الجزائر بين الحَجر السياسي واستحقاقات المستقبل
(الجزء الأول)
بقلم: سمير ناصر
كانت الجزائرخلال التسعينيات تنزف دماءًا و يتطاير غبار أرضها خوفًا وألمًا، وكان الحق في الحياة حلمًا يراود أبناءها عندما استفحل الهرج والخوف، لكنه كان حلمَ المرحلة، مثلما كان الإستقلال حلم مرحلة حرب التحرير، و كان التطور و تحقيق التنمية حلم مرحلة ما بعد الإستقلال. و لنا أن نتسائل اليوم، و الأمد يبتعد بنا أكثر فأكثر عن يوم الإستقلال، ما هو حلم الجزائر الآن كأمة لها تاريخ و لها كل القدرات المادية و البشرية لتحقيق الكثير؟ هل سنكتفي بالتلذذ بنعمة الأمن و نغفل عن تحديات المستقبل كما فعلنا لعشر سنوات؟ و بذلك ندس رؤوسنا في الرمال إزاء الإنسداد الذي تعيشه البلاد، و نتركها نهبًا مباحًا لمن ينتصر في لعبة مراكز القوة، و نُسلم شعبنا لوصاية أبدية لا تنتهى لا بكهولة هذا الجيل و لا بشيخوخته؟ أم أننا سنتحمل مشقة الفهم ثم مسؤولية الكلمة للوصول لإدراك جماعي لحساسية الموقف، و ضرورة تبني مشروع وطني يخرجنا من الدائرة المغلقة التي ما نكاد نخرج منها حتى نعود إليها ثانيةً؟ حتى نستقبل آفاقًا جديدةً تَعدُ بشيئ غير الإستمرارية في طريق الأمس.
و لكي نعرف أين نتجه اليوم، علينا أولاً أن نتلمس طريقنا من خلال التجربة المرة التي عشناها بالأمس، و إلا ما معنى الضريبة الباهضة التي دفعها شعبنا، والمخاض السياسي و الأمنى الصعب الذي كاد أن يقضي على كل معنى للحياة أوالوطن؟ إن علينا أن نتمعن في تجربة ثلاثين سنة من التسيير الإشتراكي و الدكتاتورية، و خلاصة عشر سنوات من الدماء و الأشلاء، ثم نتسائل بعدها، هل نحن بالذكاء الذي يمكننا من توظيف هذا التراكم المر لرسم خارطة طريق تجنبنا إعادة استنساخ الماضي والوقوع في نفس الجُحر مرات أخرى؟ أم أن قرائتنا للأحداث ستكون انتقائية و متأثرة بالحالة النفسية و الإجتماعية و المصلحية الآنية؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها لنتمكن من الحكم على التوجهات السياسية للبلاد في هذه المرحلة.
1.بداية الأزمة:
برزت الأزمة الجزائرية في منتصف الثمانينيات كأزمة اقتصادية أدت إلى ظهور حدة الإختلال الإجتماعي و السياسي الحاصل في البلاد. فتراجُع عائدات النفط، كمورد وحيد للعملة الصعبة، كشف المستور من الفشل الذريع للسياسات الإقتصادية المنتهجة وعجز الإستثمارات الضخمة عن بناء إقتصاد بديل. و مع وصول أعداد كبيرة من الشباب الى سوق العمل، وإزدياد الطلب على الحاجيات الأساسية من سكن و عمل و مواد أخرى، إنفجر الوضع، و تم الإعتراف بحالة الأزمة الشاملة في البلاد، والتي تحملها الحزب الحاكم خاصة و نظام الحكم المتبع بشكل عام. لقد أجمعت الطبقة السياسية حينها، معارضةً و سلطةً، على الخلاصة التالية:
سياسيا: أن النظام الأحادي المركزي و قمع الحريات السياسية كان السبب المباشر في إنتهاج سياسات خاطئة، دون نقاش داخلي جاد و حر، ثم فرضها كخيار وطني وحيد، مما يجعل أصحاب القرار يتحملون المسؤولية كاملة و لوحدهم عن الكارثة.
