مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/17 20:12
حوار مع الدكتور الباحث فؤاد بوعلي
حوار مع الدكتور الباحث فؤاد بوعلي - الجزء الأول
3/9/2014
رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية بالمغرب في حوار مع نماء:
يكتسي هذا الحوار أهمية بالغة، كونه جاء من خبير متخصص في المسألة اللغوية في الوطن العربي، وكونه حاول أن يقترب من أهم الإشكالات الهوياتية والتربوية والتعليمية ذات الطبيعة اللغوية، ومع أن الباحث مغربي الأصل والنشأة إلا أن خبرته بالواقع اللغوي في العالم العربي والقضايا الشائكة المثارة، جعلته يعرض للموضوع برؤية نسقية تنطلق من بحث الإشكاليات المشتركة مما يرتبط بقضية الازدواجية والتعدد اللغوي في مسالك التربية، ثم التدافع اللغوي في الوطن العربي، وقضية العامية أو التلهيج أو الدارجة وعلاقة اللغة بالبحث العلمي، وغيرها من الإشكالات التي حاول مقاربتها برؤية علمية في هذا الحوار.
ما تقييمكم لآثار الثورات العربية على وضعية اللغة العربية في دول الربيع العربي، لاسيما بعد وصول التيارات الإسلامية التي تركز على إعادة الاعتبار لمكانة اللغة العربية؟
لعل أهم أحداث العقد الحالي هو الربيع العربي وما أفرزه من تداعيات على المشهدين السياسي والاجتماعي. فبعيدا عن القراءات المتآمرة التي ترى في الثورات الشبابية حراكا مصطنعا بغية خلخلة الخريطة الجيو - استراتيجية للشعوب العربية وتهيئة المنطقة لاستقبال شكل جديد من الأنظمة، وفق نبوءة بوش بشرق أوسط جديد، فإن هذه التحركات والاحتجاجات قد أسست لواقع جديد تبرز معالمه في إعادة التأسيس للإنسان العربي وبناء الاستقلال الجديد بعد فشل نموذج الدولة القطرية الوطنية وتقديم قراءات جديدة للعلاقة مع الآخر المختلف قيميا وإيديولوجيا. ويأتي السؤال اللغوي في عمق هذا التحول. ومع صعود ما أسميه بالقطب الهوياتي من الأحزاب الإسلامية والقومية والعلمانية انتقلت المسألة اللغوية من النقاش النخبوي نحو التفاعل المجتمعي وذلك من خلال ملمحين: الدمقرطة والمأسسة. فالعربية باعتبارها لغة الأمة والتعبير الأسمى عن الانتماء، لا يمكنها أن تعيش وتنمو إلا في ظل جو ديمقراطي حيث الشعب يختار انتماءه كما يختار مسؤوليه. وهذا ما أكد عليه الرئيس التونسي منصف المرزوقي في آخر ما كتبه قبل ولوجه قصر قرطاج، أي لغة سيتكلم العرب القرن المقبل؟ حيث قدم توصيفا لواقع العربية ومستشرفا مستقبلها بعد نجاح القطب الهوياتي في الوصول إلى الحكم وتدبير الشأن العام. وربط بين الاستبداد واحتقار العربية، ففي الدول التي تعيش استبدادا (باستثناء سوريا،) تجد انتشارا للغة هجينة وحربا مقدسة على العربية تارة باسم الخصوصية وأخرى باسم الانفتاح والحداثة. ’’فالعربية نفسها تحت الاستبداد كانت لغة محتقرة، حيث لم تعد جديرة بأن تكون لغة الإدارة ولغة التعليم العالي والبحث العلمي’’. وفي عدد من الدول العربية لاسيما المغاربية ستجد جل الذين يحاربون العربية والانتماء العربي هم معتمدو السلطوية والاستبداد. لذا أحدثوا معاهد للغات أخرى واحتموا بالسلطة من أجل تمرير مشاريعهم، واختبئوا في مراكز قرار الوزارات لكي ينفذوا أجندات سلطوية.. وفي النهاية هم أناس لا يستطيعون تقبل شمس الديمقراطية. لذا يعد الملف اللغوي واحدا من أهم ملفات مرحلة التأسيس للعرب الجدد على حد تعبير الرئيس المرزوقي. وإذا كنا أمام واقع جديد حيث العربية تنافسها لغات وطنية وأجنبية أخرى، فإن تمتع سادة القرار الجدد بالعمق المجتمعي بحكم أنهم أبناء مجتمعهم وليسوا نخبة متسلطة بالوراثة أو الشرعية التاريخية، وإيمانهم بجوهرية العربية في تكوين الإنسان العربي والحفاظ على وجوده الحضاري، إضافة إلى الجرأة في معالجة القضايا الاستراتيجية يدفعهم إلى تنزيل سياسة لغوية راشدة من خلال المؤسسات الأكاديمية والدستورية المختصة.
