هويدي 9-4-2002
إذا جاز لي أن أمد البصر إلي ما وراء السحب القاتمة التي تكاد تسد علينا الأفق الآن, وأصف نوازل الساعة في منطقتنا فلن أتردد في وصفها بالكاشفة, ذلك أن هذا الذي يحز في نفوسنا, ويثقل قلوبنا بالهم والحزن حتي يكاد يزلزل فينا اليقين, جاء كاشفا لكل شيء حولنا, مسقطا للأقنعة ومبددا للأوهام, ونازعا أوراق التوت عن الأوزان والأحجام
(1)
قبل أي كلام فإنني أدعو بشدة إلي الكف عن لطم الخدود وشق الجيوب وندب الحظوظ, أهم منذ ذلك أدعو إلي وقف توزيع الاتهامات, وتبادل الشتائم والغمز واللمز الذي يمارسه البعض بلا مسئولية في عدد من العواصم العربية, فلا هذه ساعة القنوط, ولا هو أوان تصفية الحسابات وشق الصفوف.
إننا بحاجة إلي إعادة قراءة المشهد الفلسطيني ووضعه في إطاره الطبيعي الذي يستحقه, وفي هذا الصدد فإنني أتفق مع ما عبر عنه الكاتب الأردني الأستاذ طارق مصاروة, حين قال: إن الذي يحدث في فلسطين الآن ـ في حقيقته ـ ليس عدوانا إسرائيليا علي شعب فلسطين, وإنما هو ثورة التحرير المتصاعدة في مواجهة الاحتلال, والتحول الطبيعي لقوي النضال الفلسطيني من الاحتجاج, ومعارك الحجارة, إلي حرب التحرير.. تماما كحرب التحرير في الجزائر, وفيتنام, وكل إفريقيا وآسيا وأمريكا الوسطي.
وإذا كانت اقتحامات العدو لمدن رام الله والبيرة وبيت لحم وقلقيلية قد تجاوزت ما نظنه نحن بأنه حدود العراك, فإن الفلسطينيين اقتحموا هم أيضا تل أبيب والقدس الغربية وحيفا وناتانيا, ودمروا كما دمرت الدبابات الإسرائيلية وهددوا الدولة اليهودية كتهديدها للسلطة الوطنية وقيادتها.
فهذه هي حرب التحرير, ويجب ألا يخيفنا مشهد الدبابات التي تدخل الشوارع الفلسطينية, فإسرائيل تخاف من كل فلسطيني يدخل مقهي أو يمر في الشارع أو يشتري من محل تجاري.. تخاف من كل فلسطيني أو كل من يشبه الفلسطينين!( القدس العربي ـ4/5).
إن هذا الذي يحدث في فلسطين الآن هو الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون لتحرير بلادهم من الاحتلال, وهو ثمن غال حقا, لكن لا ننسي أن الهدف كبير أيضا وأن الحلم يستحقه بامتياز, أما الخطيئة الكبري فهي أن يهدر كل ما بذل, ويهون من شأنه, بحيث يكتفي في مقابلة بمجرد الجلوس علي طاولة المفاوضات.
وإذ أدعو إلي فهم ما يجري في فلسطين علي ذلك النحو, فإن ذلك لا يعفي الأطراف العربية من مسئولية التضامن مع النضال الفلسطيني, ليس فقط لأنه شقيق, ولكن أيضا لأن دعم النضال الفلسطيني هو في الوقت نفسه دفاع عن الأمن القومي العربي, وصد للغزوة الصهيونية التي هي في نهاية المطاف جزء من مشروع الهيمنة الغربية علي المنطقة.
ليس المفجع ما يحدث في فلسطين, لكنه تلك الريح المسمومة التي لاحت نذرها أخيرا في الأفق العربي, متمثلة في مقدمات حملة تبادل الشتائم والاتهامات بين بعض العواصم العربية, ولئن وصفت ما بدا من تلك الحملة باعتبارها موقفا غير مسئول, إلا أنه يستحق توصيفا أقسي وأكثر حدة, خصوصا إذا صدر عن عواصم لها وزنها, وعبر بعض المنابر التي يفترض أنها تتمتع ببعض الاحترام.
نعم هناك تفاوت في الحسابات والمواقف العربية نفهمه, لكني أزعم أن الظرف الراهن يقتضي احتواء الخلافات وتذويبها, وليس إبرازها وتعميقها واستخدامها مادة في التراشق الإعلامي, كما أفهم أن العواصم الكبيرة ينبغي أن تستعلي فوق مثل هذه الأمور, بحيث تشغل نفسها بالكليات والأهداف الكبيرة, وتمتنع بحزم عن التورط في أية معارك جانبية صغيرة, من تلك التي تجيدها وتسعد بها أبواق الإثارة المفتقرة إلي البراءة.