إقتصاديًا: أن الإعتماد على النفط كمورد إقتصادي و حيد سيجعل المستقبل في الجزائر غامضا و مؤهلا للإنزلاق في كل لحضة، و أن أي سياسة إقتصادية مستقبلية يجب أن تضع الأُسس لإقتصاد متنوع و حر. وبالإضافة إلى التبعية المفرطة للنفط، أثبتت تلك الأزمة و تطور الإقتصاد العالمي فشل الإقتصاد المخطط أو ما يعرف بالإشتراكية في تحقيق المردودية والتنافسية اللازمة للتنمية. فكثيرًا ما تحولت المؤسسات الإقتصادية العمومية إلي مراكز نفوذ سياسي، و أدوات لتطبيق السياسات الإجتماعية و توزيع الثروة، بدل خلق الثروة و الربحية الإقتصادية، و كنتيجة لذلك أيضا ظهرت الممارسات الغير مهنية و فساد تقاليد العمل و تدني التسيير الإقتصادي المسؤول إلى مستوى اللامبالات.
إجتماعيًا: لقد تميزت مرحلة إقتصاد الريع بظهور جماعات المصالح في مختلف مواقع السلطة، كما أدى الإنكماش الإقتصادي إلى الإستأثار بالمنافع و الثروة من قبلهم، وهو الأمر الذي أدى الى إمتعاض شعبي عام و إلى رغبة في وقف إستغلال النفوذ و السلطة من قبل مجموعة معينة من المجتمع على حساب البقية. و هنا أيضا أصبحت واضحةً ضرورة ترسيخ مبدأ العدالة و قدسيتها، ليس فقط لأثرها الإجتماعي بل و أيضا لأهميتها في التنمية الإقتصادية والإستقرار السياسي.
2.عشرية الدماء:
لقد تظافرت عوامل عدة لإجهاض التجربة الديمقراطية في الجزائر، بعضها يعود لعدم وجود قيادة سياسية كفؤة لدى الإسلاميين، وإنعدام رؤية إستراتيجية قائمة على تحقيق المصلحة للمجتمع كأولوية على التمكين للإديولوجيا المجردة، و بعضها لتشبث أطراف في السلطة بالأساليب القديمة لممارسة الحكم، و التي تعتمد فرض أمر واقع على الجميع ثم إضفاء الشرعية عليه بكل الطرق. إن الوصاية على المجتمع، و اعتباره قاصراً عن تولي أموره، هي في الغالب ما أملى تلك المواقف و بررها. نتيجة لذلك، دخلت البلاد مرحلة عراك شهدت أبشع الجرائم و أخطر التجاوزات على إنسان الجزائر، لتتحول الأرواح البشرية لمجرد وسائل ضغط على الآخر. زاد على ذلك التدني العام للوازع الأخلاقي تحت تأثير الحرب الشرسة التي تجاوزت حد المعقول.
لقد كانت إستعادة الأمن أمرًا ملحًا إقتضى غض الطرف والسكوت على الكثير من تجاوزات السلطة حيال الحريات الأساسية في البلاد، و تأجيل الحديث عن الحقوق السياسية المصادرة، ومع ذلك فإنه ليس من المنطقي أبدًا إعتبارالأمن نقيضًا للحرية، أو مقايضة الديمقراطية و دولة المؤسسات والقانون بمتطلب الأمن كما فعل رجال و أحزاب السلطة لاحقًا. لقد أدت مرحلة اللادولة، أو ضعف الدولة، خلال ذلك لظهور و إستشراء مظاهر خطيرة جدا من الفساد الإداري، قادها نفس الرجال الذين استنجدت الدولة بخدماتهم، نظرًا لحالة الشغور العام التي سادت بعد أن أعلن الحزب الحاكم بقيادة عبد الحميد مهري ابتعاده عن أساليب الإنقلابات في الحكم، وتمسكه بالشرعية الشعبية كمصدر وحيد للسلطة، و هو ما فتح الأبواب لمجموعات الإنتهازيين للتنافس على مواقع المسؤولية في مستويات مختلفة من إدارة الشأن العام.
