هويدي 6-11-2001
ربما كانت الحملة العسكرية الراهنة ضد أفغانستان, من النماذج القليلة في الفعل السياسي, التي لا يحتاج المرء فيها إلي الاستعانة بنظرية المؤامرة, لكي يدرك مقاصدها, ذلك أن اللعب فيها علي المكشوف هذه المرة, بأكثر منه في حربي الخليج الأولي والثانية علي الأقل, وهو ما يدعوني إلي القول بإن مقاصد تلك الحملة إذا التبست علي أي أحد, فإن ذلك لن يكون راجعا لقصور في الإرسال, وإنما لعدم كفاءة الاستقبال عند البعض.
[1]
في الأسبوع الماضي, عرضت لمظاهر اللوثة الحاصلة في الأقطار الغربية, التي توازي فيها الهجوم علي الإسلام والمسلمين, مع الهجوم علي المدن الأفغانية, واستبعدت تفسير ما يجري باعتباره نوعا من الحرب الصليبية, واعتبرت الكلام عن صراع الحضارات من قبيل التبسيط المخل, سواء لمفهوم الحضارة أو لعلاقة الحضارات ببعضها البعض, وانتهيت بعد الاستبعاد إلي طرح السؤال التالي: إذا لم يكن الأمر علي هذا النحو أو ذاك, فكيف يكون إذن؟
يوم الجمعة(11/2) نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا لسلمان رشدي( إياه!) نقض فيه كلام السياسيين الغربيين, الذين أعلنوا مرارا أنها ليست حربا ضد الإسلام, ولا ضد المسلمين, ولكنها ضد الإرهاب, وأصر علي أنها حرب ضد الإسلام السياسي, الذي اعتبره مصدر الإرهاب ومنبعه, وقبله بأيام قال الكلام ذاته بتعميم أوسع أ.س نابيول الذي حصل علي جائزة نوبل للآداب في هذا العام, إذ صرح بأن المشكلة تكمن في عقيدة الإسلام ذاتها, وليس في الإسلام السياسي وحده.
هذا المنطق ذاته يتبناه القس الأمريكي المتطرف بات روبرتسون, مقدم البرنامج التليفزيوني(700 كلوب) ـ زعيم ما يسمي بالتحالف المسيحي ـ الذي يضم مليون عضو, ويدير امبراطورية هائلة معنية بالتبشير المسيحي, وقد رشحه الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية في عام1988 ـ وهو الذي وصف الإسلام بأنه دين تخلف ورق وعبودية, ودعا مشاهدي برنامجه وأتباعه إلي الصلاة لكي يمنع الرب انتشار الإسلام في الولايات المتحدة, لأن ذلك الدين عنده مرتع لعمل الشيطان!
مثل هذه المواقف التي تعبر عن آراء نفر من الغلاة, الكارهين للإسلام, أو المهووسين الدينيين, لهم مقاصد مغايرة, فهي تستثمر الظرف الراهن لتصفية حسابات خاصة تهم المتحدثين بأكثر مما تشغل صاحب القرار السياسي, وربما ضغطت عليه, والتركيز علي هذه الآراء يحجب المقاصد البعيدة ويشوش عليها, مع ذلك فلست أدعو إلي اغفالها أو تجاهلها, لكن فقط أدعو إلي اعطائها حجمها الطبيعي, والتعامل معها بحسبانها عنصرا في المشهد, وليست محورا له.
[2]
في نفس الخندق يقف المحافظون الجدد في الولايات المتحدة, الذي يشكل التيار الأصولي المسيحي رافدا أساسيا لهم, ويعد بات روبرتسون من وجهائهم, وهؤلاء المحافظون الجدد هم نفر من المثقفين والسياسيين الذين كانت لهم أفكارهم المتقدمة, وظلوا أقرب إلي الحزب الديمقراطي إلي أواخر الستينيات, ثم تحولوا بصورة تدريجية إلي معسكر اليمين التقليدي الذي يمثله الجمهوريون, وهؤلاء أكثرهم من اليهود الذين وجدوا في حماس الجمهوريين المطلق لإسرائيل محضنا ملائما لهم.
هؤلاء المحافظون الجدد يتبنون بالمطلق وعلي نحو يتسم بالغلو, فكرة صراع الحضارات, حيث يرون في الحاصل الآن تطبيقا لتلك الفكرة, ومشهدا في السيناريو الذي لابد أن ينتهي بانتصار الخير الغربي, واكتساحه لكل أعدائه الذين يتمثلون في الشر الإسلامي علي سبيل الحصر.
