مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
أحوال النفس
تفق السالكون إلى الله على اختلاف طرقهم وتباين سولكهم على أن النفس قاطعة بين القب وبين الصول إلى الربّ، وأنه لايدخل عليه سبحانه ولا يوصل إليه إلا بعد إماتتها، وتركها بمخالفتها، والظفر بها.

فإن الناس على قسمين: قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته، وصار طوعاً لها تحت أوامرها، وقسمٌ ظفروا بنفوسهم فقهروها فصارت طوعاً لهم، منقادة لأوامرهم .

لا بعض العارفين: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر أنفسهم، فمن ظفر بنفسه أفلح وأنجح، ومن ظفرت به نفسه خسر وهلك، قال الله تعالى :

{فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: الآية: 37-41) .

والنفس تدع إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا والربّ يدعو عبده إلى خوفه ونهى النفس عن الهوى، والقلبُ بين الداعيين، يميل إلى هذا الداعى مرة، وإلى هذا مرة، وهذا موضع المحنة والإبتلاء، وقد وصف الله سبحانه النفس فى القرآن بثلاث صفات: المطمئنة، واللوامة، والأمارة بالسوء فاختلف الناس: هل النفس واحدة وهذه أوصاف لها، أم للعبد ثلاثة أنفس؟.

فالأول قول الفقهاء والمفسرين، والثانى قول كثير من أهل التصوف، والتحقيق: أنه لانزاع بين الفريقين، فإنها واحدة باعتبار ذاتها وثلاثة باعتبار صفاتها.



النفس المطمئنة:

إذا سكنت النفس إلى الله عزّ وجلّ واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه، فهى مطمئنة، وهى التى يقال لها عند الوفاة :{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّة} (الفجر : 27-28) .

قال ابن عباس: ’’المطمئنة المصدقة’’، وقال قتادة: ’’هو المؤمن اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله، وصاحبها يطمئن فى باب معرفة أسمائه وصفاته إلى خبره الذى أخبر عن نفسه وأخبر به عند رسوله ص ثم يطمئن إلى خبره عما بعد الموت من أمور البرزخ وما بعده من أحوال القيامة حتى كأنه يشاهد ذلك كله عياناً، ثم يطمئن إلى قدر الله عزّ وجلّ فيسلم له ويرضى فلا يسخط، ولا يشكو، ولا يضطرب إيمانه، فلا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه، لأن المصيبة فيه مقدرة قبل أن تصل إليه، وقبل أن يخلق، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إلاّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن: من الآية 11) .

قال غير واحد من السلف: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنا من عند الله فيرضى ويسلم.

وأما طمأنينة الإحسان فهى الطمأنينة إلى أمره امتثالاً وإخلاصاً ونصحاً، فلا يقدم على أمره إرادة ولا هوى، ولا تقليداً، ولا يساكن شبهة تعارض خبره، ولا شهوة تعارض أمره، بل إذا مرّت به أنزلها منزلة الوساوس التى لئن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يجدها، فهذا كما قال النبى: ’’ صريح الإيمان’’[1] ، وكذلك يطمئن من قلق المعصية، وانزعاجها إلى سكون التوبة وحلاوتها.

فإذا اطمأن من الشكّ إلى اليقين، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الخيانة إلى التوبة ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الكذب إلى الصدق، ومن العجز إلى الكيس، ومن صولة العجب إلى ذلة الإخبات، ومن التيه إلى التواضع، فعند ذلك تكون نفسه مطمئنة .

وأصل ذلك كله هى اليقظة، التى كشفت عن قلبه سِنة الغفلة وأضاءت له قصور الجنة، فصاح قائلاً:

ألا يا نفس ويحك ساعدينى ... بسعى منك فى ظلم الليالى

لعلك فى القيامة أن تفوزى ... بطيب العيش فى تلك العلالى

فرأى فى ضوء هذه اليقظة ما خلق له، وما سيلقاه بين يديه من حين الموت إلى دخول دار القرار، ورأى سرعة انقضاء الدنيا، وقلة وفائها لبنيها وقتلها لعشاقها، وفعلها بهم أنواع المثلات، فنهض فى ذلك الضوء على ساق عزمه قائلاً : {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} (الزمر: من الآية 56).

فاستقبل بقية عمره مستدركاً ما فات، محيياً ما مات، مستقبلاً ما تقدم له من العثرات، منتهزاً فرصة الإمكان التى إن فاتت فاته جميع الخيرات، ثم يلحظ فى نور تلك اليقظة وفور نعمة ربه عليه، ويرى أنه آيسٌ من حصرها وإحصائها، عاجزٌ عن آداء حقها، ويرى فى تلك اليقظة عيوب نفسه، وآفات عمله، وما تقدم له من الجنايات والإساءات والتقاعد عن كثير من الحقوق والواجبات ،فتنكسر نفسه وتخشع جوارجه، ويسير إلى الله ناكس الرأس بين مشاهدة نعمه، ومطالعة جناياته، وعيوب نفسه، ويرى أيضاً فى ضوء تلك اليقظة عزة وقته، وخطره، وأنه رأس مال سعادته فيبخل به فيما لا يقربه إلى ربه، فإن فى إضاعته الخسران والحسرة، وفى حفظه الربح والسعادة.

