كثر الجدل حول مؤتمر الباحثين والخبراء اليمنيين، الذي أقيم في إسطنبول، وانقسمت ردود الفعل تجاه المؤتمر بين نقيضين فهناك من بالغ في الذم حتى وصل حد التهجم غير الموضوعي والطعن في النوايا، وحجب أي إيجابيات حقيقية، وفريق أخر دافع عنه دفاع المستميت وجعله لا يخلوا من الخطاء وبالغ في الإشادة به حد التقديس والتمجيد المطلق الذي يتغافل عن أي سلبيات موضوعية، وغاب التقييم المتوازن وحل محله خطاب اتهامي يسفه من قيمة المؤتمر وأهدافه بدوافع غير علمية، وخطاب تمجيدي يضفي على المؤتمر صفات التمام والكمال والقداسة ويجرم من ينتقده، وهناك قلة ممن تكلموا بإنصاف حول المؤتمر اسأل الله أن أكون منهم.
فالأصل ألا نكون مع النظرة التشاؤمية التي تبحث عن العيوب فقط وتضخمها، وترى في المؤتمر كل الشرور وتطعن في نوايا المشاركين، ولا مع النظرة المثالية التي ترفض رؤية أي قصور أو نقص وترى فيه كل الخير وتضفي على مخرجاته صفة المعصومية، وبعيدا عمن قام بالمؤتمر أو موله سواء مؤسسات أو أشخاص فالمؤتمر في حد ذاته بادرة طيبة، وهو خطوة في الاتجاه الصحيح للمساهمة في تشكيل وعي المجتمع اليمني لاستعاده الوطن من العصابات والمليشيات ومعالجة مشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعي، وقد عرضت في المؤتمر حوالى أربعين بحثا في سبع جلسات، (التعليم الاكاديمي- البنية التحتية الطبية في اليمن- الصحة طريق الخروج- واقع ومستقبل الحياة السياسية – المسالة الاقتصادية- والطاقة والغذاء- الهوية الوطنية وتحولاتها) فجزى الله القائمين عليه خيرا، لكن هناك قصور شاب المؤتمر وملاحظات أكاديمية وعلمية جوهرية أحببت أن أعطيها للقائمين على المؤتمر أوجزها في التالي:
1- شعار المؤتمر (لا إمام سوى العلم) وما تكلم به بعض المشاركين من الدعوة إلى إلغاء التعليم الديني، وهذه أمور تخالف الحياد والموضوعية، فكما هو معروف أن قطعي العلم لا يتعارض مع قطعي الدين على الإطلاق، والشعار يفترض أن "العلم" هو المصدر الوحيد للمعارف والحقائق، بينما يهمل مصادر المعرفة الأخرى مثل الوحي والخبر الصحيح.
كما أن مفهوم العلم غير متفق عليه بين العلماء فالعلم التجريبي الطبيعي فقط هو القابل للقياس والتكرار عبر الملاحظة والتجربة والقياس الكمي، لأنها ذرات وجزئيات يمكن قياسها بالمختبرات، لكنه لا يمثل العلم بمفهومه الشامل، لأن العلم بمفهومه الشامل تدخل فيه العلوم الاجتماعية.
ومصادر المعرفة الغربية للعلوم الاجتماعية تريد تطبيق معايير العلوم الطبيعية التجريبية بنفس الصرامة على العلوم الاجتماعية، وهذا مستحيل لأن العلوم الاجتماعية تتعلق بالبشر وهم مختلفون في المشاعر والأفكار والأخلاق والقدرات، ويصعب التجريب عليهم أو قياس مشاعرهم وأفعالهم، والعلوم الاجتماعية يستحيل اخضاعها لحتميات العلوم الطبيعية وصوارمها، فهذه النظرة الاختزالية التي ترفض أي حقيقة لا يمكن إثباتها بالمختبر، مما يجعلها تتعامل مع القيم والأخلاق والدين بمنطق مادي صرف، وفي المجتمعات العربية والإسلامية ومنها اليمن، يشكل الدين مكوناً أساسياً في الهوية والشخصية والاجتماعية، وأي محاولة لإقصاء هذا المكون تحت شعار "العلم" هي محاولة لفصل المجتمع عن جذوره الثقافية والحضارية، مما يخلق صراعاً غير مجدٍ بين العلم والدين.
