مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
طموحات الرئاسة وراء تصعيد المواجهة بين «فتح» و«حماس»
هويدي 21-10-2002

لا يستطيع المرء أن يخفي قلقه البالغ مما يجري في غزة، والذي يبدو في ظاهره تصعيداً للمواجهة بين «فتح» و«حماس»، بينما هو في حقيقته تمهيد لحرب أهلية يراد لها ان تشعل حريقاً كبيراً في القطاع، سوف يحقق لشارون ما يريده من تصفية للانتفاضة والمقاومة هناك، الأمر الذي يجنبه كلفة المغامرة باحتلال القطاع لكي يبسط عليه هيمنته، كما فعل في الضفة الغربية.
لقد أفاضت التقارير الصحفية في عرض ما جرى في القطاع اثر مقتل العقيد راجح أبولحية على يد شاب ينتمي الى حركة «حماس» (عماد عقل)، أخذاً بثأر شقيق له (يوسف عقل) كان قد قتل أثناء اطلاق الشرطة الفلسطينية النار على تظاهرة احتجاجية لطلاب الجامعة الاسلامية في غزة قبل أكثر من عام، وكان الذي أمر باطلاق النار هو العقيد أبولحية، الأمر الذي أدى الى مقتل ثلاثة من الفلسطينيين وجرح العشرات من الطلاب، ذلك ان عماد الذي قرر أن يثأر لموت شقيقه تربص مع نفر من أهله وأصحابه بالعقيد أبولحية ثم استدرجوه وقاموا بقتله، ورغم ان العملية لم يكن لها أي طابع تنظيمي، فلا القتل كان مرتباً من جانب «حماس»، ولا العقيد أبولحية كان من عناصر «فتح»، رغم ذلك فقد تحول الموقف بسرعة الى مواجهة بين التنظيمين، أدت الى اشتباك مسلح بينهما قتل فيه خمسة فلسطينيين، برصاص فلسطيني للأسف الشديد، وهو ما يثير أسئلة عديدة ويبعث على الشك والارتياب، ذلك ان الأمر ما كان له ان يصعد ويصل الى تلك الذروة الدامية لولا ان هناك أطرافاً أخرى سعت الى ذلك وكانت لها مصلحة فيه.
لقد كان التوقيت الذي وقع فيه حادث القتل بالغ السوء على الجبهة الفلسطينية، إذ ما كان يتصور أحد ان يتواصل الهجوم الاسرائيلي الشرس على غزة، في حين يلجأ طرف فلسطيني الى تصفية أحد قيادات الشرطة الفلسطينية. واختيار هذا التوقيت السيئ دال على ان عملية القتل انبنت على حسابات شخصية بحتة، ولم يكن لحركة «حماس» أي دور فيها أو علاقة بها.
ليس ذلك فحسب، وإنما كانت كل الدلائل تشير الى ان «حماس» خارج الموضوع تماماً، ذلك ان الحركة اعتبرت من البداية ان الدم الفلسطيني خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه تحت أي ظرف، لذلك فلم يعرف انها قامت بأي عملية اغتيال ضد أي عنصر فلسطيني، بمن في ذلك رجال السلطة الذين ارتكب بعضهم بحقها جرائم تراوحت بين القتل وتسهيل القتل والاختطاف وتسليم الخلايا، وهناك قصص شهيرة في هذا الصدد يعرفها كل من اقترب من المشهد الفلسطيني، وللعقيد جبريل الرجوب الذي كان رئيساً للأمن الوقائي، دوره المحزن في تلك الممارسات، و«حماس» لم ترد وأغلب الظن ان ذلك كان بوسعها.
يحسب لـ«حماس» أيضاً في هذا السياق انها توقفت عن اعدام العملاء الذين ألحقوا برجالها وأقرانهم من رجال المقاومة أضراراً بالغة، وكانت تكتفي بإلقاء القبض عليهم وتسليمهم للسلطة، حتى تتحمل من جانبها مسؤولية حسابهم، في حين ان كتائب الأقصى التابعة لحركة «فتح»، قامت باعدام من وقع بأيديها من العملاء أثناء المقاومة.