أشرت في الأسبوع الماضي, إلي موقف هؤلاء الذين يلحون بشدة علي توسيع الحرب, بحيث تتجه إلي تصفية حسابات إسرائيل أيضا, وليس الولايات المتحدة وحدها, وبعد النشر توافرت لدي معلومات تلقي مزيدا من الضوء علي دور وفاعلية هذا التيار, الذي تبين لي أنه أقوي بكثير مما تصورت. فلم اكن أعلم أنهم يسيطرون علي أغلب الوزارات في إدارة الرئيس بوش, وأن من أركانه نائب الرئيس ديك تشيني, ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد, ونائبه بول وولفيورتز, أما وزير العدل جون اشكروفت فهو من الغلاة القريبين للتيار الأصولي المسيحي المناويء للأقليات وللتعدد الثقافي والديني في الولايات المتحدة, كما أن هذا التيار يهيمن علي عدد كبير من المؤسسات الإعلامية ومراكز البحوث, ومن تلك المؤسسات شبكات فوكس, وإن.بي.سي, وسي.إن.إن التليفزيونية, كما تعبر عنه صحيفة وول ستريت جورنال ومجلة ويكلي ستاندرارد.
علمت أيضا أن مجموعة المحافظين الجدد, وجهت رسالة الي الرئيس بوش في9/20 الماضي, بعد تسعة أيام من الهجوم علي الولايات المتحدة,.
قالت الرسالة بوضوح ـ مثلا ـ إن أي استراتيجية لاستئصال الإرهاب ومن يرعاه, لابد أن تشمل جهدا يتسم بالتعميم لإزاحة( الرئيس العراقي) صدام حسين ـ وفي هذا السياق حددت الرسالة برنامج للأولويات التي ينبغي أن تلتزم بها الولايات المتحدة في المواجهة الراهنة, والتي تتمثل فيما يلي: القضاء علي أسامة بن لادن ـ إطاحة النظام العراقي ـ تصفية حزب الله ـ تحجيم السلطة الفلسطينية ـ تأكيد الصداقة الثابتة بين إسرائيل والولايات المتحدة ـ زيادة المخصصات المالية لوزارة الدفاع.
هذه الرسالة ليست مجرد نصيحة أطلقت في الهواء, ولكنها برنامج عمل يسعي أصحابه إلي وضعه موضع التنفيذ من خلال الضغوط التي يمارسونها, سواء عن طريق عناصر هذا التيار النافذة في إدارة بوش, أو من خلال تعبئة الرأي العام في اتجاهها ولصالحها.
يضغط هذا التيار الآن لإرسال قوات برية أمريكية لاجتياح أفغانستان قبل حلول الشتاء, وقد وصف اثنان من ممثليه, بيل كريستوف وتشارلز كراوثهامر( مقربان من اللوبي الإسرائيلي) السياسة التي اتبعها الرئيس بوش حتي الآن بالضعف والتردد, وطالبا بتكثيف القصف الجوي وبدفع القوات البرية لانجاز بقية المهمة علي الأرض, ويبدو أن تلك الضغوط كان لها مردودها, لأن زيارة وزير الدفاع رامسفيلد لروسيا وجمهوريات آسيا, تستهدف تقويم احتمالات التدخل البري الأمريكي وحجمه وأبعاده.
[3]
نحتاج إلي أكثر من خطوة إلي الوراء لكي نري المشهد من زاوية أوسع.
في10/23 نشرت الحياة اللندنية تحليلا كتبه جنرال سابق في المخابرات السوفيتية اسمه الكسندر كوليك, كان رئيسا لدائرة الشرق الأوسط, قال فيه إنه منذ عام1997, وهناك جهود أمريكية حثيثة للبحث عن موطيء قدم لها في وسط آسيا, وقاعدة أطلسية تطل منها علي الإسلام الآسيوي, وتكون في الوقت ذاته قريبة من ثروات المنطقة, التي يتقدمها غاز تركمانستان ونفط بحر قزوين, الذي يتوقع له أن يصبح في المستقبل أكثر أهمية من نفط الخليج.
