مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2014/08/28 19:29
السياسة والتراث والتجديد
الدكتور جيلالي بوبكر
السياسة والتراث والتجديد
إن ملامح الفكر السياسي عند "حسن حنفي" لا تظهر في كتاب خاص أو محاورة خاصة, أو في مقال أو أكثر فهي مشتتة بين إسهاماته في الكتابة و التأليف بين المقالات و الكتب و الحوارات. ولعل مشروعه الفكري الذي هو قيد الإنجاز وفي إعادة بناء العلوم العقلية النقلية في إطار الجبهة الأولى جبهة 'موقفنا من التراث القديم' نجده في محاولته لإعادة بناء علوم الحكمة يكشف عن العديد من أفكاره وتصوراته لرباعية الحكمة العملية في الأخلاق والاجتماع والسياسة والتاريخ، و ذلك في كتابة ' من النقل إلى الإبداع '.
و كان 'حسن حنفي' قد وضع كتابه الضخم 'من العقيدة إلى الثورة' عبارة عن محاولة لإعادة بناء  أصول  الدين وقد استهله بعنوان عريض في المقدمة هو "من الدعاء للسلاطين إلى الدفاع عن الشعوب"[1]، حرصا منه على الخط الثوري لمشروعه 'التراث و التجديد' فالتثوير كامن في محاولة إعادة بناء أصول الدين فهو حالّ في محاولة إعادة بناء علوم الحكمة عامة وفي داخل الحكمة العملية خاصة، فإذا كانت الغاية 'من العقيدة إلى الثورة ' هو التثوير ضد الاحتلال و القهر والتخلف ، فإن الغاية 'من النقل إلى الإبداع' هو القضاء على التغريب في عصرنا ضربا للمثل بنموذج القدماء كيف تمثّلوا الوافد ثم أعادوا إخراجه ؟ كيف مارسوا النقل ثم قاموا بالإبداع ؟ و إذا كان الهدف 'من العقيدة إلى الثورة ' هو القضاء على التحجر في الداخل، والتقوقع على الذات، و تحويل العقائد إلى أشياء ومقدسات فإن الهدف 'من النقل إلى الإبداع' هو القضاء على التبعية للخارج، وتقليد الآخر وتحويل الثقافة الأجنبية إلى ثقافة عالمية، تعطي حقائق أكثر مما تعطي وقائع، ومصدرا للعلم "بدلا من أن تكون موضوعا للعلم " [2]. وإذا كان التثوير ميزة من ميزات مشروع "حـسن حنفي" و محاولاته لإعادة بناء التراث القديم في الموقف من الآخر أو من الغرب من خلال محاولة بناء علم الاستغراب كعلم جديد في مقابل الاستشراق ويمتد التثوير إلى الموقف من الواقع، الواقع الذي يستقطب جمع أبعاد الموقف الحضاري في الزمان، الحاضر و الماضي والمستقبل . 