مباشرةً بعد إلغاء الإنتخابات الديمقراطية وإندلاع الحرب، بدأت الترتيبات لصياغة نظام سياسي و دستوري جديد يضمن عدم تكرار تجربة الإنفتاح، التي تؤدي بالسلطة الفعلية لفقد القدرة على التحكم في تطورات المشهد السياسي، أو إلى انكماش نفوذها في دواليب و كواليس صناعة القرار، أو بمعنى آخر، تضمن التحكم في مستوى و مقدار التمثيل الشعبي في هرم السلطة. فكانت التعديلات الدستورية التي بادر بتبنيها الرئيس السابق زروال بمثابة صمام الأمان الذي يدعم سلطة الرئيس و صلاحياته، على اعتبار أن التزكية لمنصب الرئيس من الصلاحيات التي اختص الجيش نفسه بها. لقد كان ذلك تراجعًا فعليًا عن الوصفة التي تبناها الوسط السياسي في الجزائر عقب أحداث أكتوبر. و كنتيجة ترتبت عن أول تجربة ديمقراطية في البلاد، أصبح البرلمان لا يقتصر على الإنتخاب فقط، بل وأيضا على التعيين الرئاسي لترجيح سلطة الرئيس في البرلمان، كما أصبح الحزب الحاكم حزبين، هما التجمع الديمقراطي و جبهة التحرير الوطني، يستعمل أحدها للضغط على الآخر، كلما تطلب الأمر ذلك، حتى لا تتكرر تجربة العزلة السياسية التي سببها إنسحاب جبهة التحرير، عقب الانقلاب الأبيض على سلطة الرئيس الشاذلي، إضافة لوضع ترتيبات و شروط جديدة لإعتماد الأحزاب في البلاد. لقد كان ذلك أول خط في رسم معالم الممكن السياسي، الذي وإن شكل نكبة ديمقراطية في البلاد إلا أنه حافظ على مبدأ التداول دستورياً على السلطة إلى حد ما. و على كل حال فانشغال الأمن جعل الشارع لا بأبه بشيء سوى الحق في الحياة.
3.عشرية التطويع السياسي:
وضعت الحرب الأهلية أوزارها في الجزائر مع تراجع الجماعات الإسلامية المحاربة تدريجيا وتشتتها لصالح الجيش، الذي فرض عليهم خطة الإستسلام، التي لخصها مشروع المصالحة الوطنية لاحقاً، مما مهد الطريق لمرحلة سياسية جديدة، كانت بمثابة مساحة كبيرة للأمل. هذا الوضع إستدعى نفسًا جديداً ووجهًا من خارج المرحلة المتعفنة، لإعادة تجميع الإرادة الشعبية حول إختيارات مسبقةُ الإنتقاء.
مع تراجع الهاجس الأمني، كان من المفترض أن تعود السلطة إلي معالجة أسباب التدهور التي كانت موجودةً قبل مرحلة الحرب وأدت إليها واستفحلت خلالها أكثر فأكثر، وهي محاربة الفساد الإداري و الرشوة و البيروقراطية، و التمكين للرقابة الشعبية من خلال مؤسسات قوية سيدة و مستقلة، و باعتماد مبدأ التداول على السلطة و فصل السلطات، لأنها الحائل الحقيقي دون تحقيق أي تنمية بشرية أو إقتصادية في البلاد. لكن السلطة كانت لها أولويات أخرى و مختلفة تماماً، تلخصت في الحيلولة دون وصول الغير مرغوب فيهم إلى سدة الحكم، وعدى ذلك فهو هين. و هو موقف يلخص رؤية السلطة للشعب، فهو ليس إلا وسيلة تجند بالطرق التي تخدم مصالحها ليس إلا. أما موضوع التنمية و العدالة للجميع، و ما يترتب عليها من إصلاحات حقيقية، فهو أمر مَنع النقاش فيه، وغطت عليه حرارة التصفيق للرأي الواحد.
