الجزائر بين الحَجْر السياسي واستحقاقات المستقبل
(الجزء الثاني)
بقلم: سمير ناصر
في الإقتصاد: لقد كان من المفترض أن تدني مستوى المداخيل و ثقل المديونية هما السبب المباشر في كل مأسي الجزائر سابقًا، واليوم مع توفر الأمن و الموارد المالية، و لعشر سنوات متتالية، لم يكن ينقص البلاد سوى خطة تنمية فعالة لتحصين الجزائر إقتصاديا و إجتماعيًا. و مع ذلك فقد ضلت الحكومة الجزائرية، تحت سلطة بوتفليقة، تكتفي بتسيير الملفات، في انتظار مستثمر أجنبي قد يأتي و قد لا يأتي ليجلب العمار و الرفاه لابناء وطنهم. ومن المفارقات أن قوانين الاستثمار ما فتئت تزداد تشددا وتقييدا على المستثمرين الأجانب، مقارنة بجيراننا في تونس و المغرب، و هنا نتسائل أيُ برنامج هذا الذي يمتنع عن إستعمال المال المحلي، و يعيق قدوم المال الأجنبي لتحقيق التنمية، سواء بالقوانين أو بالتهاون في ترقية و سط استثماري مشجع.
إن المهمة الأولى و المسؤولية الأخلاقية لأي حاكم لجزائر ما بعد المأساة، هي و ضع الشروط الضامنة لعدم تكرار التجربة المرة بمنع أسبابها، و التي منها الإعتماد الكلي على النفط، و سوء تسيير المؤسسات الإقتصادية العمومية. و مع أن ارتفاع أسعار البترول غير المسبوق مثل فرصة تاريخية لإعادة التفكير في تركيبة الإقتصاد الجزائري، و إعادة بناءه على أسس جديدة، إلا أن شيئا لم يحدث البتة، و كأن البلاد عاجزة عن المبادرة الفعالة لبعث الإستثمار في مجالات الإقتصاد المتنوعة، و خاصة منها الجالبة لمناصب العمل. لقد إكتفى برنامج الرئيس ببناء التجهيزات، من طرق و مساكن و بنى تحتية، و التي و إن كانت مهمةً و حيويةً إلا أنها مشاريع غير منتجة للثروة، و لا لمناصب شغل قارة، و لا يمكن الإكتفاء بها على حساب الإستثمار الصناعي و الفلاحي و التكنولوجي، و الدخول في مشاريع بصيغ جديدة، لإنعاش سوق العمل و تنويع الإنتاج، دون تعريضها لسوء التسيير.
لقد مرت اليوم عشر سنوات من حكم بوتفليقة، و ما زال الغموض يلف إستراتيجية التنمية و أهدافها، و ما تزال حصيلته تقيمُ بعدد الكلومترات و المساكن التي أنجزت و التي ستنجز، و هي كلها مقتنيات لا تتطلب ذكاءًا خارقًا و لا عبقرية فذةً، بل كل ما تتطلبه هو توفر المال. أما التحدي الحقيقي و الذي فشل فيه، فهو تحقيق الإقلاع الإقتصادي، الذي كان و ما يزال مطلبًا تاريخيًا و مصيريًا ملحًا، أو على الأقل توفير الشروط الضرورية لتحقيقه. فاستمرار الإعتماد على النفط، و صرف عائداته هو استمرار للعجز الفكري للمسير و السياسي الجزائري. صحيح أنها ليست مهمة سهلة، لكنها النقطة المفصلية التى على الشعب الجزائري أن يقيم من خلالها زعماءه، و ليست عدد الكلومترات و المساكن التي تشترى بعائدات البترول، ولا قيمة احتياطي الصرف الذي صنعته كذلك عائدات البترول. و مع هذا فإننا نقر بترجيح فشل أي سياسة يمكن أن تعتمد في ظل الوضع العام السائد في الجزائر اليوم، لأنه و ببساطة لا يمكن توقع النجاح لإقتصاد في دولة تصنف بنوكها في أسفل السلم على المستوى الإفريقي، ويعمل فيها القضاة موظفون لدى الحكومة، و تسيطر على كل إداراتها و مؤسساتها، بدون استثناء، تخمة بيروقراطية تقتل يوميًا ديناميكية المجتمع و تقطع أوصاله، فضلًا عن أي مشروع إقتصادي، و تسيطر فيها فئة من النافذين في السلطة على مصادر المال و الثروة و على مراكز القرار، و تنتهج سياسة الفوضى المنظمة التي رمت بالبلاد في حالة من التيه، حلت فيه العلاقات الشخصية و الأمزجة محل القانون والأخلاق. في حين استسلم الشباب المسحوق لليأس القاتل و الإنتحار.