حدد جنرال الكي. جي.بي عام97, باعتباره التوقيت الدقيق الذي تأكدت فيه موسكو أن الأمريكيين والإسرائيليين ـ الذين كانوا قد سارعوا في وقت مبكر الي إقامة علاقات وثيقة مع جمهوريات آسيا الوسطي ـ قد استقروا علي اختيار أوزبكستان لكي تكون موطن القاعدة المنشودة, ووجدوا لدي الرئيس الحالي إسلام كريموف استعدادا كبيرا للانخلاع من العلاقات التي تربطه مع روسيا, وإقامة تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة, ولم يكن خافيا علي السفيرين الأمريكي والإسرائيلي لدي العاصمة الأوزبكية( طشقند), أن الرئيس كريموف أبدي حماسا شديدا للتعاون مع الإسرائيليين, بأمل أن يفتح له ذلك أبواب واشنطن.
في تلك الأجواء برزت علي السطح المقاصد الحقيقية, وحسبما ذكر الجنرال الكسندر كوليك, فإن مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة آنذاك( عام97), طرحت علي الرئيس كريموف أن تستقبل أوزبكستان في حال وجود خطر يهددها من أفغانستان أو إيران, قوات ردع دولية تحت رعاية حلف الأطلسي, بالضبط كما حصل مع البلقان, ولم يكن الرجل بحاجة لمن يشجعه علي قبول العرض.
اعتبرت أولبرايت ـ أن وجود قاعدة لحلف الأطلسي في أوزبكستان, يؤمن تقدم حلف الأطلسي شرقا, ويوجد له قواعد وهياكل ارتكازية في آسيا الوسطي, يمكن استخدامها ليس ضد إيران وأفغانستان فحسب, بل وضد روسيا أيضا, في حال تولي السلطة في موسكو قوي مناهضة للغرب.
في2001/2/20 نشرت مجلة نيوزويك تحقيقا مطولا عن أفغانستان, ذكرت فيه أن أسامة بن لادن أصبح يمثل التهديد الأكثر مباشرة وخطورة علي الأمن القومي الأمريكي, وأنه زعيم لشبكة إرهابية تعمل لشن حرب مقدسة ضد الولايات المتحدة وحلفائها, وأنه يعد برنامجا تخريبيا مدته مائة عام, وأن شبكته الممتدة في أنحاء العالم تحاول الحصول علي أسلحة للدمار الشامل, لاستخدامها في تلك الحرب المقدسة.
في9/19 نشرت نيوزويك أن وكالة الأمن القومي الأمريكي, شرعت في الإعلان عن توظيف خبراء في اللغة الأوزبكية, لإضافتهم إلي مجموعة المتحدثين بلغة الباشتو السائدة في أفغانستان, فضلا عن اللغة العربية, وقالت إن الولايات المتحدة تشرف علي مناورات إنزال ضمت مئات من المظليين الأمريكيين والأوزبكيين والقازاق والقرغيز والأتراك, الذين يتدربون علي القفز من مروحيات وطائرات تحلق علي ارتفاع منخفض في جمهوريات آسيا الوسطي, المتاخمة لأفغانستان.
قال تقرير نيوزويك أيضا إن الجيش الأمريكي قام بإرسال طائرة النقل الحربية( سي17) المتقدمة من الناحية التكنولوجية, في رحلة دون توقف, من الولايات المتحدة إلي آسيا الوسطي, وهي مسافة قياسية لطائرة نقل, لاقناع حكومات دول آسيا الوسطي بالسرعة التي يمكن أن تستجيب بها واشنطن لمتطلبات الموقف العسكري في حالة وقوع أزمة ما.
[4]
طبقا لما هو منشور, وغير المنشور أضعافه لا ريب, فإن سيناريو الوجود الأمريكي في قلب آسيا كانت ترتيباته جارية منذ أربع سنوات, وأن أوزبكستان التي تنطلق منها القوات الأمريكية وتؤمن ظهر قوات التحالف, كانت معدة للقيام بالدور منذ ذلك الوقت, وأن السيناريو كان ينتظر الفرصة المواتية للتنفيذ.
لا يخلو من وجاهة, الرأي الذي أبداه أحد الكتاب المغاربة ـ محمد بلمو من المغرب ـ وقال فيه: إن الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة لم تبدأ في الحادي عشر من سبتمبر, وإنما بدأت في حقيقة الأمر منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي منذ عشر سنوات, حيث شرعت واشنطن منذ ذلك الحين, في تصفية جيوب المقاومة للهيمنة الأمريكية, وبالتالي تكريس السيطرة الكاملة علي العالم, وإعلان دولة العولمة التي تنفرد واشنطن بحكمها, بينما تسهم بقية الدول الغربية بالتنفيذ, ولا يبقي أمام الدول الأخري سوي الانصياع( القدس العربي ـ10/24).