فهذه آثار اليقظة وموجباتها، وهى أول منازل النفس المطمئنة التى ينشأ منها سفرها إلى الله والدار الآخرة.



النفس اللوامة:

قالت طائفة: هى التى لاتثبت على حال واحدة، فهى كثيرة التقلب والتلون، فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتتقى.

وقالت أخرى: هى نفس المؤمن، قال الحسن البصرى: إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائماً يقول: ما أردت هذا؟ لم فعلت هذا؟ كان هذا أولى من هذا؟ أو نحو هذا الكلام.

وقالت أخرى: اللوم يوم القيامة، فإن كلّ أحد يلوم نفسه إن كان مسيئاً على إساءته، وإن كان محسناً على تقصيره .

يقول الإمام ابن القيّم: وهذا كله حق.

واللوامة نوعان: لوامة ملومة، ولوامة غير ملومة .

اللوامة الملومة: هى النفس الجاهلة الظالمة، التى يلومها الله وملائكته.

اللوامة غير الملومة: وهى التى لاتزال تلوم صاحبها على تقصيره فى طاعة الله - مع بذله جهده - فهذه غير ملومة وأشرف النفوس من لامت نفسها فى طاعة الله، واحتملت ملام اللوام فى مرضاته، فلا تأخذها فى الله لومة لائم، فهذه قد تخلصت من لوم الله، وأما من رضيت بأعمالها ولم تلم نفسها، ولم تحتمل فى الله ملام اللوام، فهى التى يلومها الله عز وجلّ .



النفس الأمارة السوء :

وهذه النفس المذمومة، فإنها تأمر بكل سوء ،وهذا من طبيعتها، فما تخلص أحد من شرها إلا بتوفيق الله، كما قال تعالى حاكياً عن أمرأة العزيز:

{وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (يوسف: الآية 53) .

وقال عز وجل: {ولولاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} (النور: من الآية 21).

وكان يعلمهم خطبة الحاجة : ’’إن الحمد الله نحمده، ونستعينه، ونسنغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا’’[2].

فالشر كامنٌ فى النفس، وهو يوجب سيئات الأعمال، فإذا خلى الله بين العبد وبين نفسه هلك بين شرها، وما تقتضيه من سيئات الاعمال وإن وفقه الله وأعانه نجا من ذلك كله.

فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .



وخلاصة القول:

إن النفس واحدة تكون: أمارة، ثم لوامة ،ثم مطمئنة وهى غاية كمالها وصلاحها.

والنفس المطمئنة قرينها الملك، يليها، ويسددها، ويقذف فيها الحق، ويرغبها فيه، ويريها حسن صورته ويزجرها عن الباطل ويزهدها فيه، ويريها قبح صورته، وبالجملة فما كان لله وبالله فهو من عند النفس المطمئنة، وأما النفس الأمارة فجعل الشيطان قرينها، وصاحبها الذى يليها،فهو يعدها، ويمنيها، ويقذف فيها الباطل، ويأمرها السوء، ويزينه لها، ويطيل فى الأمل، ويريها الباطل فى صورة تقبلها وتستحسنها.

فالنفس المنطمئنة والملك يقتضيان من النفس المطمئنة: التوحيد، والإحسان والبر والتقوى، والتوكل والتوبة، والإنابة والإقبال على الله، وقصر الأمل، والإستعداد للموت وما بعده .

والشيطان وجنده من الكفرة يقتضيان من النفس الأمارة ضد ذلك وأصعب شىء على النفس المطمئنة تخليص الأعمال من الشيطان ومن الأمارة فلو وصل منها عمل واحد لنجا به العبد، ولكن أبت الأمارة والشيطان أن يدعا له عملاً واحداً يصل إلى الله، كما قال بعض العارفين بالله وبنفسه’’ والله لو أعلم أن لى عملاً واحداً وصل إلى الله لكنت أفرح بالموت من الغائب يقدم على أهله’’، وقال عبد الله بن عمر: ’’لو أعلم أن الله قبل منى سجدة واحدة لم يكن غائب أحب إلى من الموت’’.

وقد انتصبت الأمارة فى مقابلة المطمئنة، فكلما جاءت به تلك من خير ضاهتها هذه وجاءت من الشر بما يقابله حتى تفسده عليها، وتريه حقيقة الجهاد فى صور تقتيل النفس، وتنكح الزوجة، ويصير الأولاد يتامى ويقسم المال وتريه حقيقة الزكاة والصدقة فى صورة مفارقة المال ونقصه، وخلو اليد منه، واحتياجه إلى الناس، ومساواته للفقير.

[1] رواه مسلم (2/153) الإيمان ولفظه عن أبى هريرة قال : جاء ناس من أصحاب النبى ( فسألوه، إنا نجد فى أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال : ’’ وقد وجدموه ؟ قالوا : نعم ، قال : ’’ذاك صريح الإيمان’’.

وروى مسلم كذلك عن ابن مسعود قال : سئل النبى عن الوسوسة قال : ’’ تلك محض الإيمان ’’ قال النووى: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققاً وانتفت عنه الريبة والشك - شرح النووى على صحيح مسلم (2 /154).

[2] رواه أبو داود (2118) النكاح ، وقال الألبانى: صحيح، وانظر رسالته : خطبة الحاجة للألبانى
أضافة تعليق