لقد استطاعت دولٌ النهوض و تحقيق التنمية المستدامة، بل و الخروج من دائرة التخلف، في فترة لا تتجاوز العشر سنوات، بينما ننظر باعجاب لمن يعطل طاقات المجتمع عن الإنطلاق و اعترف بفشله مرات عديدة. إن إعادة بناء الإقتصاد الجزائري يتطلب إعادة النظر في كل الأسس التي انبنى عليها، كما يتطلب حربًا ضروسًا ضد الفساد بكل و جوهه، و هي المهمة التي يبدو أن بوتفليقة عاجز عنها، أو معتذر عن التصدي لها. لقد كانت صرامته شديدة ضد منتقدي الفساد، كما حصل مع بوقرة سلطاني، لأن ذلك حسبه يُسيء لسمعة البلاد، في الوقت الذي يلاحظ البسطاء بحزن تفشي الفساد في أوصال و مفاصل الدولة، و مواجهته بسكوت من قبل السلطات. الجزائر اليوم تشهد عملية توزيع للثروة، هي في الحقيقة شكل من أشكال تقاسم غنيمة ما بعد الحرب، حيث تحولت الشرعية اليوم من شرعية الثورة و الثوار التي استمرت حتى التسعينيات إلى شرعية الأقوياء المنتصرين.
4. السياسوية و المغالطة السياسية:
السياسة التي يفترض فيها قيادة النشاط العام للمجتمع وتأطيره، ترجمت جزائريًا على أنها توظيف طاقات البلاد لضمان الإستمرارية في الحكم على حساب المستقبل و الحس المدني و الأخلاقي. السياسة التي جعلت الإقتصاد الوطني و المنظومة التربوية، و حتى الثقافة و الرياضة، ملكًا مشاعًا للأديولوجيا، في عهد الحزب الواحد، فجعلت المؤسسة الإقتصادية تحت سلطة الوزير و الوالي و المحافظ، و سياسات الحزب لإنجاح الإشتراكية و الجزأرة و العدالة الإجتماعية، على حساب صحة المؤسسة المالية، كما جعلتهم كذلك يضحون بالمدرسة في سبيل الشعارات الشعبوية، فأصبح المطرودون منها معلمون فيها تحت شعار جزأرة التعليم في الثمانينيات. نفس تلك الأساليب عادت إلى الساحة السياسية، فأصبحت السياسة و أهداف الساسة هي المحددة لشكل و نشاطات المجتمع. فالإقتصاد يوظف اليوم أيضًا كوسيلة لتحقيق أغراض سياسية، حيث بامكان الرئيس التدخل في تسيير البنوك و التحكم في قراراتها بعيدًا عن الجدوى و المعايير الإقتصادية، كقرار إلغاء ديون الفلاحين. هذه الأساليب تشكل عائقًا حقيقيًا دون ترسيخ تقاليد مالية و اقتصادية نحن في أمس الحاجة إليها لبعث الإقتصاد الوطني، بل و عكس ذلك ترسخ الإتكالية و إنعدام الجدية و المسؤولية لدى المتعاملين الإقتصاديين. إنه من الضروري دعم الفلاحة و باقي فروع الإقتصاد كما فعلت الحكومة سابقًا، ومن الضروري ضخ الكثير من المال في السوق الجزائرية، و لكن ليس بأساليب مسح الديون الغير مبررة إقتصاديا، في الوقت الذي تفرض فيه أقصى شروط الصرامة على تمويل مشاريع الشباب العاطل، بحجة أنتهاء عهد الرعاية و ضرورة تحملهم كل المسؤولية.
أما الأرقام فأصبحت فضفاضة متغيرة، و نسب نجاح البرامج في كل مجال تقدر بتطويع النسب، و ليس بمفعولها و أثرها المفترض. فنجاح التعليم بعدد مقاعد الدراسة التي ترفعها الوزارة كما تشاء بدل الإنجازات العلمية و مستويات التحصيل و التحكم في العلوم و التكنولوجيا، و قدر الإضافة التي يقدمها و الحلول التي ينتجها للمجتمع، في الوقت الذي أصبح من الواضح تدني مستوى التعليم عندنا مقارنة بدول أقل مالًا و إمكانيات. و كذلك نسب البطالة التي تجعل من المنح التي تصرفها الدولة للبطالين مناصب شغل. و كم كان مضحكًا مرةً، عندما صرح مدير بشركة نفطال أن مستوى شركته أحسن من كثير من الشركات الأوربية لأن نسبة مبيعاتها أكبر، متجاهلاً أن إرتفاع نسبة المبيعات سببه احتكار شركته للسوق الجزائرية. لقد تعلم الجميع في نفس المدرسة، مدرسة الحزب الواحد، التي ما زالت مسيطرة على مواقع كثيرة، و تحضى بالرعاية كأسلوب حكم بامتياز. إنهم يستعملون المغالطة ليبرروا بقائهم في السلطة سواءا كانت السلطة مكتب مدير أم مكتب وزير.
