مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2024/01/14 01:19
التماسك الأسري وسؤال القيم

إن الزواج من أكبر نعم الله جل وعلا على الإنسان، فقد جعله وسيلة للتراحم والتواد والألفة والوفاق والسكينة، ومنه تستريح الأنفس وتأنس من متاعب الحياة ومشاقها وعنائها، قال عز من قائل:  وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ  1

    وقال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: « خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي »2

    يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله: » أَقْوى ما تَسْتَقْوي بِهِ الأُمةُ مَتانَةُ بِناءِ الأُسْرَة،…  اَلأُسْرَةُ لَبِنَةُ الأَساسِ في الأُمةِ، وَالأُسْرَةُ الصالِحَةُ أُم صالِحَةٌ وَأَبٌ صالِحٌ وَعَمَلٌ صالِحٌ. « 3

     ويقول كذلك رحمه الله في موضع آخر: » مُنْيَةُ كُل شَيْطانٍ مِنْ شَياطينِ الإِنْسِ َوالْجِن أَنْ تَنْكَسِرَ الأُسْرَةُ، وَيضيعَ الأَوْلادُ وَيتَمَزقوا.” 4

  كما قال رحمة الله عليه:

” فَإِذا أَطْلَلْنا عَلى بَيْتِ النبُوةِ حَيْثُ الْعِلْمُ وَحَيْثُ الْفَضيلَةُ وَحَيْثُ الْقُدْوَةُ، وَجَدْنا مَتانَةَ الْبَيْتِ الإِسْلامِي، وَتَماسُكَ الأُسْرَةِ الإِسْلامِيةِ، وَتآزُرَ الزوْجِ وَالزوْجَةِ، وَصَبْرَهُما عَلى لأْواءِ الحياةِ، في أَجْلى مَظاهِرِها وَأَنْصَعِها وَأَقْواها.”5

     فكل أسرة تنشد الاستقرار والتماسك فلابد لكل زوج منها من مراعاة واجبات مع الله عز وجل أولَا وتجاه الشريك ثانيا ثم تجاه الأبناء ثالثا.

أولا – واجبات مع الله عز وجل:

ينبغي للمرء أن يحب الله جل وعلا  ليحبه و يحبب فيه الناس، فقد قال صلى الله عليه وسلم:

إِنَّ اللهَّ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَإِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَفَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُإِنَّ اللهَّ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَه الْقَبُولُ فِي الْأرْضِ، وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُإِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْه، قَالَ فَيُبْغِضُه جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَّ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَفَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَه الْبَغْضَاءُ فِي الأرْضِ “ 6

ترك الذنوب والمبادرة إلى التوبة: ذكر أبو نعيم عن سالم بن أبي الجعد عن أبي الدرداء قال:” ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لَا يشعر، ثم قال: تدري مم هذا ؟ قلت:لَا قال: إن العبد يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لَا يَشْعُرُ. “7

الدعاء، ثم الدعاء، ثم الدعاء: فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.

ثانيا- واجبات تجاه الشريك:

من أجل كسب مودة الشريك/الشريكة و الوقاية من منغصات الحياة، يجب على كل منهما ما يلي:

  • المعاشرة بالمعروف: قال تعالى: ” وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا “8

و يقتضي ذلك الابتعادَ عن كل ما من شأنه أن ينفر الشريك / الشريكة من بيت الزوجية، بل ومن علاقة الزواج نفسها في بعض الأحيان.

  • بذل الود والرفق حتى عند الخطأ: و لنا في قصة الأعرابي الذي تبول في المسجد درس و عبرة،وفي قصة أمنا عائشة رضي الله عنها (غارت أمكم).
  • حسن الاستقبال.
  • البدء بالسلام، قال تعالى: ” فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً ” 9

وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنس رضي الله عنه:” يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك” 10

  • الابتسام وطلاقة الوجه: يروي سيدنا أنس رضي الله عنه أنه خدم النبي عشر سنين فما عبس النبي صلى الله عليه وسلم في وجه أبدا.

      وتروي أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيته ألينَ الناس بساما ضحاكا، وكان يحنو على الكبير والصغير.

  • المصافحة.
  • بدء الكلام بعبارات الأشواق والارتياح وتناول الأخبار السارة.
  • الكلمة الطيبة: قال صلى الله عليه وسلم: ” والكلمة الطيبة صدقة “ 11
    ومن الكلمة الطيبة النداء بأحب الأسماء والتدليل والغزل، فقد كان صلى الله عليه وسلم يغازل عائشة رضي الله عنها بما تحب من كلمات، وكان يناديها: يا عائش، كما كانت رضي الله عنها وأرضاها تغازله بما يحب من أوصاف.
  • التقدير والاحترام والاهتمام.
  • إشعار الشريك بالاهتمام بالتوجه إليه عند الخطاب والإقبال عليه: فقد كان صلى الله عليه وسلم يُشْعِرُ جليسه بأنه أحب الجلساء إليه.
  • تَفَقدُهُ في حاله غيابه واستقبالُهُ بحرارة وإظهارُ الشوق إليه؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يتفقد من غاب عنه.
  • التشاور في اتخاذ القرارات المتعلقة بتسيير البيت وشؤون الأسرة.
  • احترام الذمة المالية: فالزوج لا حق له في مال زوجته إلا بإذنها، قال تعالى: ” فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا  “ 12
  • الاهتمام بالحقوق الزوجية بالتزين والتطيب، قال تعالى: ” وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ “13

قال ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما:” إنّني لأتزيّن لامرأتي كما تتزيّن لي لهذه الآية.”14