والتاريخ الإسلامي شهد مراحل ازدهار علمية كبيرة في ظل المرجعية الدينية، حيث كان العلماء المسلمون يجمعون بين علوم الدين وعلوم الطبيعة، وفصل العلم عن الدين أو إلغاء التعليم الديني، يقوض الدين الإسلامي، ويفقد العلم بوصلة القيم الأخلاقية التي تنظم استخدامه، وحتى المجتمعات الغربية العلمانية لم تستطع الاستغناء كلياً عن المرجعيات الدينية والأخلاقية في صياغة قوانينها وقيمها المجتمعية، فالشعار غير قابل للتطبيق في المجتمع اليمني المسلم والمتدين، ومن الشعار والإجراءات التي تم بها المؤتمر يجعله أقرب الندوة منه إلى المؤتمر العلمي والأكاديمي، لأن الشروط الأكاديمية المؤتمرات لم تنطبق عليه.
2- كان الأفضل أن يكون المؤتمر بالتعاون مع عدد من الجامعات اليمنية في المناطق المحررة حتى يتم الاستفادة من الأكاديميين في الجامعات للإعداد لمحاور المؤتمر، وتنشر الأوراق البحثية في المجلات العلمية المحكمة، ويتم تشكل اللجنة التحضيرية للمؤتمر منهم، ويختار منها اللجنة العلمية وبقية لجان المؤتمر، ويعلن عنه في وسائل الإعلام، وهذا لم يحصل في مؤتمر الباحثين، وكأن الاختيار لم يخضع لمعايير علمية.
3- اللجنة العلمية التي اختارت المحاور وحكمت الأبحاث وهي مكونة من خمسة اثنان تخصصهما طب وواحد تقنية وواحد هندسة نفط، وواحدة اقتصاد، وواحدة لغة إنجليزية، وأغلبهم ينتمون إلى جامعات أجنبية، وهم بعيدون عن اليمن وعن الواقع اليمني، واثنان منهم ذكروا أنهم في جامعة تعز لكنهم في الواقع لهم سنوات من الجامعة، وكان الأفضل أن تكون اللجنة العلمية مشكلة من كبار الأكاديميين في الجامعات اليمنية، ومن تخصصات متعددة تغطي كل محاور المؤتمر، فيكون في كل محور اثنان ولهم أن يستعينوا بأكاديميين آخرين في التحكيم.
4- أن المؤتمر لم يتبع القواعد الأكاديمية في الإعلان عن المؤتمر واستقبال الأوراق العلمية، ليقدم الباحثين أوراقهم وتختار أفضل الأبحاث، وكان الأولى أن يتواصلوا مع كبار الاكاديميبن ويستكتبوهم استكتاب، ولو بمقابل وبنسبة 25%، ويمكن أن يختار القائمون على المؤتمر 25% من الباحثين، وتبقى نسبة 50% للمنافسة لمن يقدم أبحاث تخدم الأهداف، والقائمون على المؤتمر لم يعلنوا عنه، وكأنهم اكتفتوا بالاختيار وتم التركيز على جامعة واحدة ومنطقة يمنية.