(2)
أريد أن ألفت الانتباه أيضا إلي أن قتامة المشهد وغزارة الدم المراق, والقشعريرة التي تستبد بنا ونحن نسمع أنات الثكالي, أو نري الجثث الملقاة في الشوارع, ذلك كله ينبغي ألا يحجب عنا رؤية شعاعات الفجر الآتي من رحم ظلمة الليل الحالك, فتلك سنة الله في خلقه, وذلك درس التاريخ الذي يعجز الطواغيت والجبابرة عن استيعابه.
نعم.. العدو في المشهد الفلسطيني مدجج بكل سلاح, ومدعوم ومؤيد بأعتي قوي الأرض, لكننا لم نعرف أن مثل ذلك العدو نجح في تحدي السنن والوقوف أمام عجلة التاريخ, ذلك أن نضال الشعوب هو الذي ينتصر في نهاية المطاف, مهما طال الزمن, ولئن كانت تلك سنة الحياة وقانونها الأبدي, فإنها تكتسب وضعا خاصا حين يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني, الذي يتمتع بقدرة مذهلة علي الثبات والمقاومة, وفشلت طيلة نصف القرن الأخير علي الأقل محاولات تركيعه وكسر إرادته, وبات غنيا عن القول أن الذين لا يهابون الموت, ويتسابقون علي الشهادة, هم الأجدر بالحياة والمؤهلون أكثر من غيرهم لتلقي بشارات النصر وبلوغ الحلم.
أحسب أن الإسرائيليين أصبحوا يعون هذه الحقيقة جيدا, من حيث أنهم أدركوا أن إلغاء الحلم أو إجهاضه ليس ضد السنن وضد التاريخ فحسب, ولكن كل الشواهد العملية أكدت أيضا استحالته. لذلك فإن ما يسعون إليه الآن هو تقليص الحلم واختزاله وتشويهه قدر الإمكان, الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إنهم لا يحاربون الآن من أجل هل تقوم الدولة الفلسطينية أم لا, ولكنهم يخوضون حرب التفاصيل: حول أين وكيف ومتي؟
(3)
مثلما كشفت الأحداث عن حدود القدرة الفلسطينية علي الصمود والمقاومة, فإنها كشفت أيضا عن حدود القدرة العربية علي الفعل والتأثير, سياسيا وعسكريا واقتصاديا. إذ بوسعنا أن نقول إن تلك الحدود من التواضع بحيث إنها عجزت حتي الآن عن أن تفعل شيئا يؤثر إيجابيا علي مجري الأحداث, وليس من شك أن تهافت القدرة العربية علي التأثير هو الذي شجع الولايات المتحدة علي أن تذهب إلي ما ذهبت إليه في الجهر بتسويغ الاجتياح الإسرائيلي والدفاع عنه.
إننا نتحدث كثيرا عما يدبره الآخرون ويفعلونه, في حين أن ذلك كله يندرج تحت عنوان قيامهم بواجبهم إزاء مصالحهم أو تطلعاتهم, التي نراها نحن شرورا وأطماعا, لكننا قليلا ما نتطلع إلي المرآة لكي نري وجوهنا جيدا, ونسأل أنفسنا عما إذا كنا قد قمنا حقا بما علينا لرفع كفاءتنا في الدفاع عن حقوقنا ومستقبلنا, والكفاءة التي أعنيها تشمل البنية السياسية والقوة الاقتصادية والقدرة العسكرية.
لسنا نبالغ إذا قلنا إن ذلك لم يحدث, لا علي المستوي القطري, أو الإقليمي, ناهيك عن المستوي القومي, ولا أريد أن أستثني قطرا عربيا, كما أنني لا أريد أن أدخل في الجدل حول من الذي عليه تقع مسئولية التصدي في الوقت الراهن, دول الطوق التي لها حدودها مع إسرائيل, أم دول النفط التي تملأ الجيوب الأمريكية بالمال, ذلك أن المسئولية موزعة علي الجميع ربما بالتساوي, وليس هذا أوان مزايدة كل طرف علي الآخر أو اتهامه.
غاية ما قدمه العرب أنهم أعلنوا مبادرة للسلام, رد عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بعد24 ساعة فقط بقرع طبول الحرب, وفي حين ظل العرب يرددون مقولة إن السلام خيارهم الاستراتيجي, فإن إسرائيل ما برحت تسلح نفسها وتحشد قواها مبقية علي خيار الحرب. وإذ فقد شعار العرب المرفوع قدرتهم علي الردع, فإن ذلك أفقدهم تلقائيا القدرة علي إحلال السلام, بالمقابل فإن إسرائيل استقبلت ذلك كله بثقة متزايدة مكنتها من توظيف السلام لمصلحة استمرار الاحتلال, كما شجعتها علي السعي الحثيث إلي تحويل السلام إلي استسلام كامل.
