الحمد لله الذي خلق الذكر والانثى، وجعل بينهما مودة ورحمة والصلاة والسلام على من كان أبر الناس بأهله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

      تتحد كلمة العلماء على التأكيد أنه من واجب الداعية القائم لله أن يفني عمره في استنهاض الهمم، وإحياء الأمم، بدءا باستنهاض همة الفرد لينتقل من الغفلة إلى الاستقامة، ثم استنهاض الأمة لتنتقل من واقع الذل والتبعية والتشرذم الى واقع العز والكرامة. والمدرسة الدعوية والتربوية التي شيد صرحها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، والمعروفة بالمدرسة المنهاجية (أو مدرسة المنهاج النبوي)، لم تكن بدعا من الدعوات الإصلاحية التي عرفها العالم الإسلامي مشرقا ومغربا، إلا أنها تفردت على مستوى التنظير والممارسة بعدة أمور، منها:

• تثبتها بمبدأ الرفق، واعتباره منهجا وسلوكا وخلقا حاكما على صوابية المواقف والأعمال في عالم لا تسمع فيه إلا لغة العنف، ومنطق القوة والغلبة والقهر.
• التمسك بالمبادئ مهما تشعبت السبل، والعمل الدؤوب مهما كثرت العقبات، متاعب ومطالب.
• من نقاط قوة مشروعها التجديدي، تميز نظرة مؤسسها وقراءته لقضايا الإسلام والمسلمين، وجرأته في الاعتزاز بالنهل من المعين القرآني النبوي، وأصالة استمداده منهما، ومن تلكم القضايا الشديدة الحساسية قضية الأسرة، حيث يرى أن الأسرة القوية عماد الأمة القوية، ومنها ينطلق التغيير المنشود ومنها تبدأ القومة.

إذن في مدرسة المنهاج النبوي، للأسرة أهمية قصوى، ولها وظائف كبرى، أين تتجلى هذه الأهمية؟ وما هي تلكم الوظائف؟ الجواب سأتناوله بإيجاز في نقطتين أساسيتين:

النقطة الاولى: أهمية الأسرة في الفكر المنهاجي .

  لقد أولى الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله عناية كبيرة لبناء الأسرة المسلمة، وربط صلاح الأمة بصلاحها، لأنها تعتبر محور التغيير أساسه.

ويرى -رحمة الله عليه- أن من سمات الغثائية الكثرة التي لا غنى فيها، ومن كان يظن أن إرضاء الذكر من المسلمين والأنثى شهوة عابرة، يتلوها نسل سائب تربيه الشوارع، في غير مسؤولية، فلا يدري ما هو العمل الصالح، ولا يفقه معنى كون الولد كسبا لك. أنت مسؤول عن تسليمه وصونه مما يُنصره أو يُشركه أو يُغوثه (من الغثائية). أم نكون نحن نغثي من بعدنا؟[1]

   ولبيان ذلك أكثر  ركزت مدرسة المنهاج النبوي على ثلاثة أبعاد كبرى يتوقف عليها استقرار الأسرة لتقوم بوظائفها المرجوة:

• يتعلق البعد الأول بربط الأسرة بالغايات التي خلق من أجلها الإنسان، وهي عبادة الله وابتغاء الدار الاخرة .
• ويتجلى البعد الثاني في ربط وظيفة الأسرة بالمقاصد الاستخلافية التي انتدب الله الانسان لتحقيقها.
• ويرتسم البعد الثالث في ربط نظام الأسرة بالأمانة والمسؤولية التي أوكلت للإنسان ليتحملها في الارض وهي أمانة الإعمار والتعمير  “بالمودة والرحمة الحميمين يتميز الزواج المطابِق بالقصد والفعل والتوفيق الإلهي للفطرة. وبهما لا بمجرد العَقْد القانوني يحصل الاستقرار في البيت، وبالاستقرار في البيت يشيع الاستقرار في المجتمع”[2].

وللأسرة في التصور المنهاجي معنى واسع وعميق،  فهي لبنة مهمة في كيان المجتمع والأمة، وأي خلل فيها يعيب سلامة البناء ويهدد الاستقرار الأسري والاجتماعي، إضافة إلى أنها خندق لحماية أركانها من الفتن، وتحصين  أفرادها من التيارات الجارفة، وهي مبعث ومنطلق لصناعة جيل يحمل لواء الإسلام ويتقدم بالدعوة إلى الأمام.

النقطة الثانية: الوظائف الأساسية للأسرة المسلمة.

     لا يختلف اثنان  في أن الأسرة احتلت وماتزال مكانة بارزة في المجتمعات الإنسانية عامة، حيث أنها تقوم بالعديد من الوظائف الأساسية التي تسهم في بقاء المجتمع الإنساني وديموته.