برغم تلك الشواهد فإن بعض عناصر السلطة تحركت في اتجاهين، فهي من ناحية طالبت حركة «حماس» بادانة قتل العقيد أبولحية وتسليم القاتل، ومن ناحية ثانية دأبت تلك العناصر على استنفار أعضاء حركة «فتح»، وتأليبهم ضد «حماس».
حشر «حماس» في المشكلة كان مقصودا في ما يبدو، سواء لاضعاف موقفها في غزة، التي تتمتع فيها بقواعد عريضة وقوية، أو لاظهارها بمظهر المتحدي للسلطة، الذي يتعين «كسر أنفه» وتحجيم قدرته ودوره.
ولو أن الأمر مقصور على ادانة عملية القتل لهان، لكنه في حالة العقيد أبولحية كان له وضع خاص، فالرجل الذي شغل منصب قائد قوات التدخل السريع (لمكافحة الشغب)، لم يكن يتمتع برصيد إيجابي من أي نوع في غزة، واذا كان هو من أمر باطلاق النار على طلاب جامعة غزة الذين خرجوا احتجاجاً على السياسة الاميركية في أعقاب ما حدث في 11 سبتمبر (ايلول)، فانه يذكر له أيضاً انه من أمر باطلاق الرصاص على المصلين في مسجد فلسطين عام 94، مما أدى الى مقتل 18 فلسطينياً، الأمر الذي أجج مشاعر الغضب والثورة في غزة ضد السلطة آنذاك.
هذا السجل السيئ ليس غائباً عن الادراك الفلسطيني في غزة. وكما قال لي بعض من اتصلت بهم هاتفياً هناك، فان الرجل ارتكب جريمته تلك ولم يحاسبه أحد على فعلته، في حين ان الذين ثأروا منه طالبت السلطة بتقديمهم للعدالة.
اللافت للنظر ان الدور القمعي الذي مارسته الشرطة في غزة (20 ألفاً) ضد المتظاهرين من أبنائها ضد الاحتلال أو ضد الاميركيين، لم ير له أثر في مواجهة الاجتياحات الاسرائيلية لمدن القطاع وقراه، حتى ان أحد الأصدقاء سأل متعجباً، لماذا لا تظهر بنادق الشرطة إلا في مواجهة الفلسطينيين في حين تخلى المقرات ويلزم الجميع بيوتهم عند الهجوم الاسرائيلي؟ وهل يتصرف الجنود على ذلك النحو بناء على اجتهادهم الشخصي، أم انهم يطلقون الرصاص على الشباب الفلسطيني بناء على الأوامر، ويغادرون المقرات ويحتمون ببيوتهم، أيضاً بناء على أوامر؟
استنفار «فتح» في غزة على النحو الذي حدث في موضوع قتل العقيد أبولحية، لم يكن له ما يبرره، لان الرجل لم يكن عضواً في الحركة كما ذكرت، ثم ان العملية ذاتها وجهت الى شخصه، ولم توجه الى الحركة، ولذلك فان ذلك الاستنفار الذي أدى الى ادخال «فتح» كطرف أساسي في الموضوع، كانت له أهداف أخرى أبعد من الحادث وملابساته.
ونحن نستطيع أن نستشف تلك الأبعاد من التصريحات «الصقورية» التي صدرت عن العقيد محمد دحلان مسؤول الأمن الوقائي السابق في القطاع، الذي قيل انه قدم استقالته مؤخراً في وظيفة مستشار الأمن القومي التي كان قد عين فيها، وقد نشرت تلك التصريحات على نطاق واسع، وفيها هدد دحلان بحرق مقار «حماس» في غزة، ولوح باستخدام البلطجية لكي يردوا بدورهم على بلطجية «حماس»، كما هدد بقتل بعض قيادات حركة «حماس»، الى غير ذلك من التلويحات «الشارونية»، التي نفاها العقيد دحلان في بيان صدر في وقت لاحق، ولكن تواتر الروايات التي نقلت عنه نفس الكلام ابطل مفعول النفي. وكان الاستاذ جهاد الخازن قد نشر في زاويته بصحيفة «الحياة» (يوم 10/16) انه سمع بأذنه هذا الكلام من مسؤول في السلطة لم يذكر اسمه، لكننا عرفنا من النشر الموازي في أماكن أخرى وصحف أخرى ان العقيد دحلان هو صاحب التصريحات والتهديدات.