وحده النظر الحصيف إلي المرآة, الذي لابد أن يستصحب حوارا حرا مفتوحا, يمكننا من أن نضع أيدينا علي مواضع الخلل في الموقف العربي, وعما إذا كان الخلل في الإرادة, أم في الهيكل والبنيان, وهو ما لم يتم حتي الآن للأسف الشديد.
خذ جزئية بسيطة جسدت الانكشاف, مثل حالة نشطاء السلام الذين قدموا من أقطار عديدة في أوروبا وأمريكا وأمريكا اللاتينية, وذهبوا إلي الأرض المحتلة للتضامن مع الرئيس عرفات وسكان المخيمات هناك, وهم الذين تحدثت الصحف عن تطوعهم ليكونوا دروعا بشرية رمزية تقف في مواجهة العدوان الإسرائيلي, لقد بحثت عن اسم أو وجه لواحد ممن رفعوا رايات السلام وطنطنوا باسمه في بلادنا, فلم أجد, لقد رأيناهم قبلا في الفنادق الباذخة يعزفون أناشيد السلام مع الإسرائيليين, وتابعناهم وهم يدبجون المقالات في الصحف, ويلوكون الشعارات عبر القنوات الفضائية, لكن حين دقت ساعة الجد, وبدا أن السلام سيتحول إلي نضال ومسئولية, فإنهم اختفوا من الصورة تماما, ولم نعثر لأي منهم علي أثر!
(4)
أيضا انكشف الوجه الإسرائيلي القبيح إلي أبعد مدي. فقد أصبحت شعبية شارون تتزايد كلما أولغ في الدم الفلسطيني, وبعد أن قام باجتياح المدن وحصارها وتجويعها, وقطع عنها المياه والكهرباء والغاز, وبعد أن عزل عرفات وقصف مقره, وأصبحت جثث الفلسطينيين متناثرة في الشوارع, وجرحاهم يمنع إنقاذهم أو يخطفون من المستشفيات, بعد ذلك كله ارتفعت شعبية شارون, ودلت الاستطلاعات علي أن ثلاثة من كل أربعة يؤيدونه.
ليس ذلك فحسب, وإنما أصبح46% من الإسرائيليين يرون أن ترحيل الفلسطينيين وإلقاءهم وراء الحدود هو الحل, في دعوة غير خافية للتطهير العرقي( في سنة1992 أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة التطهير العرقي الذي قام به الصرب في البوسنة واعتبرته شكلا من أشكال الإبادة), ونقلت جريدة هاآرتس واسعة الانتشار( في3/25) تقريرا حول إجازة التوراة لعملية الطرد( الترانسفير), تحدث عن الجدل الدائر حول شرعية الطرد في إسرائيل, مما يشير إلي تزايد الاهتمام بالفكرة باعتبارها حلا متاحا.
هذه المؤشرات تطرح علينا بقوة السؤال التالي وتشكك في إجابته: هل المجتمع الإسرائيلي راغب حقا في السلام ومستعد له؟!
انكشفت بذات القدر لعبة حركات السلام في إسرائيل, وكما حدث في كل مواجهة سابقة, فإنه حين تتعرض مثل هذه الحركات لاختبار حقيقي, فإنها تختفي من الوجود, وتجد مكان اصطفافها الحقيقي إلي جانب مشروع الإبادة, وتتحول إلي فصيل مقاتل تحت رايته.
أما الذي انفضح علي نحو يخرس ألسنة المتصهينين العرب ومن لف لفهم, فهو حزب العمل الذي هو شريك أ ساسي في حكومة شارون الحالية, ليس ذلك فحسب وإنما الذي يدير معركة الإبادة الحقيقية علي الجبهتين السياسية والعسكرية هم قيادات حزب العمل: بيريز وزير الخارجية, وبن إليعازر وزير الدفاع, وموفاز رئيس الأركان, وهو ما يبطل إلي الأبد ذريعة المهزومين والمراوغين الذين ما برحوا يراهنون علي حزب العمل, زاعمين أن شارون وأمثاله من الصقور هم المشكلة, وهي حجة نسفها شارون نفسه, حيث أشرك الجميع في الوزارة, لكي يؤكد ـ ربما علي غير رغبة منه ـ أن الفروق بين النخبة الإسرائيلية في الفروع وليس في الأصول, وأنهم علي قلب رجل واحد في المقاصد والأهداف العليا.