     ونعني بوظائف الأسرة تلكم الأعمال والواجبات التي تمارسها لصالح أفرادها والمجتمع بشكل عام.

     ولقد حصرها سيد قطب رحمه الله اثنتين بقوله: “ومن ضخامة تبعة هذه المؤسسة أولا: توفير السكن والطمأنينة والستر والإحصان للنفس بشطريها. ثانيا: إمداد المجتمع الإنساني بعوامل الامتداد والترقي”[3].

        وأضاف الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله وظيفة ثالثة للأسرة وهي الوظيفة الدعوية، حيث يصبح البيت المسلم قلعة للتغيير المنشود، ومن البيت الإسلامي تنطلق القومة، وذلك حاصل بتوفيق الله “إن كان البيت يسكنه مؤمنون، وكانت قلوب المؤمنين يسكنها حب الله والخوف من الله والرجاء”[4].

       من خلال ما سبق ذكره يمكن أن نجمل الوظائف الكبرى للأسرة المسلمة في ثلاثة: الوظيفة الفطرية، والوظيفة التربوية، ثم الوظيفة الدعوية، وفيما يلي بعض التفصيل:

1- الوظيفة الفطرية: تعتبر الأسرة مطلبا أساسيا يلبي احتياجات الافراد الفطرية، حيث أنها المكون الآمن للاستقرار الروحاني والنفسي والضامن الأبرز لتنمية القيم وحفظ الأنساب والحقوق .

      وتسعى الوظيفة الفطرية إلى توفير الاحتياجات الأساسية لأفرادها: مثل الإشباع العاطفي، وتوفير المسكن والمأكل والملبس والرعاية الصحية، وهي ضرورات العيش الكريم، وهذا ما دل عليه الحديث الذي أخرجه الامام الترمذي عن عبد الله بن محصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها”[5].

    والوالدان سفيران دائمان لوصل الرسالة الفطرية، خاصة الأم، الفطرة الاستقامة الأصلية على الدين ” جعل الله عز وجل حبلَ الفطرة ممتدا عبرَ الأجيال عن طريق الأمومة، مفتولا مُبْرَماً، شِقَّاهُ جسم الجنينِ ثم الطفل، وروحُ الطفل يحبو نحو الرجولة وينهض وله من قُدوة أمه وكلماتها البسيطة وإخبارها بحقائق وجود الله تعالى وخبر الآخرة زادٌ منه يستفيض عُمْرَه”[6].

2- الوظيفة التربوية: تعتبر الأسرة النظام الانساني الأول الذي يضمن استمرار النوع البشري، والمحافظة عليه وضمان بقاء مجموعة العلاقات التي تربط الأفراد فيما بينهم، ويتم ذلك عبر قيام الأسرة بوظيفتها التربوية، فتصون العلاقة الزوجية بالإحسان والبر والتسامح والإسعاف الحنون، وتتكفل بالطفل روحا وجسدا وعقلا. ترعى فطرته وتعلمه خبرات الحياة وتنمي مهاراته حيث ترفع من استعداده البيولوحي والنفسي ليغدو لبنة صالحة متهيئة لعملية التنشئة الاجتماعية التي تكسبه ثقافة الجماعة ونظمها وحكمتها، يقول الإمام عبد السلام ياسين في هذا الصدد “فجعل الولد عملا، والعمل أنت المسؤول عن صلاحه أو فساده، وقال الله عز وجل يخاطب نوحا عليه السلام لما سأله في ابنه: “قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ماليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين”(هود :  46)، فجعل الولد من عمل المرء. وذاك ولد ما قصر والده عليه السلام في إرشاده للخير إلى آخر نفس. فارتفعت مسؤولية الأب العبد نوح، وبقيت مشيئة الخالق الرب تعالى”[7].

     هنا ندرك عظمة المسؤولية الملقاة على عاتق الأسرة في التربية، خاصة حينما يتبين عجز المدارس والجامعات عن القيام بهذه المهمة، وأمام عواصف الدعاية الإعلامية والقنبلة الموقوتة للفكر والشعور ، حيث لا تجدي الموعظة ولا المنطق ولا التوبيخ ولا الزجر ولا  كسر الجهاز!!

فإنك إن كسرت جهاز البيت بقيت أجهزة الشارع والمدرسة، إلا ان تغلق بابك على من فيه، وتظل سجان أهلك وبنيك، فالأبوان ليسا فقط المؤثرين الوحيدين في الطفل، بل يمكن أن يؤثر فيه غير الأبوين: البيئة الفاسدة تؤثر في الطفل، إن لم يكن أبواه فاسدين تكون في الأسرة عناصر فاسدة تؤثر فيه، إن لم يكن في الأسرة عناصر فاسدة يكن في الشارع عناصر فاسدة تقوم بالمهمة الملمة، إن لم يكن في الشارع يكن في المدرسة، إن لم يكن في الشارع ولا في الأسرة ولا في المدرسة، خاصة في زماننا هذا، يكن في الأجهزة التي تنشر الفساد، وتعلم الفساد، وتعبر عنه، وتحض عليه: أجهزة الإعلام، الراديو، التلفاز، السينما، الجريدة، المجلة، الصور الخليعة  إلى غير ذلك[8].