لقد نجح بوتفليقة نجاحًا مبهرًا في إرجاع الجزائر كما كانت، أي إلى ماقبل الأزمة... فهل هذا يعني أن ما ينتظر البلاد الآن هو...الأزمة؟ إن عدم الإستقرار لا يسببه تغير القيادة و تداول السلطة، بل الإختلال الرهيب في توازن السلطة، و إنعدام الرقابة. فلفائدة من شُل البرلمان؟ و لفائدة من قُتلت الحياة السياسة في البلاد؟ و لفائدة من تُحاصر وسائل التعبير؟ أكيد أنه ليس لصالح الجزائر و شبابها.
5. بين أحزاب التواطؤ الرئاسي و أحزاب الإنتخابات:
تراجُعُ الأداء السياسي لم يقتصر فقط على السلطة الحاكمة، بل تعداها إلى الأحزاب السياسية، حيث أصبحت الممارسة السياسية بالنسبة لبعض الأحزاب، تعني عقد شراكة مع السلطة يمكنها من البقاء و تمديد عمرها الإفتراضي، مقابل التواطؤ السياسي على مستقبل البلاد. هذه التشكيلات السياسية التي أصبحت تعرف بأحزاب التحالف الرئاسي، إختارت لعب دور الأداة السياسية بدل أن تكون الفاعل السياسي، و هو على قدر ما يبث الحزن و الألم، على قدر ما يبين مجالات الممكن السياسي في جزائر اليوم. لقد عادت الجزائر سياسيًا إلى ما قبل أكتوبر، وهو ما يضرب عرض الحائط بتجربة أكثر من أربعين سنة من الإستقلال.
إن التجربة السياسية الحديثة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك تجذر عقلية الشخصانية و الزعامة، ليس فقط لدى رجال السلطة، بل و حتى لدى من يعتبرون أنفسهم معارضة و بديلاً لها. فكثيرًا ما تنفجر الأحزاب عند أول موجة انتقاد لزعيمها، و قد يغادر الزعيم حزبة كل ما دبت فيه ثورة عليه ليؤسس حزبًا جديدًا خالصًا له. إن هذه العقلية لا تأهل هذه الأحزاب سوى للعب دور الدكتاتورالمرتقب بدلًا عن الحالي، فلا يمكنها أن تقدم أي خدمة للبلاد، و لا يمكنها أن تتطور إلا عبر ممارسة متواصلة و تنافسية في فضاء ديمقراطي حر و شفاف نفتقده اليوم. إن المحك الأول لتقييم هذه الأحزاب و الزعامات، هو مدى تجردها و رضوخها لإرادة الأغلبية، وقدرتها على إحتمال التداول و النقاش الحر، و ما لم تفعل ذلك فهي عقيمة لا تفرخ سوى المآسي. إن العقلية الجزائرية، كَمَا العربية، تؤمن بالزعيم المخلص و القائد المغوار، في هذا الزمن الذي ذاب قيه الشخص القائد، و تهاوى تحت ثقل المؤسسات و المختبرات و الكفائات العاملة في مجال إفراز الخيارات و صنع القرارات، و الأحزاب التي ينبغي لها أن تكون مدرسة لتعليم الأدوات الجديدة للسلوك و التفكير و التقييم، لم تقم بذلك و لا تستطيعه و هي على حالها هذه.
إننا إذا أحسنا الضن بالجميع نقول أنه حالة من عدم الإدراك، أما إذا قلنا الحقيقة، فهي حالة من إفتقاد قيم المسؤولية الأخلاقية لبعض الساسة الجزائريين. و لنا أن نتسائل اليوم، أين تلك الحماسة و العزيمة في المقارعة و المغالبة، التي كان يبديها السياسيون حينما كان الأمل في الوصول للسلطة قويًا و أبواب النقد مفتوحة؟ مالها فترت اليوم في الوقت الذي أصبح مستقبل الجزائر و أملها في التغيير متعلق بها؟ و لأن المهم في السياسة ليس القدرة على الوصول الى السلطة بقدر ما هو الشجاعة في التصدي و إحداث التغيير في السلطة، فاليوم و فقط اليوم أصبح للسياسة معنىً و أصبح للكلمة فائدة، و اليوم بالذات خرصت كل الألسنة.