هل نضيف إلي ما سبق أن مشروع السلام كله انكشفت حقيقته, وأن شارون جاء لينفذ بالقوة ما سعي أسلافه إلي تنفيذه بالحيلة والسياسة؟ لست بحاجة لأن نفصل في الإجابة, لأن كل ما بني خلال السنوات العشر السابقة تم تعويضه سياسيا وعمرانيا, الأمر الذي عاد بالملف إلي نقطة الصفر, وحول أي كلام عن اتفاقات أو تفاهمات سابقة من قبيل الثرثرة واللغو, الذي يعد مضيعة للوقت, وتبديدا للطاقة والجهد, ناهيك عن أن العودة إلي تلك الأحاديث لم تعد واردة الآن, بعد الثمن الباهظ الذي دفع, وشلال الدم الذي أغرق الأرض المحتلة.
(5)
أم العورات التي انكشفت كانت الإدارة الأمريكية, ذلك أننا نعرف كم هي منحازة الولايات المتحدة لإسرائيل منذ تأسيسها في عام1948, لكننا كنا نلاحظ أن ذلك التحيز كان يتم ببعض الحياء أحيانا, والاحتشام في أحيان أخري, وقدرنا مواقف قيادات أمريكية حظيت بدرجات متفاوتة من الاحترام, مثل ودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت ودوايت ايزنهاور وجون كنيدي, لكن ما فعله الرئيس الحالي جورج بوش وفريقه فاق كل ما كان متوقعا, سواء في انفضاح الازدراء بالعرب أو الاستخذاء أمام الإسرائيليين.
لم يعد سرا أن الاجتياح الإسرائيلي للمدن الفلسطينية وحصار عرفات ما كان له أن يتم ما لم يكن هناك ضوء أخضر من واشنطن, ودخل السر حيز العلن رسميا يومي29 و3/30 ـ مع بداية الاجتياح ـ حين تحدث أولا وزير الخارجية كولين باول وبعده جاءت تصريحات الرئيس بوش في اليوم التالي مباشرة, وبدا كلامه معبرا عن استهتار واضح, حتي بقرار مجلس الأمن الأخير( رقم1402) الذي صدقت عليه الولايات المتحدة, قدمت تصريحات الرجلين دعما واضحا للغزو الإسرائيلي, حيث ألقت مسئوليته علي كاهل الرئيس عرفات, وأعربت عن التعاطف المدهش مع الدوافع الإسرائيلية وراء الغزو, وتجاهلت الآلام الفلسطينية والرأي العام العربي كله.
وفي التعليق علي تلك التصريحات قال أحد الكتاب الدكتور بشير نافع: إن من تابعها من العرب علي خلفية الدمار والدماء التي اجتاحت شوارع رام الله لابد أن يتساءل بدوره: لماذا يكرهوننا إلي ذلك الحد أولئك المسئولون الأمريكيون؟ أما الشاعر محمود درويش فقد وصف موقف البيت الأبيض بأنه ألغي واو العطف النسبية التي كانت تقع بين إسرائيل وأمريكا!
في هذه الأجواء ما كان يتصور أحد أن يوفد الرئيس الأمريكي مبعوثا إلي المنطقة لمناقشة التفاهمات التي قبلها الطرفان, ثم يحدد شارون إقامته في أحد فنادق تل أبيب, ويمنعه من الاتصال بالرئيس عرفات. وحين يسمح له بالالتقاء مرة يتيمة, ويحاول الجنرال زيني معاودة الاجتماع بعرفات مرة ثانية, فإنه يمنع من ذلك بأمر من شارون, حدث ذلك كله بينما البيت الأبيض ملتزم بالصمت, بل إن الرئيس بوش نفسه حين دعا مرتين إلي انسحاب إسرائيل من المدن التي احتلتها, بعد أن حمل أبو عمار بالمسئولية عن العنف, فإن شارون ضرب بالكلام عرض الحائط واستمر في اجتياح المزيد من المدن.
كل ذلك والرئيس الأمريكي معتصم بسكوت عالمثالثي مدهش, الأمر الذي يحير المرء بحيث لا يعرف سر السكوت, وهل هو عن استقواء واستكبار من شارون, أم انكسار واستخذاء من بوش, أم أنه تفويت من الأخير حتي يضمن أصوات اليهود في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في الخريف المقبل.
أيا كان الأمر فمجمل الموقف الأمريكي من هذه الزاوية يرشح بجدارة لأن يأخذ مكانه في أية جريدة تحت عنوان: صدق أو لا تصدق!