إن فكرة الرجل الجامع، الذي يتحدث عن هموم الشعب و يحافظ على مصالح السلطة الفعلية، و المتمثلة في العودة إلى ما قبل أكتوبر، كانت هي الوصفة المرغوب فيها، والتي كان لا بد لها من قائد يرسخها. عاد بوتفليقة للمشهد السياسي الجزائري، بعد أن عقد الجيش اتفاق الإستسلام مع الفصائل المقاتلة في الجبال، وسقط الهمُ الأمني إلى حد ما. و رغم توقع ازدياد القيود على الحريات في عهده و تقزيم الأخر المخالف، لما أعلنه من تصورات و آراء حول مستقبل البلاد لدى ترشحه للرئاسة، و هي مواقف و آراء تَعد إجمالاً بالتراجع عن الخيار الديمقراطي و الشفافية في تسيير الشأن العام، لكن كان هنالك انطباع بأن شيئًا ما سيحدث في عهده، لتقويم المسار الوطني و التكفل بالسرطان الخطير الذي سرى في أوصال الدولة و أجهزتها، و التصدي لتدهور البلاد في كل المجالات. و على قدر حماسه لتطويق الساحة السياسية و تحييد أطرافها الواحد بعد الأخر بالترغيب و بالإقصاء، على قدر ما كان فاتر العزيمة عندما يتعلق الأمر بمحاربة الفساد واستغلال النفوذ. لقد أصبح جليًا للعيان التدهور الذي يُعيق حركة البلاد نتيجة ذلك، كما بدا واضحًا سيطرة المافيا السياسية الإقتصادية، ليس فقط على حركة الأموال و السوق في الجزائر، بل و على مراكز القرار أيضًا. إننا لو حاولنا تقييم حصيلة عشر سنوات من حكم بوتفليقة لأمكن إيجاز ذلك في المحاور التالية:
في السياسة: رجعت البلاد إلى أسلوب النظام الأحادي المركزي، و تقييد الحريات السياسية، و منع أي نقاش داخلي جاد و حر حول مصير البلاد و قضاياها الكبرى. فقد تراجع الحديث عن دولة القانون و المؤسسات، وعن ترسيخ الممارسة الديمقراطية التعددية، التي خاض باسمها النظام حربًا شرسة على الإسلاميين ’’المتربصين بها’’. لقد تم تقزيم المؤسسات الدستورية و تحجيمها الى مستوى ’’فروع رئاسة الجمهورية’’، بدل أن تكون المراقب و الموازن لها، خدمة للمصالح العليا للبلاد. فتحولت المؤسسات الشعبية، بما فيها السلطة التشريعية، الى سلطة شكلية لا أثر لها في صناعة القرار، بل لا ضرورة فعلية لها، و تحولت العدالة، التي تمتعت بفترة استقلالية قصيرة، إلى إدارة من إدارات السلطة التنفيذية.
لقد روعي في إعادة ترتيب البيت السياسي الجزائري، تتفيه هذه المؤسسات إلى درجة إحداث اليأس من جدواها، وهو ما انعكس في حالة النفور من السياسة، و العزوف عن الممارسة السياسية التي ميزت السنوات الأخيرة، خاصة مع إصرار السلطة على منع تأسيس أحزاب جديدة تجدد الخطاب و تعيد النقاش الحقيقي الذي ينبغي تناوله إلى الطاولة. هذه كلها في الحقيقة أعراض الأنظمة الديكتاتورية، التي تذوب فيها المؤسسات والإرادات في مؤسسة واحدة مهيمنة لا تسمح بالتعدد. إن وصولنا إلى هذا الحد كان نتيجة منطقية للضغط المتواصل على الأحزاب السياسية، باستعمال الإنقلابات و الإحراج و التضييق و تزوير الإنتخابات، مما خلق جوا من فقدان الثقة في العملية السياسية، و الرهبة من ممارسة السياسة.
لقد أدى انتصار الجيش في الحرب و استعادة السلم، إلى فرض واقع جديد، و قواعد كثيرة غير مصرح بها، جعلت من الحق السياسي منحة تمنح للأوفياء فقط. لقد تم تضييق منافذ التعبير الحر و الحق في المعارضة كمكسب وطني، بإعادة تأميم منابر الإعلام العمومي و منع التعددية الإعلامية، للحيلولة دون بروز معارضة قوية للسلطة الحاكمة.
الواقع السياسي اليوم أشبه بعهد الحزب الواحد الذي لاتمثل فيه الإنتخابات سوى مهرجان إحتفالي يرسخ أقدام السلطة الفعلية في الواقع الإجتماعي و السياسي الجزائري، بعيدا عن مصالح الشعب وعن مبدأ التداول على السلطة. قد يتسائل البعض، هل يوجد في الجزائر اليوم بديل عن بو تفليقة؟ و السؤال الأولى بالإجابة هو، هل يمكن ظهور أي نوع من القيادات في ظل إنعدام الحراك السياسي المولد لها، و في ظل الإحتكار المطلق للسياسة وأدواتها، وخنق التنافسية السياسية، و التعتيم القاتل على برامج وآراء المنافسين؟
إن الوضع الحالي لا يدمر أحلام هذا الجيل فحسب، بل يرهن أحلام الأجيال القادمة أيضًا. فالممارسة السياسية الحرة هي الوحيدة القادرة على بعث نقاش سياسي عميق للخيارات و الأفكار و أفاق المستقبل، و هي القادرة أيضًا على إفراز أجيال جديدة من القيادات، و ترقية مفاهيمنا الحالية للمواطنة و السياسة و القيادة الرشيدة.