6. مشروع حلم:
كما سيطرت الرداءة على الفعل السياسي، و على مستوى القيادات داخل و خارج السلطة، سيطرت الرداءة أيضًا، و أصبحت قانونًا في كل مناحى الأداء الجزائري. اليوم كل التقارير الدولية حول أوضاع الجزائر في كل المجالات، عدا مجال النفط و استيراد الأسلحة، لا تبشر بخير. جامعاتنا في ذيل ترتيب الجامعات، مؤسساتنا المالية من أكثر الأنظمة البنكية تخلفًا، إقتصادنا مريض الى حد السقم، و حتى مدننا أصبحت تصنف من أسوأ الأماكن للعيش، شبابنا استسلم لليأس و الإنحراف و الإنتحار في البحر و في الجبل. كل يوم يتسع الهامش أكثر فأكثر بيننا و بين العصرنة، و بيننا و بين الدول المتقدمة، نفس الهامش الذي أخذ يضيق أكثر فأكثر بالنسبة لدول كانت بالأمس القريب أسوأ حالاً منا. و لست بحاجة هنا الى أي تقرير دولي للدلالة على ذلك، فإننا نلاحظ يوميًا مستوى التخلف و الرداءة و إنعدام المهنية الذي تعاني منه كل أجهزة الدولة وأداراتها. و مع ذلك يتمسك الكثيرون بالعهدة الثالثة و ربما الرابعة في سبيل الإستمرارية، و لا أدري هنا ما المقصود بالإستمرارية؟ هل هي استمرارية بوتفليقة في الحكم؟ أم استمرارية الوضع الراهن الذي يمكنهم من السيطرة على دواليب السلطة و مواصلة النهب المنظم للبلاد و ثرواتها، و يسمح لسياسييهم الإقامة الطويلة على شاشات التلفزيون باسم الوطنية و الإستمرارية.
ربما يتسائل البعض فيقول: إذا كنا لا ندعم العهدة الثالثة، و لا نؤمن بالرجل الزعيم، و لا يعجبنا الوضع الحالي للبلاد، رغم التحسن الأمني و المعيشي، فماذا نريد؟ إن ما نريده هو قتل اليأس الذي استشرى، ليس فقط لدى عامة الشعب، بل وحتى عند صانعي القرار الذين لم يستطيعوا بعد تجاوز حالة العجز أمام مسألة التقدم و التنمية. إن التطور و اللحاق بالدول المتقدمة اليوم، أصبح أمرًا ممكنًا إذا طرحت الأسئلة الصحيحة، و فتح مجال الحوار الوطني للإجابة عليها. و قد نجحت دول مثل ماليزيا و الإمارات العربية و البرازيل في تحقيق تلك الوثبة، و لا أرى مانعًا اليوم يمنع الجزائر من الإنطلاق، سوى تلك العقلية القديمة المتحجرة التي تعيق البلاد. العقلية التي تركز الإهتمام على سياسة التحكم و الحكم أكثر من حل إشكالات التنمية الحقيقية و الملحة. و التي تتطلب حملة شرسة و منظمة لوقف التدهور بإصلاح الإدارة و محاربة الفساد، و تطوير مقومات الإقتصاد و محيطه العام، بالإضافة لبرنامج طموح و متحفز في مستوى بلد كالجزائر و شعب كشعبها.
إن ما نريده اليوم، هو العودة للأهداف التي خلصت اليها تجربة الإستقلال وصولاً الى أحداث أكتوبر، و ليس إلى جزائر ما قبل أكتوبر حيث نتواجد الآن. العودة إلى أهداف بناء دولة القانون السيد المهيمن على الجميع ، دولة المؤِسسات الدستورية السيدة و المستقلة، دولة لا مركزية القرار و الرقابة المتبادلة و توازن السلطات، دولة الديمقراطية التي تمكن السلطة من تصحيح أخطائها، و تحمل الشعب تبعية المشاركة في صياغة القرارات، من خلال إختياره الحر و الشفاف للسياسات و الرجال، دولة لا وصاية فيها لمجموعة على الأغلبية، دولة لا زعامة فيها سوى للعمل النافع و الجاد، و لا أحتكار فيها للسلطة على حساب المجتمع.
إن علينا ألا نقنع بأهداف تنتهي عند توفير لقمة عيش و مقعد للدراسة و سرير فى المستشفى، مع أن هذا أمر ضروري، لكن ما نريده هو أن نضع العربة بالطريقة الصحيحة على الطريق الصحيح للّحاق بالركب الحضاري، لأن إمكانياتنا الحالية تأهلنا لذلك و للأسف قياداتنا السياسية و طبيعة نظامنا السياسي تمنعنا منه.