إذا جاز لي أن أمد البصر إلي ما وراء السحب القاتمة التي تكاد تسد علينا الأفق الآن, وأصف نوازل الساعة في منطقتنا فلن أتردد في وصفها بالكاشفة, ذلك أن هذا الذي يحز في نفوسنا, ويثقل قلوبنا بالهم والحزن حتي يكاد يزلزل فينا اليقين, جاء كاشفا لكل شيء حولنا, مسقطا للأقنعة ومبددا للأوهام, ونازعا أوراق التوت عن الأوزان والأحجام
(1)
قبل أي كلام فإنني أدعو بشدة إلي الكف عن لطم الخدود وشق الجيوب وندب الحظوظ, أهم منذ ذلك أدعو إلي وقف توزيع الاتهامات, وتبادل الشتائم والغمز واللمز الذي يمارسه البعض بلا مسئولية في عدد من العواصم العربية, فلا هذه ساعة القنوط, ولا هو أوان تصفية الحسابات وشق الصفوف.
إننا بحاجة إلي إعادة قراءة المشهد الفلسطيني ووضعه في إطاره الطبيعي الذي يستحقه, وفي هذا الصدد فإنني أتفق مع ما عبر عنه الكاتب الأردني الأستاذ طارق مصاروة, حين قال: إن الذي يحدث في فلسطين الآن ـ في حقيقته ـ ليس عدوانا إسرائيليا علي شعب فلسطين, وإنما هو ثورة التحرير المتصاعدة في مواجهة الاحتلال, والتحول الطبيعي لقوي النضال الفلسطيني من الاحتجاج, ومعارك الحجارة, إلي حرب التحرير.. تماما كحرب التحرير في الجزائر, وفيتنام, وكل إفريقيا وآسيا وأمريكا الوسطي.
وإذا كانت اقتحامات العدو لمدن رام الله والبيرة وبيت لحم وقلقيلية قد تجاوزت ما نظنه نحن بأنه حدود العراك, فإن الفلسطينيين اقتحموا هم أيضا تل أبيب والقدس الغربية وحيفا وناتانيا, ودمروا كما دمرت الدبابات الإسرائيلية وهددوا الدولة اليهودية كتهديدها للسلطة الوطنية وقيادتها.
فهذه هي حرب التحرير, ويجب ألا يخيفنا مشهد الدبابات التي تدخل الشوارع الفلسطينية, فإسرائيل تخاف من كل فلسطيني يدخل مقهي أو يمر في الشارع أو يشتري من محل تجاري.. تخاف من كل فلسطيني أو كل من يشبه الفلسطينين!( القدس العربي ـ4/5).
إن هذا الذي يحدث في فلسطين الآن هو الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون لتحرير بلادهم من الاحتلال, وهو ثمن غال حقا, لكن لا ننسي أن الهدف كبير أيضا وأن الحلم يستحقه بامتياز, أما الخطيئة الكبري فهي أن يهدر كل ما بذل, ويهون من شأنه, بحيث يكتفي في مقابلة بمجرد الجلوس علي طاولة المفاوضات.
وإذ أدعو إلي فهم ما يجري في فلسطين علي ذلك النحو, فإن ذلك لا يعفي الأطراف العربية من مسئولية التضامن مع النضال الفلسطيني, ليس فقط لأنه شقيق, ولكن أيضا لأن دعم النضال الفلسطيني هو في الوقت نفسه دفاع عن الأمن القومي العربي, وصد للغزوة الصهيونية التي هي في نهاية المطاف جزء من مشروع الهيمنة الغربية علي المنطقة.
ليس المفجع ما يحدث في فلسطين, لكنه تلك الريح المسمومة التي لاحت نذرها أخيرا في الأفق العربي, متمثلة في مقدمات حملة تبادل الشتائم والاتهامات بين بعض العواصم العربية, ولئن وصفت ما بدا من تلك الحملة باعتبارها موقفا غير مسئول, إلا أنه يستحق توصيفا أقسي وأكثر حدة, خصوصا إذا صدر عن عواصم لها وزنها, وعبر بعض المنابر التي يفترض أنها تتمتع ببعض الاحترام.
نعم هناك تفاوت في الحسابات والمواقف العربية نفهمه, لكني أزعم أن الظرف الراهن يقتضي احتواء الخلافات وتذويبها, وليس إبرازها وتعميقها واستخدامها مادة في التراشق الإعلامي, كما أفهم أن العواصم الكبيرة ينبغي أن تستعلي فوق مثل هذه الأمور, بحيث تشغل نفسها بالكليات والأهداف الكبيرة, وتمتنع بحزم عن التورط في أية معارك جانبية صغيرة, من تلك التي تجيدها وتسعد بها أبواق الإثارة المفتقرة إلي البراءة.