يرى البعض أنه من العوائق الجديدة التي نشأت في وجه النهوض باللغة العربية بسبب الثورات، الاحتراب على أرضية الهوية بين التيارات العلمانية والإسلامية، ما رأيكم؟
من تداعيات الربيع العربي انفتاح المجتمع على النقاشات الهوياتية التي كانت طابوهات في زمن الاستبداد، ومع بداية الفكاك من أسر الأنظمة الشمولية بدأ البحث عن الذات الخاصة والمشتركة. لذا ليس من المفاجأة ما غدت تثيره بعض المواقف السياسية والمنابر الإعلامية والحقوقية من آراء عن الهوية وضرورة إعادة النظر في مكوناتها وعلاقتها بالتنمية البشرية، بل وإعادة تعريف وضبط الهوية الحضارية للأمة. وليس بخاف كذلك ما أثير من تجاذبات هوياتية في مختلف الشعوب التي تعيش تحولات ديمقراطية، وهو ما عاشته وتعيشه دول الربيع العربي من خلال النقاشات المجتمعيةحول الوثيقة الدستورية وتدبير المسألة اللغوية ضمن مقتضيات الهوية فيها. وتثير مسألة الهوية، سواء كانت دينية أم عرقية أم لغوية، قضية المرجعيات والثوابت التي فقدت وتفتقد لعنصر التوافق حول مقتضياتها. لذا كانت الهوية وما تناسل منها من قضايا أهم عناصر التعبئة والحشد الإيديولوجي والسياسي، وتعاملت معها النخب ليس باعتبارها عناصر تثبيت المشترك الجمعي وإنما كأدوات إيديولوجية وسياسية في مسار التنافس الحزبي والاجتماعي. مما يدفعنا إلى القول أن رؤية النخبة إلى المسألة اللغوية عموما يطبعها منطق الأزمة والتناول الصدامي الذي يصل في أحيان كثيرة إلى المواجهة كما حدث ويحدث في مصر والعراق ولبنان وسوريا. ونفس منطق الأزمة هو الذي حكم خيارات السلطة للمسألة الهوياتية، مما جعلها مطبوعة بالبحث عن الحلول والتوازنات الاجتماعية. أي أن القراءة السلطوية لم تنبع من تفكير عميق عن الحل الشمولي لإشكال الهوية وتركيبته والأسباب التاريخية الفاعلة في تشكله مثل التجزئة الاستعمارية وصناعة الدولة القطرية التي غدت مشرعنة فكريا وإيديولوجيا ومنظومة القيم المتداولة...، وإنما اتجه البحث نحو الحل العرضي السياسي. فلا محاجة اليوم بأن المجتمع العربي يشهد إعادة النظر في تركيبته الهوياتية بشكل يقطع مع التدبير القديم للدولة القومية، وفي نفس الوقت يعيد إنتاج نمط جديد من الأنسجة الاجتماعية يكون للمفاصلة الهوياتية الدور الأسمى. وقد وصلت إلى تجاذب مجتمعي يؤكد الأطروحة القائلة أن اللغة ليست مجرد آلية للتواصل بل هي منظومة قيمية ومعرفية وأن الصراع ليس بين اللغات، وإنما بين أنساق مجتمعية تشكل اللغة المظهر فقط. لذا فالذين يدافعون عن العربية ودورها المحوري هم أنفسهم الذين يعتقدون بالانتماء الإسلامي والحضاري للمجتمع المغربي وبجوهرية العلاقة بين الإنسان وقيمه الوجودية. والذين يحاربون العربية إما باسم الخصوصية القطرية فيتحدثون عن لغة محلية وإما باسم الحداثة فيتعلقون باللغات الأجنبية هم أنفسهم المدافعون عن ارتباط دول الوطن العربي بالمركز الغربي اقتصادا وثقافة وفكرا وقيما. لذا فاللغة هي العرض والجوهر هو وجود المجتمع وانتماؤه. لكن في جميع الأحوال فإن حالة التجاذب قد أفادت في تكوين جبهة الدفاع عن العربية وقوت من رصيدها المجتمعي بعد أن كان تناولها حبيس الصالونات الفكرية والخطب المنبرية والأدبيات الوجدانية فانتقلت مع التجاذب الهوياتي إلى أن غدت حالة مجتمعية.