لا يستطيع مراقب ان يغفل نبرة تحريض الفتحاويين في تصريحات دحلان، كما لا يستطيع ان يتجاهل اللهجة الصقورية التي يتحدث بها، وهذا وذاك لا نستطيع أن نعزله عن التصريحات التي نقلها على لسانه راديو لندن صبيحة يوم السبت الماضي 19/10، وانتقد فيها الرئيس عرفات، بحجة انه لم يتقدم في مسيرة الاصلاحات، ولم ينجح في وقف العمليات الاستشهادية أو الانتفاضة، ذلك ان هناك خيوطاً تربط بين هذه الاشارات، التي تلاحقت في أعقاب مقتل العقيد أبولحية. وهذه الخيوط تتمثل في ما يلي:
يستثير دحلان الفتحاويين في غزة موحياً لهم بأن ما جرى موجه ضد نفوذهم ووجودهم في الساحة الفلسطينية بوجه عام، وفي غزة بوجه أخص. واستنفار العصبية الفتحاوية يراد له ان يشكل ضغطاً على الرئيس عرفات وهو بصدد تشكيل حكومة جديدة، لكي يرد الاعتبار لـ«فتح» التي صورت بحسبانها معتدى عليها و«جريحة»، ومن ثم يعطيها الحصة الأكبر في الحكومة، واذا ما تحقق لها ذلك فإن أغلبيتها في الحكومة اذا وضعت الى جوار أغلبيتها في المجلس التشريعي (55 من 85)، فذلك معناه سيطرة «فتح» على ادارة الوضع الفلسطيني في المرحلة المقبلة، وتهميش أدوار الفصائل الأخرى.
حين يلوح دحلان باحراق مقار «حماس» واطلاق البلطجية عليهم وقتل بعض قياداتهم، فانه يقدم نفسه باعتباره الرجل القوي والحازم، القادر على تحدي «حماس» وإيقافها عند حدها، وهو الدور الذي لم يستطع عرفات ان يقوم به، حيث يصور في المشهد الراهن وكأنه أقل حزماً وأضعف من أن يقوم بمواجهة شاملة لـ«حماس» مثل تلك التي توعد بها دحلان.
ثم انه حين يعلن استقالته ويجهر بانتقاداته تلك لعرفات، فانه يبعث برسالة الى كل من يهمه الأمر خلاصتها انه غير راض عن العمليات الفدائية وعن استمرار الانتفاضة أو بطء الاصلاحات، ثم يقدم نفسه في الوقت ذاته، باعتباره رجل تلك المهام الكبيرة التي فشل غيره في النهوض بها.
ولأن الأمر كذلك، فإننا لا نستغرب ما نشرته صحيفة «معاريف» في عدد 15/10، حين ذكرت انه عقب استقالة دحلان اعلن سكرتير حزب العمل الاسرائيلي، النائب أوفير بيلس ان تلك الخطوة جديرة بالتقدير، خصوصاً ان دحلان انتقد عدم تنفيذ الاصلاحات في السلطة، الأمر الذي يضعه كبديل قيادي لعرفات.
يقول المقربون من الدوائر الفلسطينية الضيقة ان دحلان في كل حركاته وتصرفاته لم تفارق عيناه مقعد عرفات، وانه اذا كان أبو مازن قد رشح ليكون رجل المرحلة الانتقالية، فان محمد دحلان يرشح نفسه لكي يكون رجل المرحلة النهائية، والورقة الأساسية في مسوغات ترشيحه هي مراهنته على القضاء على «حماس» ووقف الانتفاضة (وهما في مقدمة المطالب الاميركية والاسرائيلية) حتى وان كان ثمن ذلك هو اشعال حريق الحرب الأهلية الفلسطينية، وهو الذي يجري التحضير له بهمة مشهودة الآن، في السر والعلن.
أضافة تعليق