إننا إذا نحينا من إدراكنا مؤقتا, الهجوم الذي تعرضت له الولايات المتحدة, فسنجد أن السيناريو الذي كان معدا له هدف واحد هو: بسط الهيمنة علي المناطق التي مازالت عصية علي التكيف مع الوضع العالمي المستجد, وتلك التي تري الولايات المتحدة أنها غنية بموارد ينبغي ألا تكون بعيدة عن متناول يدها, وكان الفراغ النسبي الذي شهدته آسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي, عنصرا مشجعا لواشنطن لكي تتمدد في قلب القارة متذرعة بمحاربة الإرهاب, أو مواجهة الخطر الأصولي, وهو طور في سلوك الولايات المتحدة وصفه المفكر المعروف سمير أمين بأنه من قبيل عسكرة العولمة, بمعني فرض النموذج والهيمنة الغربية بالقوة العسكرية.
[5]
المشهد في حقيقته يجسد الصراع الحضاري وليس صراع الحضارات, والفرق بين الاثنين أن الصراع الحضاري, يستهدف فرض نموذج حضاري لبلد يستشعر الاستعلاء والقوة والرقي علي آخرين ممن يعيشون في ظلال أنماط حضارية أخري, والعولمة في بعض أوجهها ترجمة لذلك الصراع, الذي يستهدف فرض النموذج الغربي علي الآخرين, أما صراع الحضارات بالمفهوم الذي روج له الأمريكي صمويل هنتنجتون, فإنه يكاد يحصره في المواجهة بين الغرب والحضارة الإسلامية بوجه أخص, التي وضعها في مربع واحد مع الحضارة السلافية الأرثوذكسية.
ولأن الإسلام لايزال يشكل الجبهة الأكثر استعصاء علي الاختراق والهيمنة الغربيين, لأسباب فلسفية وتاريخية يطول شرحها, فإن حظه أكبر من محاولات كسر الإرادة وقهرها, والإسلام الذي أعنيه والذي يقلق قوي الهيمنة, هو النموذج الحضاري المستقل القائم علي التعاليم السماوية, وليس الإسلام الطقوسي أو الشعائري المفرغ من الوظيفة الاجتماعية, لأن هذا الأخير مرحب به من الجميع, من سلمان رشدي الي القس بات روبرتسون.
إن مشهد الهيمنة يطل علينا بوضوح اذا ما مددنا البصر وراء دخان الحرائق المتصاعدة, التي تكاد تسد الأفق الأفغاني, ذلك أن تلك الهيمنة صفة لازمة للحداثة الغربية, وهذا الكلام ليس من عندي, لكنه شهادة سجلتها بما لا حصر له من الحجج والبراهين الباحثة الفرنسية سوفي بسيس في كتاب صدر لها أخيرا بعنوان الغرب والآخرون, قالت فيه بصريح العبارة: إن الهوية الغربية لا تنفصل عن ثقافة التفوق, ولا تتحدد إلا بمعيار الهيمنة, رغم أنها ترفع شعارات الانفتاح والحوار بين الثقافات والحضارات, وهي التي سلط الضوء عليها بقوة قبل25 عاما الفيلسوف الفرنسي جارودي, في كتابه حوار الحضارات, الذي عرف الغرب فيه بأنه حالة فكرية متجهة نحو السيطرة علي الطبيعة والناس, وقال: إن علاقة الإنسان بالطبيعة علي النحو الذي يتميز به عصر النهضة, هي علاقة فاتح براضخ, وهذه العلاقة هي التي فرخت ارادة الربح والسيطرة, وإرادة الغازي الذي لا يتردد في اقتحام تخوم العالم المعروف, ولا في تدمير القارات والحضارات, وسجل الرجل الغربي حافل بعمليات التدمير تلك, التي شملت شعب المايا والهنود الحمر في الماضي, ويتعرض لها الشعب الأفغاني في الحاضر.
إن رحي المعركة العسكرية تدور فوق الأرض الأفغانية حقا, لكن مقاصدها تقف بعيدا, وراء الأفق الأفغاني.