.الشهاب
(الجزء الأول)
بقلم: سمير ناصر
كانت الجزائرخلال التسعينيات تنزف دماءًا و يتطاير غبار أرضها خوفًا وألمًا، وكان الحق في الحياة حلمًا يراود أبناءها عندما استفحل الهرج والخوف، لكنه كان حلمَ المرحلة، مثلما كان الإستقلال حلم مرحلة حرب التحرير، و كان التطور و تحقيق التنمية حلم مرحلة ما بعد الإستقلال. و لنا أن نتسائل اليوم، و الأمد يبتعد بنا أكثر فأكثر عن يوم الإستقلال، ما هو حلم الجزائر الآن كأمة لها تاريخ و لها كل القدرات المادية و البشرية لتحقيق الكثير؟ هل سنكتفي بالتلذذ بنعمة الأمن و نغفل عن تحديات المستقبل كما فعلنا لعشر سنوات؟ و بذلك ندس رؤوسنا في الرمال إزاء الإنسداد الذي تعيشه البلاد، و نتركها نهبًا مباحًا لمن ينتصر في لعبة مراكز القوة، و نُسلم شعبنا لوصاية أبدية لا تنتهى لا بكهولة هذا الجيل و لا بشيخوخته؟ أم أننا سنتحمل مشقة الفهم ثم مسؤولية الكلمة للوصول لإدراك جماعي لحساسية الموقف، و ضرورة تبني مشروع وطني يخرجنا من الدائرة المغلقة التي ما نكاد نخرج منها حتى نعود إليها ثانيةً؟ حتى نستقبل آفاقًا جديدةً تَعدُ بشيئ غير الإستمرارية في طريق الأمس.
و لكي نعرف أين نتجه اليوم، علينا أولاً أن نتلمس طريقنا من خلال التجربة المرة التي عشناها بالأمس، و إلا ما معنى الضريبة الباهضة التي دفعها شعبنا، والمخاض السياسي و الأمنى الصعب الذي كاد أن يقضي على كل معنى للحياة أوالوطن؟ إن علينا أن نتمعن في تجربة ثلاثين سنة من التسيير الإشتراكي و الدكتاتورية، و خلاصة عشر سنوات من الدماء و الأشلاء، ثم نتسائل بعدها، هل نحن بالذكاء الذي يمكننا من توظيف هذا التراكم المر لرسم خارطة طريق تجنبنا إعادة استنساخ الماضي والوقوع في نفس الجُحر مرات أخرى؟ أم أن قرائتنا للأحداث ستكون انتقائية و متأثرة بالحالة النفسية و الإجتماعية و المصلحية الآنية؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي الإجابة عليها لنتمكن من الحكم على التوجهات السياسية للبلاد في هذه المرحلة.
1.بداية الأزمة:
برزت الأزمة الجزائرية في منتصف الثمانينيات كأزمة اقتصادية أدت إلى ظهور حدة الإختلال الإجتماعي و السياسي الحاصل في البلاد. فتراجُع عائدات النفط، كمورد وحيد للعملة الصعبة، كشف المستور من الفشل الذريع للسياسات الإقتصادية المنتهجة وعجز الإستثمارات الضخمة عن بناء إقتصاد بديل. و مع وصول أعداد كبيرة من الشباب الى سوق العمل، وإزدياد الطلب على الحاجيات الأساسية من سكن و عمل و مواد أخرى، إنفجر الوضع، و تم الإعتراف بحالة الأزمة الشاملة في البلاد، والتي تحملها الحزب الحاكم خاصة و نظام الحكم المتبع بشكل عام. لقد أجمعت الطبقة السياسية حينها، معارضةً و سلطةً، على الخلاصة التالية:
سياسيا: أن النظام الأحادي المركزي و قمع الحريات السياسية كان السبب المباشر في إنتهاج سياسات خاطئة، دون نقاش داخلي جاد و حر، ثم فرضها كخيار وطني وحيد، مما يجعل أصحاب القرار يتحملون المسؤولية كاملة و لوحدهم عن الكارثة.