5- أن محاور المؤتمر تناولت مواضيع وأغفلت أخرى مهمة، فركزت على الجانب الطبي وتناولته في محورين، ولم تعطى بعض المحاور حقها مثل المحور السياسي والاقتصادي، وهناك محاور وقضايا ضرورية جدا أغفلت: ففي المحور السياسي أغفل: استعادة الدولة وإنهاء الصراع، وإطار الحكم المستقبلي، والمصالحة الوطنية، والأمن والاستقرار، والأبعاد الإقليمية والدولية للازمة اليمنية، ودور الدول الإقليمية والفاعلين الدوليين في الأزمة اليمنية، وفي المحور الاقتصادي أغفل الأزمة الإنسانية والاقتصادية، ومعالجة الكارثة الإنسانية وإعادة الإعمار والبنية التحتية والإصلاح المالي والاقتصادي. وفي المحور الاجتماعي أغفل: إعادة بناء النسيج الاجتماعي، وتنسيق المساعدات الدولية.
6- في عرف المؤتمرات العلمية تترأس المؤتمر واللجان العلمية شخصيات أكاديمية كبيرة ويترأس الجلسات علماء وأكاديميون متخصصون في موضوع الجلسة، وذلك تشريفًا لعلمهم، وحتى يدير الجلسة ويوجهها التوجيه الصحيح، وفي مؤتمر الباحثين بعض من أدار جلسات المؤتمر لا يحملون درجات أكاديمية، وبعضهم خبراتهم متواضعة، فرئاسة الجلسات لها أعرافها ولا مجاملة فيها.
7- ورقة نجو تعليم آخر في اليمن، لحبيب سروري، وقد كانت ورقته مليئة بالأفكار المصادمة للثوابت الوطنية ولقطعيات الدين فقد دعا إلى تعليم منظومه متكاملة وتعليم الطالب كيف يفكر بحرية، والتفكير بدون حدود حتى الدينية، وانتقاد كل شيء ودعة إلى التعليم المختلط
وان يكون مذهب الطلاب في حياتهم مبادئ حقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة الرقة في العلاقات الغرامية الإنسانية، وألا يتبعوا التاريخ المؤسس على الغيبيات ولا يسلم لها.
وإيجاد طالب يميل إلى التمرد وليس للخضوع واتباع ثقافة الانتماء للإنسانية ولأخلاق
عصر حقوق الإنسان. وطي تعليم الخرافات السائد في اليمن ورميه في أول سلة مهملات، مثل لها بملازم الحوثي وكتب الإعجاز العلمي وتلفيقات الزنداني، ودعا لإبعاد الدين عن التعليم العلمي، وتنظيف التاريخ من الخزعبلات ومثل لها بتلفيق الطبري وابن كثير ودافع عن الأسود العنسي "عبهلة" واشتملت التوصيات ما هدفت لها هذه الورقة، واثنى حبيب سروري في منشور له على شعار المؤتمر لا إمام سوى العلم.
7- التوصيات التي خرجت بها الفعالية أوصت بها فعاليات ومؤتمرات سابقة مثل مؤتمر الحوار وعدد من المؤتمرات السابقة، فما الجديد في هذه الفعالية، وافتقرت إلى الخطة العملية لتنفيذها على الواقع.
8- في التوصيات: "إنهاء مظاهر العسكرة وبناء الدولة المدنية من خلال نزع سلاح الجماعات المسلحة، وإعادة تأهيل ودمج المقاتلين في مؤسسات الدولة" يفهم منه إدماج المليشيات الخارجة على الشرعية في الدولة وهذا له آثار سلبية في المستقبل، كما يفهم منه إقامة دولة مدنية بدون مرجعية إسلامية، المؤتمر أوصى بجوهر ورقة حبيب سروري ونص على حياد التعليم ايدلوجيًا، وهذا يعني منع تدريس العلوم الدينية ومنها العلوم الإسلامية، وهذا كان هدف ورقة سروري.
9- تمت الإشارة في التوصيات إلى الثوابت الوطنية، ولم تتم الإشارة إلى الثوابت الدينية الإسلامية فالشعب اليمني مسلم 100%، وتمت الإشارة الى الهوية الوطنية بدون ربطها بالقيم الإسلامية التي تمثل جزءا رئيسيًا من الهوية الوطنية.