ربما كانت الحملة العسكرية الراهنة ضد أفغانستان, من النماذج القليلة في الفعل السياسي, التي لا يحتاج المرء فيها إلي الاستعانة بنظرية المؤامرة, لكي يدرك مقاصدها, ذلك أن اللعب فيها علي المكشوف هذه المرة, بأكثر منه في حربي الخليج الأولي والثانية علي الأقل, وهو ما يدعوني إلي القول بإن مقاصد تلك الحملة إذا التبست علي أي أحد, فإن ذلك لن يكون راجعا لقصور في الإرسال, وإنما لعدم كفاءة الاستقبال عند البعض.
[1]
في الأسبوع الماضي, عرضت لمظاهر اللوثة الحاصلة في الأقطار الغربية, التي توازي فيها الهجوم علي الإسلام والمسلمين, مع الهجوم علي المدن الأفغانية, واستبعدت تفسير ما يجري باعتباره نوعا من الحرب الصليبية, واعتبرت الكلام عن صراع الحضارات من قبيل التبسيط المخل, سواء لمفهوم الحضارة أو لعلاقة الحضارات ببعضها البعض, وانتهيت بعد الاستبعاد إلي طرح السؤال التالي: إذا لم يكن الأمر علي هذا النحو أو ذاك, فكيف يكون إذن؟
يوم الجمعة(11/2) نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالا لسلمان رشدي( إياه!) نقض فيه كلام السياسيين الغربيين, الذين أعلنوا مرارا أنها ليست حربا ضد الإسلام, ولا ضد المسلمين, ولكنها ضد الإرهاب, وأصر علي أنها حرب ضد الإسلام السياسي, الذي اعتبره مصدر الإرهاب ومنبعه, وقبله بأيام قال الكلام ذاته بتعميم أوسع أ.س نابيول الذي حصل علي جائزة نوبل للآداب في هذا العام, إذ صرح بأن المشكلة تكمن في عقيدة الإسلام ذاتها, وليس في الإسلام السياسي وحده.
هذا المنطق ذاته يتبناه القس الأمريكي المتطرف بات روبرتسون, مقدم البرنامج التليفزيوني(700 كلوب) ـ زعيم ما يسمي بالتحالف المسيحي ـ الذي يضم مليون عضو, ويدير امبراطورية هائلة معنية بالتبشير المسيحي, وقد رشحه الحزب الجمهوري للانتخابات الرئاسية في عام1988 ـ وهو الذي وصف الإسلام بأنه دين تخلف ورق وعبودية, ودعا مشاهدي برنامجه وأتباعه إلي الصلاة لكي يمنع الرب انتشار الإسلام في الولايات المتحدة, لأن ذلك الدين عنده مرتع لعمل الشيطان!
مثل هذه المواقف التي تعبر عن آراء نفر من الغلاة, الكارهين للإسلام, أو المهووسين الدينيين, لهم مقاصد مغايرة, فهي تستثمر الظرف الراهن لتصفية حسابات خاصة تهم المتحدثين بأكثر مما تشغل صاحب القرار السياسي, وربما ضغطت عليه, والتركيز علي هذه الآراء يحجب المقاصد البعيدة ويشوش عليها, مع ذلك فلست أدعو إلي اغفالها أو تجاهلها, لكن فقط أدعو إلي اعطائها حجمها الطبيعي, والتعامل معها بحسبانها عنصرا في المشهد, وليست محورا له.
[2]
في نفس الخندق يقف المحافظون الجدد في الولايات المتحدة, الذي يشكل التيار الأصولي المسيحي رافدا أساسيا لهم, ويعد بات روبرتسون من وجهائهم, وهؤلاء المحافظون الجدد هم نفر من المثقفين والسياسيين الذين كانت لهم أفكارهم المتقدمة, وظلوا أقرب إلي الحزب الديمقراطي إلي أواخر الستينيات, ثم تحولوا بصورة تدريجية إلي معسكر اليمين التقليدي الذي يمثله الجمهوريون, وهؤلاء أكثرهم من اليهود الذين وجدوا في حماس الجمهوريين المطلق لإسرائيل محضنا ملائما لهم.
هؤلاء المحافظون الجدد يتبنون بالمطلق وعلي نحو يتسم بالغلو, فكرة صراع الحضارات, حيث يرون في الحاصل الآن تطبيقا لتلك الفكرة, ومشهدا في السيناريو الذي لابد أن ينتهي بانتصار الخير الغربي, واكتساحه لكل أعدائه الذين يتمثلون في الشر الإسلامي علي سبيل الحصر.