مشكلة ازدواجية اللغة العربية في الوطن العربي، خاصة فيما يتعلق بلغة التدريس والإشكال المرتبط بلغة البحث العلمي بين اللغة الأم واللغة العلمية السائدة، كيف تنظرون لهذا الأمر وما رؤيتكم لإيجاد حل للمأزق؟

يعيش التعليم في الدول العربية إشكالا لغويا يؤثر على مسار التحصيل العلمي وعلى قدرة الطالب العربي الإبداعية. فبالرغم من أن الدول العربية تنفق على التعليم من ناتجها المحلي الإجمالي GDP أكثر مما تنفقه غيرها من الدول النامية، مما أدى في العقدين الأخيرين إلى تقليل نسبة الأميّة، وزيادة معدلات التسجيل في التعليم، فإننا نلاحظ أن التعليم بصورته الحالية لم يؤدِّ إلى نموٍّ اقتصادي في هذه الدول، وذلك على الرغم من أننا نتجه عالميًا نحو اقتصادٍ مبني على المعرفة يؤدي فيه كلٌّ من العنصر البشري والعلم والتكنولوجيا أدوارا أساسية في النمو. ويرجع ذلك إلى الخلط بين : تعليم العلوم والتقنية لأفراد المجتمع، وإتقان الخريجين للغةٍ أجنبية. إذ ينبغي التمييز إلزاما بين اللغة الأم أو اللغة الوطنية وهي التي يتعلمها الفرد في البيت بهدف التواصل العادي، وهي مكتسبة؛ واللغة العلمية والتكنولوجية، التي نتعلمها اختياريًا وفق قرارات فردية وحكومية، وتُعدّ زيادةً في رأس المال البشري للفرد وللمجتمع. والشائع في بعض المجالات التقنية التماثل بين اللغة العلمية واللغة الأجنبية. وكما قال أحد الباحثين أنك لو أخذت أي كتاب تقني يضم مئة ألف كلمة تقريبًا. وجمعنا عدد كلمات المصطلحات الأجنبية فيها لوجدناها لا تتجاوز 600 كلمة؛ أي أقل من 1%، حسب بعض الإحصائيات التي جرت على بعض الكتب العلمية. فهل يجوز أن نترك 99700 كلمة من أجل 300 كلمة قد يوجد اختلاف على ترجمتها؟. إذاً فاستعمال اللغة العلمية والتكنولوجية باللغة الأم أو الوطنية هي زيادة في رأس المال البشري لأن نقل التكنولوجيا لا يحدث بشراء وسائل وخطوط الإنتاج وإنما بتوطينها عن طريق اللغة. ومن ثمة يلزم أن يكون تدريس العلوم والتقنيات باللغة العربية والانتقال من حالة الفوضى التي خلقتها الازدواجية اللغوية، لعدة اعتبارات أهمها: القدرات الذاتية التي برهنت عنها في التجربة التراثية من خلال الترجمة في بيت الحكمة، وارتباطها بالمشترك الجمعي العقدي للشعوب العربية، وتأكيد تقارير المؤسسات الدولية على قيمتها ودورها في نقل الشعوب العربية نحو مجتمع المعرفة. لذا فالحالة التربوية الراهنة حيث تدرس العلوم بلغة الغير تتميز بحصر المعرفة العلمية والتكنولوجية لدى نخبة من أفراد الأمة، وعدم وصولها إلى المجتمع وقواه العاملة العريضة، ومن ثَم عدم تحدث القوى العاملة بلغة العلم والتكنولوجيا، وتسهيل هجرة العقول، التي تؤدي إلى خسارة رأس المال البشري؛ وعدم تحقيق وظائف اللغة الاقتصادية في المجتمع من التواصل والترجمة والتعاون والتعلم والإضعاف النسبي للطالب علميًا، لأنه لا يدرس بلغته الأم. لذا فتعميم التعليم بالعربية لا يحل المشاكل التربوية فحسب، بل المشاكل الاجتماعية والسياسية حين تغدو المعلومة متاحة لكل أفراد المجتمع، ومن ثمة ينتشر الوعي ولا تبقى المعرفة نخبوية. ولا يعني هذا أن تنعزل هذه المؤسسات العربية عن حركة مثيلاتها في العالم لأننا ندعو دائما إلى وجوب العناية بتدريس اللغة الأجنبية وإتقانها على ألا يكون ذلك على حساب اللغة العربية, وهنا التمييز الضروري بين لغة التدريس واللغة المدرسة.
*مركزنماء
أضافة تعليق