الشهاب
(الجزء الثاني)
بقلم: سمير ناصر
في الإقتصاد: لقد كان من المفترض أن تدني مستوى المداخيل و ثقل المديونية هما السبب المباشر في كل مأسي الجزائر سابقًا، واليوم مع توفر الأمن و الموارد المالية، و لعشر سنوات متتالية، لم يكن ينقص البلاد سوى خطة تنمية فعالة لتحصين الجزائر إقتصاديا و إجتماعيًا. و مع ذلك فقد ضلت الحكومة الجزائرية، تحت سلطة بوتفليقة، تكتفي بتسيير الملفات، في انتظار مستثمر أجنبي قد يأتي و قد لا يأتي ليجلب العمار و الرفاه لابناء وطنهم. ومن المفارقات أن قوانين الاستثمار ما فتئت تزداد تشددا وتقييدا على المستثمرين الأجانب، مقارنة بجيراننا في تونس و المغرب، و هنا نتسائل أيُ برنامج هذا الذي يمتنع عن إستعمال المال المحلي، و يعيق قدوم المال الأجنبي لتحقيق التنمية، سواء بالقوانين أو بالتهاون في ترقية و سط استثماري مشجع.
إن المهمة الأولى و المسؤولية الأخلاقية لأي حاكم لجزائر ما بعد المأساة، هي و ضع الشروط الضامنة لعدم تكرار التجربة المرة بمنع أسبابها، و التي منها الإعتماد الكلي على النفط، و سوء تسيير المؤسسات الإقتصادية العمومية. و مع أن ارتفاع أسعار البترول غير المسبوق مثل فرصة تاريخية لإعادة التفكير في تركيبة الإقتصاد الجزائري، و إعادة بناءه على أسس جديدة، إلا أن شيئا لم يحدث البتة، و كأن البلاد عاجزة عن المبادرة الفعالة لبعث الإستثمار في مجالات الإقتصاد المتنوعة، و خاصة منها الجالبة لمناصب العمل. لقد إكتفى برنامج الرئيس ببناء التجهيزات، من طرق و مساكن و بنى تحتية، و التي و إن كانت مهمةً و حيويةً إلا أنها مشاريع غير منتجة للثروة، و لا لمناصب شغل قارة، و لا يمكن الإكتفاء بها على حساب الإستثمار الصناعي و الفلاحي و التكنولوجي، و الدخول في مشاريع بصيغ جديدة، لإنعاش سوق العمل و تنويع الإنتاج، دون تعريضها لسوء التسيير.
لقد مرت اليوم عشر سنوات من حكم بوتفليقة، و ما زال الغموض يلف إستراتيجية التنمية و أهدافها، و ما تزال حصيلته تقيمُ بعدد الكلومترات و المساكن التي أنجزت و التي ستنجز، و هي كلها مقتنيات لا تتطلب ذكاءًا خارقًا و لا عبقرية فذةً، بل كل ما تتطلبه هو توفر المال. أما التحدي الحقيقي و الذي فشل فيه، فهو تحقيق الإقلاع الإقتصادي، الذي كان و ما يزال مطلبًا تاريخيًا و مصيريًا ملحًا، أو على الأقل توفير الشروط الضرورية لتحقيقه. فاستمرار الإعتماد على النفط، و صرف عائداته هو استمرار للعجز الفكري للمسير و السياسي الجزائري. صحيح أنها ليست مهمة سهلة، لكنها النقطة المفصلية التى على الشعب الجزائري أن يقيم من خلالها زعماءه، و ليست عدد الكلومترات و المساكن التي تشترى بعائدات البترول، ولا قيمة احتياطي الصرف الذي صنعته كذلك عائدات البترول. و مع هذا فإننا نقر بترجيح فشل أي سياسة يمكن أن تعتمد في ظل الوضع العام السائد في الجزائر اليوم، لأنه و ببساطة لا يمكن توقع النجاح لإقتصاد في دولة تصنف بنوكها في أسفل السلم على المستوى الإفريقي، ويعمل فيها القضاة موظفون لدى الحكومة، و تسيطر على كل إداراتها و مؤسساتها، بدون استثناء، تخمة بيروقراطية تقتل يوميًا ديناميكية المجتمع و تقطع أوصاله، فضلًا عن أي مشروع إقتصادي، و تسيطر فيها فئة من النافذين في السلطة على مصادر المال و الثروة و على مراكز القرار، و تنتهج سياسة الفوضى المنظمة التي رمت بالبلاد في حالة من التيه، حلت فيه العلاقات الشخصية و الأمزجة محل القانون والأخلاق. في حين استسلم الشباب المسحوق لليأس القاتل و الإنتحار.