أشرت في الأسبوع الماضي, إلي موقف هؤلاء الذين يلحون بشدة علي توسيع الحرب, بحيث تتجه إلي تصفية حسابات إسرائيل أيضا, وليس الولايات المتحدة وحدها, وبعد النشر توافرت لدي معلومات تلقي مزيدا من الضوء علي دور وفاعلية هذا التيار, الذي تبين لي أنه أقوي بكثير مما تصورت. فلم اكن أعلم أنهم يسيطرون علي أغلب الوزارات في إدارة الرئيس بوش, وأن من أركانه نائب الرئيس ديك تشيني, ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد, ونائبه بول وولفيورتز, أما وزير العدل جون اشكروفت فهو من الغلاة القريبين للتيار الأصولي المسيحي المناويء للأقليات وللتعدد الثقافي والديني في الولايات المتحدة, كما أن هذا التيار يهيمن علي عدد كبير من المؤسسات الإعلامية ومراكز البحوث, ومن تلك المؤسسات شبكات فوكس, وإن.بي.سي, وسي.إن.إن التليفزيونية, كما تعبر عنه صحيفة وول ستريت جورنال ومجلة ويكلي ستاندرارد.
علمت أيضا أن مجموعة المحافظين الجدد, وجهت رسالة الي الرئيس بوش في9/20 الماضي, بعد تسعة أيام من الهجوم علي الولايات المتحدة,.
قالت الرسالة بوضوح ـ مثلا ـ إن أي استراتيجية لاستئصال الإرهاب ومن يرعاه, لابد أن تشمل جهدا يتسم بالتعميم لإزاحة( الرئيس العراقي) صدام حسين ـ وفي هذا السياق حددت الرسالة برنامج للأولويات التي ينبغي أن تلتزم بها الولايات المتحدة في المواجهة الراهنة, والتي تتمثل فيما يلي: القضاء علي أسامة بن لادن ـ إطاحة النظام العراقي ـ تصفية حزب الله ـ تحجيم السلطة الفلسطينية ـ تأكيد الصداقة الثابتة بين إسرائيل والولايات المتحدة ـ زيادة المخصصات المالية لوزارة الدفاع.
هذه الرسالة ليست مجرد نصيحة أطلقت في الهواء, ولكنها برنامج عمل يسعي أصحابه إلي وضعه موضع التنفيذ من خلال الضغوط التي يمارسونها, سواء عن طريق عناصر هذا التيار النافذة في إدارة بوش, أو من خلال تعبئة الرأي العام في اتجاهها ولصالحها.
يضغط هذا التيار الآن لإرسال قوات برية أمريكية لاجتياح أفغانستان قبل حلول الشتاء, وقد وصف اثنان من ممثليه, بيل كريستوف وتشارلز كراوثهامر( مقربان من اللوبي الإسرائيلي) السياسة التي اتبعها الرئيس بوش حتي الآن بالضعف والتردد, وطالبا بتكثيف القصف الجوي وبدفع القوات البرية لانجاز بقية المهمة علي الأرض, ويبدو أن تلك الضغوط كان لها مردودها, لأن زيارة وزير الدفاع رامسفيلد لروسيا وجمهوريات آسيا, تستهدف تقويم احتمالات التدخل البري الأمريكي وحجمه وأبعاده.
[3]
نحتاج إلي أكثر من خطوة إلي الوراء لكي نري المشهد من زاوية أوسع.
في10/23 نشرت الحياة اللندنية تحليلا كتبه جنرال سابق في المخابرات السوفيتية اسمه الكسندر كوليك, كان رئيسا لدائرة الشرق الأوسط, قال فيه إنه منذ عام1997, وهناك جهود أمريكية حثيثة للبحث عن موطيء قدم لها في وسط آسيا, وقاعدة أطلسية تطل منها علي الإسلام الآسيوي, وتكون في الوقت ذاته قريبة من ثروات المنطقة, التي يتقدمها غاز تركمانستان ونفط بحر قزوين, الذي يتوقع له أن يصبح في المستقبل أكثر أهمية من نفط الخليج.