(2)
أريد أن ألفت الانتباه أيضا إلي أن قتامة المشهد وغزارة الدم المراق, والقشعريرة التي تستبد بنا ونحن نسمع أنات الثكالي, أو نري الجثث الملقاة في الشوارع, ذلك كله ينبغي ألا يحجب عنا رؤية شعاعات الفجر الآتي من رحم ظلمة الليل الحالك, فتلك سنة الله في خلقه, وذلك درس التاريخ الذي يعجز الطواغيت والجبابرة عن استيعابه.
نعم.. العدو في المشهد الفلسطيني مدجج بكل سلاح, ومدعوم ومؤيد بأعتي قوي الأرض, لكننا لم نعرف أن مثل ذلك العدو نجح في تحدي السنن والوقوف أمام عجلة التاريخ, ذلك أن نضال الشعوب هو الذي ينتصر في نهاية المطاف, مهما طال الزمن, ولئن كانت تلك سنة الحياة وقانونها الأبدي, فإنها تكتسب وضعا خاصا حين يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني, الذي يتمتع بقدرة مذهلة علي الثبات والمقاومة, وفشلت طيلة نصف القرن الأخير علي الأقل محاولات تركيعه وكسر إرادته, وبات غنيا عن القول أن الذين لا يهابون الموت, ويتسابقون علي الشهادة, هم الأجدر بالحياة والمؤهلون أكثر من غيرهم لتلقي بشارات النصر وبلوغ الحلم.
أحسب أن الإسرائيليين أصبحوا يعون هذه الحقيقة جيدا, من حيث أنهم أدركوا أن إلغاء الحلم أو إجهاضه ليس ضد السنن وضد التاريخ فحسب, ولكن كل الشواهد العملية أكدت أيضا استحالته. لذلك فإن ما يسعون إليه الآن هو تقليص الحلم واختزاله وتشويهه قدر الإمكان, الأمر الذي يسوغ لنا أن نقول إنهم لا يحاربون الآن من أجل هل تقوم الدولة الفلسطينية أم لا, ولكنهم يخوضون حرب التفاصيل: حول أين وكيف ومتي؟
(3)
مثلما كشفت الأحداث عن حدود القدرة الفلسطينية علي الصمود والمقاومة, فإنها كشفت أيضا عن حدود القدرة العربية علي الفعل والتأثير, سياسيا وعسكريا واقتصاديا. إذ بوسعنا أن نقول إن تلك الحدود من التواضع بحيث إنها عجزت حتي الآن عن أن تفعل شيئا يؤثر إيجابيا علي مجري الأحداث, وليس من شك أن تهافت القدرة العربية علي التأثير هو الذي شجع الولايات المتحدة علي أن تذهب إلي ما ذهبت إليه في الجهر بتسويغ الاجتياح الإسرائيلي والدفاع عنه.
إننا نتحدث كثيرا عما يدبره الآخرون ويفعلونه, في حين أن ذلك كله يندرج تحت عنوان قيامهم بواجبهم إزاء مصالحهم أو تطلعاتهم, التي نراها نحن شرورا وأطماعا, لكننا قليلا ما نتطلع إلي المرآة لكي نري وجوهنا جيدا, ونسأل أنفسنا عما إذا كنا قد قمنا حقا بما علينا لرفع كفاءتنا في الدفاع عن حقوقنا ومستقبلنا, والكفاءة التي أعنيها تشمل البنية السياسية والقوة الاقتصادية والقدرة العسكرية.
لسنا نبالغ إذا قلنا إن ذلك لم يحدث, لا علي المستوي القطري, أو الإقليمي, ناهيك عن المستوي القومي, ولا أريد أن أستثني قطرا عربيا, كما أنني لا أريد أن أدخل في الجدل حول من الذي عليه تقع مسئولية التصدي في الوقت الراهن, دول الطوق التي لها حدودها مع إسرائيل, أم دول النفط التي تملأ الجيوب الأمريكية بالمال, ذلك أن المسئولية موزعة علي الجميع ربما بالتساوي, وليس هذا أوان مزايدة كل طرف علي الآخر أو اتهامه.
غاية ما قدمه العرب أنهم أعلنوا مبادرة للسلام, رد عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بعد24 ساعة فقط بقرع طبول الحرب, وفي حين ظل العرب يرددون مقولة إن السلام خيارهم الاستراتيجي, فإن إسرائيل ما برحت تسلح نفسها وتحشد قواها مبقية علي خيار الحرب. وإذ فقد شعار العرب المرفوع قدرتهم علي الردع, فإن ذلك أفقدهم تلقائيا القدرة علي إحلال السلام, بالمقابل فإن إسرائيل استقبلت ذلك كله بثقة متزايدة مكنتها من توظيف السلام لمصلحة استمرار الاحتلال, كما شجعتها علي السعي الحثيث إلي تحويل السلام إلي استسلام كامل.