إقتصاديًا: أن الإعتماد على النفط كمورد إقتصادي و حيد سيجعل المستقبل في الجزائر غامضا و مؤهلا للإنزلاق في كل لحضة، و أن أي سياسة إقتصادية مستقبلية يجب أن تضع الأُسس لإقتصاد متنوع و حر. وبالإضافة إلى التبعية المفرطة للنفط، أثبتت تلك الأزمة و تطور الإقتصاد العالمي فشل الإقتصاد المخطط أو ما يعرف بالإشتراكية في تحقيق المردودية والتنافسية اللازمة للتنمية. فكثيرًا ما تحولت المؤسسات الإقتصادية العمومية إلي مراكز نفوذ سياسي، و أدوات لتطبيق السياسات الإجتماعية و توزيع الثروة، بدل خلق الثروة و الربحية الإقتصادية، و كنتيجة لذلك أيضا ظهرت الممارسات الغير مهنية و فساد تقاليد العمل و تدني التسيير الإقتصادي المسؤول إلى مستوى اللامبالات.
إجتماعيًا: لقد تميزت مرحلة إقتصاد الريع بظهور جماعات المصالح في مختلف مواقع السلطة، كما أدى الإنكماش الإقتصادي إلى الإستأثار بالمنافع و الثروة من قبلهم، وهو الأمر الذي أدى الى إمتعاض شعبي عام و إلى رغبة في وقف إستغلال النفوذ و السلطة من قبل مجموعة معينة من المجتمع على حساب البقية. و هنا أيضا أصبحت واضحةً ضرورة ترسيخ مبدأ العدالة و قدسيتها، ليس فقط لأثرها الإجتماعي بل و أيضا لأهميتها في التنمية الإقتصادية والإستقرار السياسي.
2.عشرية الدماء:
لقد تظافرت عوامل عدة لإجهاض التجربة الديمقراطية في الجزائر، بعضها يعود لعدم وجود قيادة سياسية كفؤة لدى الإسلاميين، وإنعدام رؤية إستراتيجية قائمة على تحقيق المصلحة للمجتمع كأولوية على التمكين للإديولوجيا المجردة، و بعضها لتشبث أطراف في السلطة بالأساليب القديمة لممارسة الحكم، و التي تعتمد فرض أمر واقع على الجميع ثم إضفاء الشرعية عليه بكل الطرق. إن الوصاية على المجتمع، و اعتباره قاصراً عن تولي أموره، هي في الغالب ما أملى تلك المواقف و بررها. نتيجة لذلك، دخلت البلاد مرحلة عراك شهدت أبشع الجرائم و أخطر التجاوزات على إنسان الجزائر، لتتحول الأرواح البشرية لمجرد وسائل ضغط على الآخر. زاد على ذلك التدني العام للوازع الأخلاقي تحت تأثير الحرب الشرسة التي تجاوزت حد المعقول.
لقد كانت إستعادة الأمن أمرًا ملحًا إقتضى غض الطرف والسكوت على الكثير من تجاوزات السلطة حيال الحريات الأساسية في البلاد، و تأجيل الحديث عن الحقوق السياسية المصادرة، ومع ذلك فإنه ليس من المنطقي أبدًا إعتبارالأمن نقيضًا للحرية، أو مقايضة الديمقراطية و دولة المؤسسات والقانون بمتطلب الأمن كما فعل رجال و أحزاب السلطة لاحقًا. لقد أدت مرحلة اللادولة، أو ضعف الدولة، خلال ذلك لظهور و إستشراء مظاهر خطيرة جدا من الفساد الإداري، قادها نفس الرجال الذين استنجدت الدولة بخدماتهم، نظرًا لحالة الشغور العام التي سادت بعد أن أعلن الحزب الحاكم بقيادة عبد الحميد مهري ابتعاده عن أساليب الإنقلابات في الحكم، وتمسكه بالشرعية الشعبية كمصدر وحيد للسلطة، و هو ما فتح الأبواب لمجموعات الإنتهازيين للتنافس على مواقع المسؤولية في مستويات مختلفة من إدارة الشأن العام.