يتأسس المشروع لحل أزمة الإنسان العربي الإسلامي المعاصر على جملة من المنطلقات و المبادئ المعلنة تنسجم مع الغايات الموجودة. فإن التراث لابد أن يُستغل و يُستثمر لا كمخزون معرفي و إنّما كطاقة مشحونة و كإرادة متفجرة تعطي للإنسان قوّة القابلية للتحضر ولبناء التاريخ، وفي هذا يقول "حسن حنفي": " فتحليل الواقع المباشر ورؤية التراث فيه أو تحليل التراث على أنه مخزون نفسي عند الجماهير هو في نفس الوقت منهج نفسي اجتماعي، نفسي لأنه يقوم على تحليل شعور الناس و سلوكهم، و اجتماعي لأنه يهدف إلى تحليل الواقع و إلى أي حد ترتكز هذه الأبنية على أبنية نفسية أخرى  عند الجماهير. ولما كانت هذه الأسس النفسية ذاتها ناشئة من موروث حضاري فإنه يتعيّن تحليل هذا الموروث و معرفة ظروف نشأته"[3]، فشرط بناء الحاضر والتطلع إلى المستقبل مرتبط بالتراث لدى الشعوب التاريخية التراثية. لأن المجتمعات التراثية التاريخية تتميز "بأن ثقافتها مازالت مرتبطة بتراثها، الثقافة لديها موروث ثقافي، ينهل من الماضي أكثر مما يصدر عن الحاضر"[4] ، و إذا كان المجتمع التراثي ثقافته ماضية حاضرة، فلهذه الثقافة دور في تغييره و حلّ أزماته، و مشروع 'التراث والتجديد'  ينطلق من هنا، فيمكن " حل أزمات العصر و فك رموزه في التراث، و إمكانية إعادة بناء التراث لإعطاء العصر دفعة جديدة نحو التقدم  فالتراث هو المخزون النفسي لدى الجماهير و هو الأساس النظري لأبنية الواقع. "[5]
        و تحليل التراث و إعادة بنائه لمنح العصر دفعة جديدة نحو التقدم لا يحصلا إلا بتجاوز العقلانية المحدودة إلى عقلانية مفتوحة وواسعة، عقلانية غير وهمية، فالعرب اليوم وقعوا في "وهم العقلانية ومازلت أسسها لم تكتمل بعد. ووقع الأوروبيون في 'ما بعد العقلانية' يحطمون ما بنوه و دافعوا عنه بأيديهم في بداية العصر الحديث. و التحدي الكبير كيف يتحول العرب من مرحلة ما قبل العقلانية إلى مرحلة العقلانية، وكيف يتمسك الأوروبيون بالعقلانية ضد ما بعد العقلانية و ما بعد الحداثة "[6]. ولتأسيس العقلانية المفتوحة " ليس المهم البحث في العقل و غير العقل في الوجود العربي بحثا نظرياً ومعرفيا تأمليا خالصا بل المهم توظيفه في رؤية سياسية تحدد معالم المشروع الحضاري العربي "[7] البحث عن العقلانية التأصيل العقلاني ذاته وتكون ذات امتداد غربي لان الحاضر موصول بالماضي والماضي " مازال حيّا في الحاضر و هي عقلانية إشراقية منذ الفارابي وابن سينا وابن باجة وابن طفيل وليست العقلانية الجذرية عند الكندي وابن رشد أو العقلانية الأخلاقية عند يحيى بن عدى و مسكويه. و قد انشغلت هذه العقلانية بعدة موضوعات مثل البرهان العقلي والسببية في الطبيعة و النظام الكوني والوجود الإنساني جزء منه، و التوفيق بين العقل والوحي، وسيطرة الاتجاه النصي المحافظ. ومن الواضح ارتباط العـقل بالدين و السياسة بالثقافة العربية. "[8]
        فالرؤية السياسية التي تحدد معالم المشروع الحضاري العربي المرغوب فيه في مشروع 'التراث والتجديد' يقوم على التراثية و العقلانية والعلمية و اعتبار الواقع أولى بالتغيير و التطوير. التراثية ليس بمعنى التقليد، لأن التقليد مرض يقضي على الحضـارة، و المواطنة العربية محاصرة بين ماضي فيه تراث الآباء والأجداد و حاضر فيه تراث الآخر وثقافته ومستقبل مجهول المصير والهوية، ولتتضح معالم الفكر السياسي وملامحه في مشروع 'التراث و التجديد' نركز على الحكمة العملية فيه، " فالحكمة العملية هي أكثر الأمور ارتباطا بحياة الأفراد، لما لها من علاقة مباشرة بحياتهم اليومية، و الحكمة العملية تنحل إلى قسمين عند أرسطو: الأخلاق و السياسة. أما في عصرنا فيُنظر إليها من خلال ثلاثة مواطن: سياسة، أخلاق، عمل. ومن خلال هذه التقاسيم حاول الأستاذ حنفي أن يبرهن للمتفلسف العربي أن طريقة تعامل السلف مع العلوم المدنية يُجلي قيّما فضلى للقارئ إنه تعامل مع الواقع قبل النص، و الضروري قبل الكمالي، والحياتي قبل الأخروي."[9]