وحده النظر الحصيف إلي المرآة, الذي لابد أن يستصحب حوارا حرا مفتوحا, يمكننا من أن نضع أيدينا علي مواضع الخلل في الموقف العربي, وعما إذا كان الخلل في الإرادة, أم في الهيكل والبنيان, وهو ما لم يتم حتي الآن للأسف الشديد.
خذ جزئية بسيطة جسدت الانكشاف, مثل حالة نشطاء السلام الذين قدموا من أقطار عديدة في أوروبا وأمريكا وأمريكا اللاتينية, وذهبوا إلي الأرض المحتلة للتضامن مع الرئيس عرفات وسكان المخيمات هناك, وهم الذين تحدثت الصحف عن تطوعهم ليكونوا دروعا بشرية رمزية تقف في مواجهة العدوان الإسرائيلي, لقد بحثت عن اسم أو وجه لواحد ممن رفعوا رايات السلام وطنطنوا باسمه في بلادنا, فلم أجد, لقد رأيناهم قبلا في الفنادق الباذخة يعزفون أناشيد السلام مع الإسرائيليين, وتابعناهم وهم يدبجون المقالات في الصحف, ويلوكون الشعارات عبر القنوات الفضائية, لكن حين دقت ساعة الجد, وبدا أن السلام سيتحول إلي نضال ومسئولية, فإنهم اختفوا من الصورة تماما, ولم نعثر لأي منهم علي أثر!
(4)
أيضا انكشف الوجه الإسرائيلي القبيح إلي أبعد مدي. فقد أصبحت شعبية شارون تتزايد كلما أولغ في الدم الفلسطيني, وبعد أن قام باجتياح المدن وحصارها وتجويعها, وقطع عنها المياه والكهرباء والغاز, وبعد أن عزل عرفات وقصف مقره, وأصبحت جثث الفلسطينيين متناثرة في الشوارع, وجرحاهم يمنع إنقاذهم أو يخطفون من المستشفيات, بعد ذلك كله ارتفعت شعبية شارون, ودلت الاستطلاعات علي أن ثلاثة من كل أربعة يؤيدونه.
ليس ذلك فحسب, وإنما أصبح46% من الإسرائيليين يرون أن ترحيل الفلسطينيين وإلقاءهم وراء الحدود هو الحل, في دعوة غير خافية للتطهير العرقي( في سنة1992 أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة التطهير العرقي الذي قام به الصرب في البوسنة واعتبرته شكلا من أشكال الإبادة), ونقلت جريدة هاآرتس واسعة الانتشار( في3/25) تقريرا حول إجازة التوراة لعملية الطرد( الترانسفير), تحدث عن الجدل الدائر حول شرعية الطرد في إسرائيل, مما يشير إلي تزايد الاهتمام بالفكرة باعتبارها حلا متاحا.
هذه المؤشرات تطرح علينا بقوة السؤال التالي وتشكك في إجابته: هل المجتمع الإسرائيلي راغب حقا في السلام ومستعد له؟!
انكشفت بذات القدر لعبة حركات السلام في إسرائيل, وكما حدث في كل مواجهة سابقة, فإنه حين تتعرض مثل هذه الحركات لاختبار حقيقي, فإنها تختفي من الوجود, وتجد مكان اصطفافها الحقيقي إلي جانب مشروع الإبادة, وتتحول إلي فصيل مقاتل تحت رايته.
أما الذي انفضح علي نحو يخرس ألسنة المتصهينين العرب ومن لف لفهم, فهو حزب العمل الذي هو شريك أ ساسي في حكومة شارون الحالية, ليس ذلك فحسب وإنما الذي يدير معركة الإبادة الحقيقية علي الجبهتين السياسية والعسكرية هم قيادات حزب العمل: بيريز وزير الخارجية, وبن إليعازر وزير الدفاع, وموفاز رئيس الأركان, وهو ما يبطل إلي الأبد ذريعة المهزومين والمراوغين الذين ما برحوا يراهنون علي حزب العمل, زاعمين أن شارون وأمثاله من الصقور هم المشكلة, وهي حجة نسفها شارون نفسه, حيث أشرك الجميع في الوزارة, لكي يؤكد ـ ربما علي غير رغبة منه ـ أن الفروق بين النخبة الإسرائيلية في الفروع وليس في الأصول, وأنهم علي قلب رجل واحد في المقاصد والأهداف العليا.