لقد استطاعت دولٌ النهوض و تحقيق التنمية المستدامة، بل و الخروج من دائرة التخلف، في فترة لا تتجاوز العشر سنوات، بينما ننظر باعجاب لمن يعطل طاقات المجتمع عن الإنطلاق و اعترف بفشله مرات عديدة. إن إعادة بناء الإقتصاد الجزائري يتطلب إعادة النظر في كل الأسس التي انبنى عليها، كما يتطلب حربًا ضروسًا ضد الفساد بكل و جوهه، و هي المهمة التي يبدو أن بوتفليقة عاجز عنها، أو معتذر عن التصدي لها. لقد كانت صرامته شديدة ضد منتقدي الفساد، كما حصل مع بوقرة سلطاني، لأن ذلك حسبه يُسيء لسمعة البلاد، في الوقت الذي يلاحظ البسطاء بحزن تفشي الفساد في أوصال و مفاصل الدولة، و مواجهته بسكوت من قبل السلطات. الجزائر اليوم تشهد عملية توزيع للثروة، هي في الحقيقة شكل من أشكال تقاسم غنيمة ما بعد الحرب، حيث تحولت الشرعية اليوم من شرعية الثورة و الثوار التي استمرت حتى التسعينيات إلى شرعية الأقوياء المنتصرين.
4. السياسوية و المغالطة السياسية:
السياسة التي يفترض فيها قيادة النشاط العام للمجتمع وتأطيره، ترجمت جزائريًا على أنها توظيف طاقات البلاد لضمان الإستمرارية في الحكم على حساب المستقبل و الحس المدني و الأخلاقي. السياسة التي جعلت الإقتصاد الوطني و المنظومة التربوية، و حتى الثقافة و الرياضة، ملكًا مشاعًا للأديولوجيا، في عهد الحزب الواحد، فجعلت المؤسسة الإقتصادية تحت سلطة الوزير و الوالي و المحافظ، و سياسات الحزب لإنجاح الإشتراكية و الجزأرة و العدالة الإجتماعية، على حساب صحة المؤسسة المالية، كما جعلتهم كذلك يضحون بالمدرسة في سبيل الشعارات الشعبوية، فأصبح المطرودون منها معلمون فيها تحت شعار جزأرة التعليم في الثمانينيات. نفس تلك الأساليب عادت إلى الساحة السياسية، فأصبحت السياسة و أهداف الساسة هي المحددة لشكل و نشاطات المجتمع. فالإقتصاد يوظف اليوم أيضًا كوسيلة لتحقيق أغراض سياسية، حيث بامكان الرئيس التدخل في تسيير البنوك و التحكم في قراراتها بعيدًا عن الجدوى و المعايير الإقتصادية، كقرار إلغاء ديون الفلاحين. هذه الأساليب تشكل عائقًا حقيقيًا دون ترسيخ تقاليد مالية و اقتصادية نحن في أمس الحاجة إليها لبعث الإقتصاد الوطني، بل و عكس ذلك ترسخ الإتكالية و إنعدام الجدية و المسؤولية لدى المتعاملين الإقتصاديين. إنه من الضروري دعم الفلاحة و باقي فروع الإقتصاد كما فعلت الحكومة سابقًا، ومن الضروري ضخ الكثير من المال في السوق الجزائرية، و لكن ليس بأساليب مسح الديون الغير مبررة إقتصاديا، في الوقت الذي تفرض فيه أقصى شروط الصرامة على تمويل مشاريع الشباب العاطل، بحجة أنتهاء عهد الرعاية و ضرورة تحملهم كل المسؤولية.
أما الأرقام فأصبحت فضفاضة متغيرة، و نسب نجاح البرامج في كل مجال تقدر بتطويع النسب، و ليس بمفعولها و أثرها المفترض. فنجاح التعليم بعدد مقاعد الدراسة التي ترفعها الوزارة كما تشاء بدل الإنجازات العلمية و مستويات التحصيل و التحكم في العلوم و التكنولوجيا، و قدر الإضافة التي يقدمها و الحلول التي ينتجها للمجتمع، في الوقت الذي أصبح من الواضح تدني مستوى التعليم عندنا مقارنة بدول أقل مالًا و إمكانيات. و كذلك نسب البطالة التي تجعل من المنح التي تصرفها الدولة للبطالين مناصب شغل. و كم كان مضحكًا مرةً، عندما صرح مدير بشركة نفطال أن مستوى شركته أحسن من كثير من الشركات الأوربية لأن نسبة مبيعاتها أكبر، متجاهلاً أن إرتفاع نسبة المبيعات سببه احتكار شركته للسوق الجزائرية. لقد تعلم الجميع في نفس المدرسة، مدرسة الحزب الواحد، التي ما زالت مسيطرة على مواقع كثيرة، و تحضى بالرعاية كأسلوب حكم بامتياز. إنهم يستعملون المغالطة ليبرروا بقائهم في السلطة سواءا كانت السلطة مكتب مدير أم مكتب وزير.
