهي التي لم تستطعْ حتى الآن أن تنزع نفسها من هزائمها في العراق وأفغانستان‏..‏ وهي التي ما زالت حائرةً تضرب أخماسًا في أسداس إزاء الملف النووي الإيراني‏..‏

الغريب في الأمر أن الولايات المتحدة كانت قد استخدمت نفس هذه الطريقة أثناء التفاوض على اتفاقية نيفاشا، حيث كثرت الوعود عن التطبيع الكامل والإعفاء من الديون والمساعدة على التنمية‏،‏ ولكن أي من ذلك لم يتحققْ تحت حُجج وأعذار مختلفة‏،‏ وهي تعيد الأمر برمته مرة أخرى، وكأن الولايات المتحدة وسياساتها أو رغباتها قدرٌ لا مفرَّ منه‏،‏ وهذا ما تخطئُ الولاياتُ المتحدة في فهمِه كل مرة‏..‏ إن شعوب وبلدان هذه المنطقة من العالم لها الحق في الدفاع عن مصالحها في الاستقرار وفي تماسك ترابها الوطني وفي التنمية بشكلٍ عادل ولمصلحة كل مواطنيها دون تمييز‏..‏ وهي ليست مجرَّد مزرعةً لمصالح السيد الأمريكي وحلفائِه وأذنابِه وتابعيه‏.
*البشير
أضافة تعليق