مباشرةً بعد إلغاء الإنتخابات الديمقراطية وإندلاع الحرب، بدأت الترتيبات لصياغة نظام سياسي و دستوري جديد يضمن عدم تكرار تجربة الإنفتاح، التي تؤدي بالسلطة الفعلية لفقد القدرة على التحكم في تطورات المشهد السياسي، أو إلى انكماش نفوذها في دواليب و كواليس صناعة القرار، أو بمعنى آخر، تضمن التحكم في مستوى و مقدار التمثيل الشعبي في هرم السلطة. فكانت التعديلات الدستورية التي بادر بتبنيها الرئيس السابق زروال بمثابة صمام الأمان الذي يدعم سلطة الرئيس و صلاحياته، على اعتبار أن التزكية لمنصب الرئيس من الصلاحيات التي اختص الجيش نفسه بها. لقد كان ذلك تراجعًا فعليًا عن الوصفة التي تبناها الوسط السياسي في الجزائر عقب أحداث أكتوبر. و كنتيجة ترتبت عن أول تجربة ديمقراطية في البلاد، أصبح البرلمان لا يقتصر على الإنتخاب فقط، بل وأيضا على التعيين الرئاسي لترجيح سلطة الرئيس في البرلمان، كما أصبح الحزب الحاكم حزبين، هما التجمع الديمقراطي و جبهة التحرير الوطني، يستعمل أحدها للضغط على الآخر، كلما تطلب الأمر ذلك، حتى لا تتكرر تجربة العزلة السياسية التي سببها إنسحاب جبهة التحرير، عقب الانقلاب الأبيض على سلطة الرئيس الشاذلي، إضافة لوضع ترتيبات و شروط جديدة لإعتماد الأحزاب في البلاد. لقد كان ذلك أول خط في رسم معالم الممكن السياسي، الذي وإن شكل نكبة ديمقراطية في البلاد إلا أنه حافظ على مبدأ التداول دستورياً على السلطة إلى حد ما. و على كل حال فانشغال الأمن جعل الشارع لا بأبه بشيء سوى الحق في الحياة.
3.عشرية التطويع السياسي:
وضعت الحرب الأهلية أوزارها في الجزائر مع تراجع الجماعات الإسلامية المحاربة تدريجيا وتشتتها لصالح الجيش، الذي فرض عليهم خطة الإستسلام، التي لخصها مشروع المصالحة الوطنية لاحقاً، مما مهد الطريق لمرحلة سياسية جديدة، كانت بمثابة مساحة كبيرة للأمل. هذا الوضع إستدعى نفسًا جديداً ووجهًا من خارج المرحلة المتعفنة، لإعادة تجميع الإرادة الشعبية حول إختيارات مسبقةُ الإنتقاء.
مع تراجع الهاجس الأمني، كان من المفترض أن تعود السلطة إلي معالجة أسباب التدهور التي كانت موجودةً قبل مرحلة الحرب وأدت إليها واستفحلت خلالها أكثر فأكثر، وهي محاربة الفساد الإداري و الرشوة و البيروقراطية، و التمكين للرقابة الشعبية من خلال مؤسسات قوية سيدة و مستقلة، و باعتماد مبدأ التداول على السلطة و فصل السلطات، لأنها الحائل الحقيقي دون تحقيق أي تنمية بشرية أو إقتصادية في البلاد. لكن السلطة كانت لها أولويات أخرى و مختلفة تماماً، تلخصت في الحيلولة دون وصول الغير مرغوب فيهم إلى سدة الحكم، وعدى ذلك فهو هين. و هو موقف يلخص رؤية السلطة للشعب، فهو ليس إلا وسيلة تجند بالطرق التي تخدم مصالحها ليس إلا. أما موضوع التنمية و العدالة للجميع، و ما يترتب عليها من إصلاحات حقيقية، فهو أمر مَنع النقاش فيه، وغطت عليه حرارة التصفيق للرأي الواحد.