حدد جنرال الكي. جي.بي عام97, باعتباره التوقيت الدقيق الذي تأكدت فيه موسكو أن الأمريكيين والإسرائيليين ـ الذين كانوا قد سارعوا في وقت مبكر الي إقامة علاقات وثيقة مع جمهوريات آسيا الوسطي ـ قد استقروا علي اختيار أوزبكستان لكي تكون موطن القاعدة المنشودة, ووجدوا لدي الرئيس الحالي إسلام كريموف استعدادا كبيرا للانخلاع من العلاقات التي تربطه مع روسيا, وإقامة تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة, ولم يكن خافيا علي السفيرين الأمريكي والإسرائيلي لدي العاصمة الأوزبكية( طشقند), أن الرئيس كريموف أبدي حماسا شديدا للتعاون مع الإسرائيليين, بأمل أن يفتح له ذلك أبواب واشنطن.
في تلك الأجواء برزت علي السطح المقاصد الحقيقية, وحسبما ذكر الجنرال الكسندر كوليك, فإن مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة آنذاك( عام97), طرحت علي الرئيس كريموف أن تستقبل أوزبكستان في حال وجود خطر يهددها من أفغانستان أو إيران, قوات ردع دولية تحت رعاية حلف الأطلسي, بالضبط كما حصل مع البلقان, ولم يكن الرجل بحاجة لمن يشجعه علي قبول العرض.
اعتبرت أولبرايت ـ أن وجود قاعدة لحلف الأطلسي في أوزبكستان, يؤمن تقدم حلف الأطلسي شرقا, ويوجد له قواعد وهياكل ارتكازية في آسيا الوسطي, يمكن استخدامها ليس ضد إيران وأفغانستان فحسب, بل وضد روسيا أيضا, في حال تولي السلطة في موسكو قوي مناهضة للغرب.
في2001/2/20 نشرت مجلة نيوزويك تحقيقا مطولا عن أفغانستان, ذكرت فيه أن أسامة بن لادن أصبح يمثل التهديد الأكثر مباشرة وخطورة علي الأمن القومي الأمريكي, وأنه زعيم لشبكة إرهابية تعمل لشن حرب مقدسة ضد الولايات المتحدة وحلفائها, وأنه يعد برنامجا تخريبيا مدته مائة عام, وأن شبكته الممتدة في أنحاء العالم تحاول الحصول علي أسلحة للدمار الشامل, لاستخدامها في تلك الحرب المقدسة.
في9/19 نشرت نيوزويك أن وكالة الأمن القومي الأمريكي, شرعت في الإعلان عن توظيف خبراء في اللغة الأوزبكية, لإضافتهم إلي مجموعة المتحدثين بلغة الباشتو السائدة في أفغانستان, فضلا عن اللغة العربية, وقالت إن الولايات المتحدة تشرف علي مناورات إنزال ضمت مئات من المظليين الأمريكيين والأوزبكيين والقازاق والقرغيز والأتراك, الذين يتدربون علي القفز من مروحيات وطائرات تحلق علي ارتفاع منخفض في جمهوريات آسيا الوسطي, المتاخمة لأفغانستان.
قال تقرير نيوزويك أيضا إن الجيش الأمريكي قام بإرسال طائرة النقل الحربية( سي17) المتقدمة من الناحية التكنولوجية, في رحلة دون توقف, من الولايات المتحدة إلي آسيا الوسطي, وهي مسافة قياسية لطائرة نقل, لاقناع حكومات دول آسيا الوسطي بالسرعة التي يمكن أن تستجيب بها واشنطن لمتطلبات الموقف العسكري في حالة وقوع أزمة ما.
[4]
طبقا لما هو منشور, وغير المنشور أضعافه لا ريب, فإن سيناريو الوجود الأمريكي في قلب آسيا كانت ترتيباته جارية منذ أربع سنوات, وأن أوزبكستان التي تنطلق منها القوات الأمريكية وتؤمن ظهر قوات التحالف, كانت معدة للقيام بالدور منذ ذلك الوقت, وأن السيناريو كان ينتظر الفرصة المواتية للتنفيذ.
لا يخلو من وجاهة, الرأي الذي أبداه أحد الكتاب المغاربة ـ محمد بلمو من المغرب ـ وقال فيه: إن الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة لم تبدأ في الحادي عشر من سبتمبر, وإنما بدأت في حقيقة الأمر منذ انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي منذ عشر سنوات, حيث شرعت واشنطن منذ ذلك الحين, في تصفية جيوب المقاومة للهيمنة الأمريكية, وبالتالي تكريس السيطرة الكاملة علي العالم, وإعلان دولة العولمة التي تنفرد واشنطن بحكمها, بينما تسهم بقية الدول الغربية بالتنفيذ, ولا يبقي أمام الدول الأخري سوي الانصياع( القدس العربي ـ10/24).