لقد نجح بوتفليقة نجاحًا مبهرًا في إرجاع الجزائر كما كانت، أي إلى ماقبل الأزمة... فهل هذا يعني أن ما ينتظر البلاد الآن هو...الأزمة؟ إن عدم الإستقرار لا يسببه تغير القيادة و تداول السلطة، بل الإختلال الرهيب في توازن السلطة، و إنعدام الرقابة. فلفائدة من شُل البرلمان؟ و لفائدة من قُتلت الحياة السياسة في البلاد؟ و لفائدة من تُحاصر وسائل التعبير؟ أكيد أنه ليس لصالح الجزائر و شبابها.
5. بين أحزاب التواطؤ الرئاسي و أحزاب الإنتخابات:
تراجُعُ الأداء السياسي لم يقتصر فقط على السلطة الحاكمة، بل تعداها إلى الأحزاب السياسية، حيث أصبحت الممارسة السياسية بالنسبة لبعض الأحزاب، تعني عقد شراكة مع السلطة يمكنها من البقاء و تمديد عمرها الإفتراضي، مقابل التواطؤ السياسي على مستقبل البلاد. هذه التشكيلات السياسية التي أصبحت تعرف بأحزاب التحالف الرئاسي، إختارت لعب دور الأداة السياسية بدل أن تكون الفاعل السياسي، و هو على قدر ما يبث الحزن و الألم، على قدر ما يبين مجالات الممكن السياسي في جزائر اليوم. لقد عادت الجزائر سياسيًا إلى ما قبل أكتوبر، وهو ما يضرب عرض الحائط بتجربة أكثر من أربعين سنة من الإستقلال.
إن التجربة السياسية الحديثة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك تجذر عقلية الشخصانية و الزعامة، ليس فقط لدى رجال السلطة، بل و حتى لدى من يعتبرون أنفسهم معارضة و بديلاً لها. فكثيرًا ما تنفجر الأحزاب عند أول موجة انتقاد لزعيمها، و قد يغادر الزعيم حزبة كل ما دبت فيه ثورة عليه ليؤسس حزبًا جديدًا خالصًا له. إن هذه العقلية لا تأهل هذه الأحزاب سوى للعب دور الدكتاتورالمرتقب بدلًا عن الحالي، فلا يمكنها أن تقدم أي خدمة للبلاد، و لا يمكنها أن تتطور إلا عبر ممارسة متواصلة و تنافسية في فضاء ديمقراطي حر و شفاف نفتقده اليوم. إن المحك الأول لتقييم هذه الأحزاب و الزعامات، هو مدى تجردها و رضوخها لإرادة الأغلبية، وقدرتها على إحتمال التداول و النقاش الحر، و ما لم تفعل ذلك فهي عقيمة لا تفرخ سوى المآسي. إن العقلية الجزائرية، كَمَا العربية، تؤمن بالزعيم المخلص و القائد المغوار، في هذا الزمن الذي ذاب قيه الشخص القائد، و تهاوى تحت ثقل المؤسسات و المختبرات و الكفائات العاملة في مجال إفراز الخيارات و صنع القرارات، و الأحزاب التي ينبغي لها أن تكون مدرسة لتعليم الأدوات الجديدة للسلوك و التفكير و التقييم، لم تقم بذلك و لا تستطيعه و هي على حالها هذه.
إننا إذا أحسنا الضن بالجميع نقول أنه حالة من عدم الإدراك، أما إذا قلنا الحقيقة، فهي حالة من إفتقاد قيم المسؤولية الأخلاقية لبعض الساسة الجزائريين. و لنا أن نتسائل اليوم، أين تلك الحماسة و العزيمة في المقارعة و المغالبة، التي كان يبديها السياسيون حينما كان الأمل في الوصول للسلطة قويًا و أبواب النقد مفتوحة؟ مالها فترت اليوم في الوقت الذي أصبح مستقبل الجزائر و أملها في التغيير متعلق بها؟ و لأن المهم في السياسة ليس القدرة على الوصول الى السلطة بقدر ما هو الشجاعة في التصدي و إحداث التغيير في السلطة، فاليوم و فقط اليوم أصبح للسياسة معنىً و أصبح للكلمة فائدة، و اليوم بالذات خرصت كل الألسنة.