إن فكرة الرجل الجامع، الذي يتحدث عن هموم الشعب و يحافظ على مصالح السلطة الفعلية، و المتمثلة في العودة إلى ما قبل أكتوبر، كانت هي الوصفة المرغوب فيها، والتي كان لا بد لها من قائد يرسخها. عاد بوتفليقة للمشهد السياسي الجزائري، بعد أن عقد الجيش اتفاق الإستسلام مع الفصائل المقاتلة في الجبال، وسقط الهمُ الأمني إلى حد ما. و رغم توقع ازدياد القيود على الحريات في عهده و تقزيم الأخر المخالف، لما أعلنه من تصورات و آراء حول مستقبل البلاد لدى ترشحه للرئاسة، و هي مواقف و آراء تَعد إجمالاً بالتراجع عن الخيار الديمقراطي و الشفافية في تسيير الشأن العام، لكن كان هنالك انطباع بأن شيئًا ما سيحدث في عهده، لتقويم المسار الوطني و التكفل بالسرطان الخطير الذي سرى في أوصال الدولة و أجهزتها، و التصدي لتدهور البلاد في كل المجالات. و على قدر حماسه لتطويق الساحة السياسية و تحييد أطرافها الواحد بعد الأخر بالترغيب و بالإقصاء، على قدر ما كان فاتر العزيمة عندما يتعلق الأمر بمحاربة الفساد واستغلال النفوذ. لقد أصبح جليًا للعيان التدهور الذي يُعيق حركة البلاد نتيجة ذلك، كما بدا واضحًا سيطرة المافيا السياسية الإقتصادية، ليس فقط على حركة الأموال و السوق في الجزائر، بل و على مراكز القرار أيضًا. إننا لو حاولنا تقييم حصيلة عشر سنوات من حكم بوتفليقة لأمكن إيجاز ذلك في المحاور التالية:
في السياسة: رجعت البلاد إلى أسلوب النظام الأحادي المركزي، و تقييد الحريات السياسية، و منع أي نقاش داخلي جاد و حر حول مصير البلاد و قضاياها الكبرى. فقد تراجع الحديث عن دولة القانون و المؤسسات، وعن ترسيخ الممارسة الديمقراطية التعددية، التي خاض باسمها النظام حربًا شرسة على الإسلاميين ’’المتربصين بها’’. لقد تم تقزيم المؤسسات الدستورية و تحجيمها الى مستوى ’’فروع رئاسة الجمهورية’’، بدل أن تكون المراقب و الموازن لها، خدمة للمصالح العليا للبلاد. فتحولت المؤسسات الشعبية، بما فيها السلطة التشريعية، الى سلطة شكلية لا أثر لها في صناعة القرار، بل لا ضرورة فعلية لها، و تحولت العدالة، التي تمتعت بفترة استقلالية قصيرة، إلى إدارة من إدارات السلطة التنفيذية.
لقد روعي في إعادة ترتيب البيت السياسي الجزائري، تتفيه هذه المؤسسات إلى درجة إحداث اليأس من جدواها، وهو ما انعكس في حالة النفور من السياسة، و العزوف عن الممارسة السياسية التي ميزت السنوات الأخيرة، خاصة مع إصرار السلطة على منع تأسيس أحزاب جديدة تجدد الخطاب و تعيد النقاش الحقيقي الذي ينبغي تناوله إلى الطاولة. هذه كلها في الحقيقة أعراض الأنظمة الديكتاتورية، التي تذوب فيها المؤسسات والإرادات في مؤسسة واحدة مهيمنة لا تسمح بالتعدد. إن وصولنا إلى هذا الحد كان نتيجة منطقية للضغط المتواصل على الأحزاب السياسية، باستعمال الإنقلابات و الإحراج و التضييق و تزوير الإنتخابات، مما خلق جوا من فقدان الثقة في العملية السياسية، و الرهبة من ممارسة السياسة.
لقد أدى انتصار الجيش في الحرب و استعادة السلم، إلى فرض واقع جديد، و قواعد كثيرة غير مصرح بها، جعلت من الحق السياسي منحة تمنح للأوفياء فقط. لقد تم تضييق منافذ التعبير الحر و الحق في المعارضة كمكسب وطني، بإعادة تأميم منابر الإعلام العمومي و منع التعددية الإعلامية، للحيلولة دون بروز معارضة قوية للسلطة الحاكمة.
الواقع السياسي اليوم أشبه بعهد الحزب الواحد الذي لاتمثل فيه الإنتخابات سوى مهرجان إحتفالي يرسخ أقدام السلطة الفعلية في الواقع الإجتماعي و السياسي الجزائري، بعيدا عن مصالح الشعب وعن مبدأ التداول على السلطة. قد يتسائل البعض، هل يوجد في الجزائر اليوم بديل عن بو تفليقة؟ و السؤال الأولى بالإجابة هو، هل يمكن ظهور أي نوع من القيادات في ظل إنعدام الحراك السياسي المولد لها، و في ظل الإحتكار المطلق للسياسة وأدواتها، وخنق التنافسية السياسية، و التعتيم القاتل على برامج وآراء المنافسين؟
إن الوضع الحالي لا يدمر أحلام هذا الجيل فحسب، بل يرهن أحلام الأجيال القادمة أيضًا. فالممارسة السياسية الحرة هي الوحيدة القادرة على بعث نقاش سياسي عميق للخيارات و الأفكار و أفاق المستقبل، و هي القادرة أيضًا على إفراز أجيال جديدة من القيادات، و ترقية مفاهيمنا الحالية للمواطنة و السياسة و القيادة الرشيدة.
.الشهاب