3-  الوظيفة الدعوية: فمن أهم وظائف الأسرة إقامة الدين في الأرض تحقيقا لواجب الاستخلاف الذي انتدب الله إليه الإنسان .فالأسرة هي حجر الأساس التي تبدأ منه الدعوة، فإن تحقق الدين في أفرادها واستثمر، كان لها الأثر العظيم في تأدية هذه الوظيفة الموكلة إليها على الوجه الأمثل، فتكون الأسرة مثالا للتدين الصحيح لينشأ عليه الأبناء ابتداء، ويلاحظه الناس في المجتمع المحيط، فيقتدى به.

      وعلى هذا المعنى تعتبر الأسرة الإسلامية مؤسسة ذات بعد رسالي، تشهد بتدينها على أن الإسلام سبب الفلاح، فيقوم ذلك مقام التبليع الديني تبليغا عمليا، ” لا تُنسينـا ضرورة إقصاء المقطوعي الفطرة عن المواقع القيادية وضرورةُ تعقيم النسل المجدوع وظيفتَنا الدعوية، وشفقتَنا على الخلق، ورغبتَنا الشديدة في أن يهـديَ الله بنا رجلا واحدا، امرأة واحدة. لضرورة تعامُلِ الدولة الإسلامية مع المغربين واللاييكيين وأصناف الجاهلين بالدين والمعادين له نُطيل النظر الناقِد إليهم. ونطيل النظر لنعرف الأوصاف النفسية الفكرية للإنسان العَبَثيِّ العابث، ولنمارس وظيفتنا الدعوية بالرفق والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن”[9].

     بهذا تكون الأسرة المؤمنة حاملة للرسالة التي كلف الله بها أفرادها، حيث يسعى الزوجان من خلالها إلى الارتقاء بعلاقتمها إلى مرتبة الإحسان، وإلى الارتقاء بالأبوين إلى مرتبة “القداسة” عبر صناعة الولد الصالح وهي جبهة عمل لتخريج جيل قوي يصنع التاريخ بعطاءاته، “أجلُّ عملٍ وأعظم كسب ما عم نفعُه وامتد خيره ودامت إفاضاته. ويموت المرء والمرأة الصالحان فيبقى من كسبهما ما يُدِرّ البركات عليهما وعلى الناس، تطيب بغرسه حياتهما في الدار الآخرة، وتطيب بما زرعاه حياةُ الخلق هنا من بعدهما، ذلك إذا أنجبا ذرية صالحة موصولة الفطرة، سليمةً حنيفةً بما رعَيا وربَّيَا”[10].

 قال الله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾(الأحقاف،14).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عملُه إلا من ثلاثة: صدقةٍ جاريَةٍ، أو عِلْمٍ يُنتفَعُ به، أو وَلَدٍ صالح يدعو له». رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ختاما أتوجه بهذا النداء إلى كل من يستشعر إنسانيته، ويعرف قدر كرامته الأدمية، لنكن في الموعد ولنكن على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقنا ولنساهم في بناء أسر تشع نورا في مجتمعها، أسر لا تتوقف عند أداء الوظيفية الفطرية فقط، بل تتعداها إلى إتقان الوظيفة التربوية والدعوية، ولنحرص على رفع الهمم وشحذ العزائم، حتى ينهض الفرد وتنهض الأمة، وتقوم الأسرة بوظيفتها التي تأسست من أجلها.  والله المستعان.

[1] – سنة الله، عبد السلام ياسين، ص:267.

[2]–  العدل الإسلاميون والحكم، عبد السلام ياسين، ص:292.

[3] – في ظلال القرآن، سيد قطب:ج2، ص:649.

[4] –  تنوير المؤمنات، عبد السلام ياسين، ج2، ص:217.

[5]– الحديث رواه أيضا البخاري في الأدب المفرد، وابن ماجة وابن حبان، وقال الترمذي حديث حسن.

[6] – العدل، م،س، ص:297.

[7] – سنة الله، م،س ، ص:266.

[8] –  الفطرة وعلاج القلوب، عبد السلام ياسين، ص:23.

[9] – العدل، م،س، ص:515

[10]– العدل، م،س، ص:303.

*نقلاً عن موقع منار الإسلام للأبحاث والدراسات