مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2016/10/30 18:12
غاية التعليم

التعليم والتعلم خلال التاريخ لم يكن بهذه الصورة التي نشهدها حالياً، حيث كان المتعلمين هم ندرة من الناس، وخصوصا الجزيرة العربية. وكان في كثير من الأحيان يقتصر على القراءة والكتابة. وعند قدوم الإسلام حث الرسول الكريم على طلب العلم وأن العلم هو الحكمة وحث على السعي لها. انتشر الإسلام خارج الجزيرة العربية ومع تلاقي المسلمين مع شعوب وثقافات مختلفة نمت العديد من المعارف داخل المجتمعات الإسلامية. وتعتبر جزء من المعرفة العلمية التاريخية تعود للحقبة علماء الإسلام، كالرازي وابن سينا والغزالي، والخوارزمي، وابن الهيثم، وابن خلدون وغيرهم من العلماء الذين أسسوا بعلمهم جذور للعلم الحديث المعاصر. توقفت حركة المعرفة في المشرق العربي وجزء كبير من العالم الإسلامي نتيجة ظروف تاريخية إغرقت المجتمع الإسلامي والعربي في وحل الاستبداد والتخلف والكهنوتية، ونشوب الصراعات والحروب المستمرة التي تطرد العقول وتمنع نشوء معرفة حرة وحقيقية.

لحالة التخلف المعرفي العديد من الأسباب التاريخية، لكن في هذا المقال نناقش الغاية من التعلم في العصر الحديث. بعد أن تيسر التعليم كنمط أساسي في مجمل دول العالم وتبرمج بثلاث مراحل تعليمية ثم مرحلة جامعية، وأصبحت مخرجات التعليم تتشابه حسب معايير النجاح المنمط بقوالب بيروقراطية معينة، تحرص على الكم وليس الكيف، تحرص على أن يتخرج جميع الطلبة لا أن يتخرج الطالب يعي ما درس. هناك تعليمات رسمية لكافة المراحل التعليمية والجامعية بأن "لا يرسب أحد" لأن الرواسب يمثل خسارة مادية للدولة. لهذا تتخرج جحافل من الطلاب كل سنة من الثانوية العامة بمستويات متفاوتة، لكنها ضعيفة معرفيا في الأساسيات ( الكتابة، القراءة، النقد، التحليل، الإحصائي، والحساب) يذهب الطالب إلى الجامعة ويبتلى بنظام السنة التأسيسية، التي تحاول خلال فصلين دراسيين إصلاح ما أفسده التعليم الأساسي وسد الثغرات من خلال عدة مواد دراسية.

خلال سنوات الجامعة تستمر المعاناة بشكلها الجديد، نسبة كبيرة من الأساتذة غير متعلمين بالقدر الكافي، مناهج ضعيفة وقديمة، وطالب فاقد وزاهد في القيمة التعليمية، ويكون الهدف من  دخول الجامعة كمرحلة أساسية وجسر نحو الوظيفة بغض النظر عن التحصيل المعرفي. هذا ما يمكن تسميته بالدمار الشامل، حيث يستغرق الطالب أكثر من ١٦ سنة على المقاعد الدراسية وبعد تخرجه من الجامعة يخرج بعقلية بسيطة تجهل الأساسيات، وفي كثير من الأحيان عالة على نفسه وعلى الحياة. والحقيقة أن العلة الأساسية تكمن في النظام التعليمي، وخصوصا الجامعي حيث أن الجامعات لديها إمكانيات بإحياء روح المعرفة للطالب ومحاولة خلق وبذر صفات جديدة من خلالها يتشكل باعث ودافع للمعرفة والتعلم لدى الطلاب، لكن للأسف الجامعات لدينا هي عبارة عن مؤسسات يتنافس فيها الأساتذة على الأموال والعلاوات والمناصب الإدارية، ويزهد في البحث والنشر إلا لهدف الترقية، ويزهد في تعليم الطلبة بعض ما ينفعهم في تخصصهم. هناك أساتذة مؤثرين بالقدر الذي يكون له ذاته الجامعة ويكون ذو بصمة في حياتك، لكن هم ندرة. لكن المجمل العام للأسف يبعث على الأسى.

أقتبس نصاً ثمينا من مقال كتبه الدكتور الفاضل مختار الغوث عن تعليم المعدة، كيف أن التعليم تحولت غايته من تعليم الحكمة والأدب وتربية النفس إلا تعليم يبحث عن الخبز والماديات (محال أن تنهض أمة غير متعلمة، وليس التعلم رخص عمل، تصدرها مؤسسات التعليم اعتباطا. ولن ترشد أمة إلا إذا بنيت على العمل، وعلو الهمة الذي يحمل على الاستهانة بالصعاب وعشق الاستكشاف والتجريب، واعتماد التحدي. فإن عرت من هذا كانت نهضتها شيئية تستر بذور الفناء فيها بمظاهر خادعة. إن مؤسسات التعليم مصانع للعقول، وتكرير النفوس، وتصفيتها من الثقافات السلبية، وتحليتها بالثقافات الإيجابية البناءة، فإذا اقتصرت مهمتها على إصدار رخص "أكل العيش" وتعليق القلوب بالمصالح الشخصية وتحطيم الهمم، وإقرار الثقافات السلبية الموروثة في المجتمعات المتخلفة لم تصنع شيئا، وكان ضررها أكبر من نفعها. فليس "أكل العيش" وحده غاية يجند لها من الطاقات المادية والمعنوية ما يجند في مؤسسات التعليم، فقديما قال عيسى ـ عليه السلام ـ : "ليس بالخبز وحده يحيا الناس")، يصف العلامة محمد الطاهر بن عاشور أن ( التعليم الصحيح إذن يرمي إلى إنشاء أرقى أصناف الناس من كل من تمرس بالأشغال والأعمال، أو رزق المواهب الحسنة ورغب في سلوك خير السبل وشغف بالمعرفة وامتاز بحب الواجب والتعقل) ويقتبس من أفلاطون عن صف التعليم الصحيح فيقول ( هو موسيقى النفس ورياضة البدن وإن حسن السلوك..)

عندما تجد الأساتذة يغشون في كتابة بحوثهم أو يستكتبون من يكتب عنهم، أو يتجاوزون عن الغش، فمن الطبيعي أن لا يورث هذا النوع من الأستاذ أي نوع من الأخلاق ولا حباً للمعرفة. إصلاح التعليم ليس هو بالسعي للحصول على الاعترافات الدولية والتنافس على الدخول في التصنيف الدولي ، بل هو إصلاح الخلل الداخلي وصنع رؤية لإشكاليات المخرجات التي في داخل هذه المؤسسة. من الممكن أن تقتبس تجربة تعليم معين، لكن ليس بالضرورة أن تنجح التجربة، لأن لكل تجربة أصولها الثقافية التي نشأت عليها. هناك رغبة وقدرة لدى الكثير من المخلصين في إصلاح التعليم بعيداً المصالح المادية الضيقة، التعليم هو رأس المال وهو قوة، ومن العبث أن يتم العبث بالتعليم وجعله أمراً روتينياً بلا روح.

أضافة تعليق