6. مشروع حلم:
كما سيطرت الرداءة على الفعل السياسي، و على مستوى القيادات داخل و خارج السلطة، سيطرت الرداءة أيضًا، و أصبحت قانونًا في كل مناحى الأداء الجزائري. اليوم كل التقارير الدولية حول أوضاع الجزائر في كل المجالات، عدا مجال النفط و استيراد الأسلحة، لا تبشر بخير. جامعاتنا في ذيل ترتيب الجامعات، مؤسساتنا المالية من أكثر الأنظمة البنكية تخلفًا، إقتصادنا مريض الى حد السقم، و حتى مدننا أصبحت تصنف من أسوأ الأماكن للعيش، شبابنا استسلم لليأس و الإنحراف و الإنتحار في البحر و في الجبل. كل يوم يتسع الهامش أكثر فأكثر بيننا و بين العصرنة، و بيننا و بين الدول المتقدمة، نفس الهامش الذي أخذ يضيق أكثر فأكثر بالنسبة لدول كانت بالأمس القريب أسوأ حالاً منا. و لست بحاجة هنا الى أي تقرير دولي للدلالة على ذلك، فإننا نلاحظ يوميًا مستوى التخلف و الرداءة و إنعدام المهنية الذي تعاني منه كل أجهزة الدولة وأداراتها. و مع ذلك يتمسك الكثيرون بالعهدة الثالثة و ربما الرابعة في سبيل الإستمرارية، و لا أدري هنا ما المقصود بالإستمرارية؟ هل هي استمرارية بوتفليقة في الحكم؟ أم استمرارية الوضع الراهن الذي يمكنهم من السيطرة على دواليب السلطة و مواصلة النهب المنظم للبلاد و ثرواتها، و يسمح لسياسييهم الإقامة الطويلة على شاشات التلفزيون باسم الوطنية و الإستمرارية.
ربما يتسائل البعض فيقول: إذا كنا لا ندعم العهدة الثالثة، و لا نؤمن بالرجل الزعيم، و لا يعجبنا الوضع الحالي للبلاد، رغم التحسن الأمني و المعيشي، فماذا نريد؟ إن ما نريده هو قتل اليأس الذي استشرى، ليس فقط لدى عامة الشعب، بل وحتى عند صانعي القرار الذين لم يستطيعوا بعد تجاوز حالة العجز أمام مسألة التقدم و التنمية. إن التطور و اللحاق بالدول المتقدمة اليوم، أصبح أمرًا ممكنًا إذا طرحت الأسئلة الصحيحة، و فتح مجال الحوار الوطني للإجابة عليها. و قد نجحت دول مثل ماليزيا و الإمارات العربية و البرازيل في تحقيق تلك الوثبة، و لا أرى مانعًا اليوم يمنع الجزائر من الإنطلاق، سوى تلك العقلية القديمة المتحجرة التي تعيق البلاد. العقلية التي تركز الإهتمام على سياسة التحكم و الحكم أكثر من حل إشكالات التنمية الحقيقية و الملحة. و التي تتطلب حملة شرسة و منظمة لوقف التدهور بإصلاح الإدارة و محاربة الفساد، و تطوير مقومات الإقتصاد و محيطه العام، بالإضافة لبرنامج طموح و متحفز في مستوى بلد كالجزائر و شعب كشعبها.
إن ما نريده اليوم، هو العودة للأهداف التي خلصت اليها تجربة الإستقلال وصولاً الى أحداث أكتوبر، و ليس إلى جزائر ما قبل أكتوبر حيث نتواجد الآن. العودة إلى أهداف بناء دولة القانون السيد المهيمن على الجميع ، دولة المؤِسسات الدستورية السيدة و المستقلة، دولة لا مركزية القرار و الرقابة المتبادلة و توازن السلطات، دولة الديمقراطية التي تمكن السلطة من تصحيح أخطائها، و تحمل الشعب تبعية المشاركة في صياغة القرارات، من خلال إختياره الحر و الشفاف للسياسات و الرجال، دولة لا وصاية فيها لمجموعة على الأغلبية، دولة لا زعامة فيها سوى للعمل النافع و الجاد، و لا أحتكار فيها للسلطة على حساب المجتمع.
إن علينا ألا نقنع بأهداف تنتهي عند توفير لقمة عيش و مقعد للدراسة و سرير فى المستشفى، مع أن هذا أمر ضروري، لكن ما نريده هو أن نضع العربة بالطريقة الصحيحة على الطريق الصحيح للّحاق بالركب الحضاري، لأن إمكانياتنا الحالية تأهلنا لذلك و للأسف قياداتنا السياسية و طبيعة نظامنا السياسي تمنعنا منه.
الشهاب