  • التسلية والمزاح والمداعبة: فقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقا.
  • تعاون الزوج مع زوجته في المنزل وخاصة في الظروف الخاصة للمرأة كالحيض والولادة والمرض و اجتياز الامتحانات و…  فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقم البيت ويخصف النعل ويرقع الثوب ويحلب الشاة صلى الله عليه وسلم.
  • تبادل الهدايا: قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: ” تهادوا تحابوا “15
  • مقابلة الإساءة بالإحسان.
  • تأدب الزوج بآداب السفر عند سفره:
  • وداع الزوجة و وصيتها بالخير ؛
  • تزويدها بالنفقة والمصاريف المحتملة ؛
  • طمأنتها فور الوصول ؛
  • سرعة العودة بمجرد تحقق الغرض من السفر ؛
  • عدم مفاجأتها عند العودة: فرسول الله صلى الله عليه وسلم  (نهى أن يطرق الرجل أهله ليلا) 16
  • اصطحاب الهدايا.
  • حفظ الأسرار: ” عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ مِن أشرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها ” 17
  • التغافل: إن التغافل من أهم ما يجب أن يتخلق به الزوجان.

والتغافل هو تعمد الغفلة تكرما وترفعا عن سفاسف الأمور.

     نحتاج إلى أدب التغافل وغض الطرف عن الهفوات والأخطاء في كل معاملاتنا وفي أغلب مواقف حياتنا. وأحق الناس بالتغافل وغض الطرف عن أخطائهم الصغيرة وزلاتهم غير المقصودة هم أقرب الناس إلينا وأكثرهم احتكاكا بنا.

و من فوائد التغافل أنه يسد باب النكد والشقاء على صاحبه؛ فعن علي كرم الله وجهه قال:  ” من لم يتغافل تنغصت عيشته.”

    من فوائد التغافل كذلك دوام المودة والعشرة بين الأزواج… فَكَمْ علاقات فَسَدَتْ بسبب خطأ بسيط، وكم بيت هُدِمَ بسبب تتبع الأخطاء والعثرات…

قال الإمام أحمد بن حنبل: ” العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل.”

أولا – واجبات مع الأبناء:

   الآباء والأمهات،

    يقول ربنا جل وعلا: “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ18   

    وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: “ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله علية الجنة” 19

   يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله »: أقوى ما تستقوي به الأمة متانة بناء الأسرة،…  الأسرة لبنة الأساس في الأمة، والأسرة الصالحة أم صالحة وأب صالح وعمل صالح. « 20

    والعمل الصالح الذرية الصالحة.

    وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ” كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه”21

  كما قال عليه الصلاة والسلام: “ إن الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته. ” 22

   يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه اللّه:  ” إذا لَمْ تُرْضِعِ الأُم طِفْلَها الإيمانَ مَعَ الألْبانِ، وَلَمْ يَقُدِ الأبُ خُطى أَبْنائِهِ الأولى إِلى الْمَسْجِدِ، وَلَمْ تُلَقِّن الأُسْرَةُ كَلِمَةَ التوْحيدِ لِلصبِي أوّلَ ما يلْهَجُ بِالنطْقِ،… فَقَدْ فاتَهُ إبَّانُ الْحَرْثِ.” 23

 خاتمة:

    إذا أخلص كل من الزوجين وابتغى بعمله وجه الله، فأحرى بالحياة الزوجية أن يتحقق فيها الدوام والسعادة والهناء، فالزوجان هما دعامة الأسرة وسر سعادتها.

    والأسرة هي ركيزة المجتمع، فإذا سَعِدَ بناءُ الأسرة سعد المجتمع كله؛ لأن الإنتاجَ يكون سليماً، وإن سَلِمَ نتاجُ الأسر من الأبناء سلم المجتمع، وإذا أدرك الزوجان قدر هذه المسؤولية وخطورتَها تجند كل منهما لتنشئة جيل مسلم نقي السريرة قوي الإيمان ثابت البنيان، لا تهزه أعاصير الزمن.

  رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.

آمين، والحمد لله رب العالمين.


المراجع:

1 سورة الروم، الآية 21

2 رواه ابن حبان، في صحيحه (492)
3  الإمام عبد السلام ياسين – كتاب “تنويرالمؤمنات”  الجزء 2 مكتبة “سراج” الصفحة 194

4 الإمام عبد السلام ياسين – كتاب “سنة الله” مكتبة “سراج” الصفحة 275

5  الإمام عبد السلام ياسين – كتاب  “تنوير المؤمنات” الجزء 1 مكتبة “سراج” الصفحة 178

6  رواه مسلم (4901)

7   ” المجموع القيم من كلام ابن القيم في الدعوة و التربية و أعمال القلوب “، جمع و إعداد منصور بن محمد المقرن المجلد الأول الطبعة الأولى ص 992-993

8 سورة النساء، الآية: 19

9 سورة النور الآية 61

10 حديث حسن رواه الترمذي (2697)

11 صحيح البخاري [2707]، صحيح مسلم [1009]

12 سورة النساء،  الآية:4

13 سورة البقرة الآية 228

14″ تفسير المنار”، محمد رشيد رضا

15 أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (6/169)

16 متفق عليه

17 رواه مسلم، كتاب النكاح، باب تحريم إفشاء سر المرأة، (1437)

18 سورة النحل، الآية:72

19 أخرجه البخاري برقم (7151)، ومسلم برقم (142)

20 الإمام عبد السلام ياسين – كتاب “تنويرالمؤمنات”  الجزء 2 مكتبة “سراج” الصفحة 194

21 أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658)

22 صحيح ابن حبان (4493)

23  الإمام عبد السلام ياسين – كتاب   “العدلالإسلاميون والحكم” مكتبة “سراج” الصفحة 493

*نقلاً عن موقع منار الإسلام للأبحاث والدراسات

أضافة تعليق