هل نضيف إلي ما سبق أن مشروع السلام كله انكشفت حقيقته, وأن شارون جاء لينفذ بالقوة ما سعي أسلافه إلي تنفيذه بالحيلة والسياسة؟ لست بحاجة لأن نفصل في الإجابة, لأن كل ما بني خلال السنوات العشر السابقة تم تعويضه سياسيا وعمرانيا, الأمر الذي عاد بالملف إلي نقطة الصفر, وحول أي كلام عن اتفاقات أو تفاهمات سابقة من قبيل الثرثرة واللغو, الذي يعد مضيعة للوقت, وتبديدا للطاقة والجهد, ناهيك عن أن العودة إلي تلك الأحاديث لم تعد واردة الآن, بعد الثمن الباهظ الذي دفع, وشلال الدم الذي أغرق الأرض المحتلة.
(5)
أم العورات التي انكشفت كانت الإدارة الأمريكية, ذلك أننا نعرف كم هي منحازة الولايات المتحدة لإسرائيل منذ تأسيسها في عام1948, لكننا كنا نلاحظ أن ذلك التحيز كان يتم ببعض الحياء أحيانا, والاحتشام في أحيان أخري, وقدرنا مواقف قيادات أمريكية حظيت بدرجات متفاوتة من الاحترام, مثل ودرو ويلسون وفرانكلين روزفلت ودوايت ايزنهاور وجون كنيدي, لكن ما فعله الرئيس الحالي جورج بوش وفريقه فاق كل ما كان متوقعا, سواء في انفضاح الازدراء بالعرب أو الاستخذاء أمام الإسرائيليين.
لم يعد سرا أن الاجتياح الإسرائيلي للمدن الفلسطينية وحصار عرفات ما كان له أن يتم ما لم يكن هناك ضوء أخضر من واشنطن, ودخل السر حيز العلن رسميا يومي29 و3/30 ـ مع بداية الاجتياح ـ حين تحدث أولا وزير الخارجية كولين باول وبعده جاءت تصريحات الرئيس بوش في اليوم التالي مباشرة, وبدا كلامه معبرا عن استهتار واضح, حتي بقرار مجلس الأمن الأخير( رقم1402) الذي صدقت عليه الولايات المتحدة, قدمت تصريحات الرجلين دعما واضحا للغزو الإسرائيلي, حيث ألقت مسئوليته علي كاهل الرئيس عرفات, وأعربت عن التعاطف المدهش مع الدوافع الإسرائيلية وراء الغزو, وتجاهلت الآلام الفلسطينية والرأي العام العربي كله.
وفي التعليق علي تلك التصريحات قال أحد الكتاب الدكتور بشير نافع: إن من تابعها من العرب علي خلفية الدمار والدماء التي اجتاحت شوارع رام الله لابد أن يتساءل بدوره: لماذا يكرهوننا إلي ذلك الحد أولئك المسئولون الأمريكيون؟ أما الشاعر محمود درويش فقد وصف موقف البيت الأبيض بأنه ألغي واو العطف النسبية التي كانت تقع بين إسرائيل وأمريكا!
في هذه الأجواء ما كان يتصور أحد أن يوفد الرئيس الأمريكي مبعوثا إلي المنطقة لمناقشة التفاهمات التي قبلها الطرفان, ثم يحدد شارون إقامته في أحد فنادق تل أبيب, ويمنعه من الاتصال بالرئيس عرفات. وحين يسمح له بالالتقاء مرة يتيمة, ويحاول الجنرال زيني معاودة الاجتماع بعرفات مرة ثانية, فإنه يمنع من ذلك بأمر من شارون, حدث ذلك كله بينما البيت الأبيض ملتزم بالصمت, بل إن الرئيس بوش نفسه حين دعا مرتين إلي انسحاب إسرائيل من المدن التي احتلتها, بعد أن حمل أبو عمار بالمسئولية عن العنف, فإن شارون ضرب بالكلام عرض الحائط واستمر في اجتياح المزيد من المدن.
كل ذلك والرئيس الأمريكي معتصم بسكوت عالمثالثي مدهش, الأمر الذي يحير المرء بحيث لا يعرف سر السكوت, وهل هو عن استقواء واستكبار من شارون, أم انكسار واستخذاء من بوش, أم أنه تفويت من الأخير حتي يضمن أصوات اليهود في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس في الخريف المقبل.
أيا كان الأمر فمجمل الموقف الأمريكي من هذه الزاوية يرشح بجدارة لأن يأخذ مكانه في أية جريدة تحت عنوان: صدق أو لا تصدق!