إننا إذا نحينا من إدراكنا مؤقتا, الهجوم الذي تعرضت له الولايات المتحدة, فسنجد أن السيناريو الذي كان معدا له هدف واحد هو: بسط الهيمنة علي المناطق التي مازالت عصية علي التكيف مع الوضع العالمي المستجد, وتلك التي تري الولايات المتحدة أنها غنية بموارد ينبغي ألا تكون بعيدة عن متناول يدها, وكان الفراغ النسبي الذي شهدته آسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي, عنصرا مشجعا لواشنطن لكي تتمدد في قلب القارة متذرعة بمحاربة الإرهاب, أو مواجهة الخطر الأصولي, وهو طور في سلوك الولايات المتحدة وصفه المفكر المعروف سمير أمين بأنه من قبيل عسكرة العولمة, بمعني فرض النموذج والهيمنة الغربية بالقوة العسكرية.
[5]
المشهد في حقيقته يجسد الصراع الحضاري وليس صراع الحضارات, والفرق بين الاثنين أن الصراع الحضاري, يستهدف فرض نموذج حضاري لبلد يستشعر الاستعلاء والقوة والرقي علي آخرين ممن يعيشون في ظلال أنماط حضارية أخري, والعولمة في بعض أوجهها ترجمة لذلك الصراع, الذي يستهدف فرض النموذج الغربي علي الآخرين, أما صراع الحضارات بالمفهوم الذي روج له الأمريكي صمويل هنتنجتون, فإنه يكاد يحصره في المواجهة بين الغرب والحضارة الإسلامية بوجه أخص, التي وضعها في مربع واحد مع الحضارة السلافية الأرثوذكسية.
ولأن الإسلام لايزال يشكل الجبهة الأكثر استعصاء علي الاختراق والهيمنة الغربيين, لأسباب فلسفية وتاريخية يطول شرحها, فإن حظه أكبر من محاولات كسر الإرادة وقهرها, والإسلام الذي أعنيه والذي يقلق قوي الهيمنة, هو النموذج الحضاري المستقل القائم علي التعاليم السماوية, وليس الإسلام الطقوسي أو الشعائري المفرغ من الوظيفة الاجتماعية, لأن هذا الأخير مرحب به من الجميع, من سلمان رشدي الي القس بات روبرتسون.
إن مشهد الهيمنة يطل علينا بوضوح اذا ما مددنا البصر وراء دخان الحرائق المتصاعدة, التي تكاد تسد الأفق الأفغاني, ذلك أن تلك الهيمنة صفة لازمة للحداثة الغربية, وهذا الكلام ليس من عندي, لكنه شهادة سجلتها بما لا حصر له من الحجج والبراهين الباحثة الفرنسية سوفي بسيس في كتاب صدر لها أخيرا بعنوان الغرب والآخرون, قالت فيه بصريح العبارة: إن الهوية الغربية لا تنفصل عن ثقافة التفوق, ولا تتحدد إلا بمعيار الهيمنة, رغم أنها ترفع شعارات الانفتاح والحوار بين الثقافات والحضارات, وهي التي سلط الضوء عليها بقوة قبل25 عاما الفيلسوف الفرنسي جارودي, في كتابه حوار الحضارات, الذي عرف الغرب فيه بأنه حالة فكرية متجهة نحو السيطرة علي الطبيعة والناس, وقال: إن علاقة الإنسان بالطبيعة علي النحو الذي يتميز به عصر النهضة, هي علاقة فاتح براضخ, وهذه العلاقة هي التي فرخت ارادة الربح والسيطرة, وإرادة الغازي الذي لا يتردد في اقتحام تخوم العالم المعروف, ولا في تدمير القارات والحضارات, وسجل الرجل الغربي حافل بعمليات التدمير تلك, التي شملت شعب المايا والهنود الحمر في الماضي, ويتعرض لها الشعب الأفغاني في الحاضر.
إن رحي المعركة العسكرية تدور فوق الأرض الأفغانية حقا, لكن مقاصدها تقف بعيدا, وراء الأفق الأفغاني.