          ترتبط أوجه الحكمة العملية ارتباطاً سببياً متبادلا داخل التاريخ، فالأخلاق تحولت إلى شبكة علاقات اجتماعية، وشبكة العلاقات الاجتماعية أصبحت سياسة لأن السياسة " لفظ عام بمعنى أيضا الأخلاق الاجتماعية، سياسة الأصحاب كي يقول الإخوان أو توجيه النصائح للملوك. فالقوانين السياسية هي المعايير الأخلاقية، والغاية منها نفعية ولا فرق بين الطبقات الأخلاقية و الطبقات الاجتماعية و الطبقات السياسية"[10]. ونجاح الحكمة العملية مرتبط بنجاح واستقامة العلاقة بين الثلاثية الأخلاقية الاجتماعية السياسية داخل التاريخ و استقامة العلاقة مرهونة بدور العقل في تثبيت القيّم الإنسانـية في العـقل السياسي مـثل العدل و المـحبة و التسامح والأخوة وغيرها. ومشروطه بدور العمل في نقل الإنسان من عقلانية محدودة ضيقة إلى عقلانية مفتوحة فعّالة ومنتجة، وتستلزم إطلاق الخيال لتفجير المواهب لأجل العطاء والإبداع والتخطيط لمستقبل جديد أفضل من سابقه.
        الحكمة العملية تجمع بين الأخلاق والسياسة والتربية، "وهي بدايات السياسة وعلاقتها بالأخلاق والتربية والبدن و الكون قبل أن تتحول إلى علم السياسة وتحليل السلطة في المجتمع"[11]، فالسياسة الأخلاقية تعني الإدارة والتدبير، فالسياسة أربعة أحكام قائمة على قسمة ثنائية، القسمة الرباعية، السياسة مع النفس ومع البدن ومع الآخرين ومع الله أما القسمة الثنائية فهي مع السياسة إلى تربية سياسية التي تكون عن طريق نظرية التعليم والتعلم، ونحو الدنيا ومع الآخرة. وتحوّلت الأخلاق السياسية إلى تربية اجتماعية عن طريق السلطة الدينية أو السياسية أو الفكرية وتكون عن طريق التعليم والتأديب. فمن خلال الفارابي وابن سينا وتحليل مدلول السياسة المدنية عندهما يؤكد 'حسن حنفي' على أهمية ودور المنقول الموروث في الحكمة العملية كسبيل إلى الوعي والإبداع، والشروح في السياسة مسؤولية فيها الفهم والرأي والتصور فالشارح مفكر ومنظّر و المشروح شهادة على رؤيته وهو الفعل الذي مُورس مع سبينوزا والثورة ومع فيشته والمقاومة. ومن جهة أخرى نجد ارتباط السياسة بالبدن في الفلسفة الإسلامية عند الفارابي وغيره يدلّ على "صلة الملك بالمدينة مثل صلة النفس بالبدن. وكما أن كمال البدن في النفس وكلاهما كالربان في السفينة. البدن والمجتمع يخضعان لنفس البنية هي الرئاسة أو السلطة. والتشبيه ليس فقط في الإلهيات بل في الإنسانيات، كلاهما رئيس ومرؤوس، مخدوم وخادم، غاية ووسيلة، الاختلاف فقط في اشتراك الاسم، السياسة واحدة للبدن والمجتمع"[12].
        وُيطرح السؤال الذي غاية في الأهمية في السياسة " هل هناك ملك في ذاته دون شعب أو إله دون عالم؟ هل الملك الذي لا يطاع يكون ملكاً ؟ كيف يحكم الملك بلا آلات أي مؤسسات ووزراء؟ وكيف يكون ملكاً في كل الأوقات مدى الحياة كما يحدث هذه الأيام؟ أليست هذه صفات الله دون أفعاله؟ وهل هناك طبيب بلا مرض وبلا آلات ؟ إلى هذا الحد بلغ استغناء الرئيس عن المرؤوس مع أنهما متضايفان مثل الأب والابن والزوج والزوجة، والكبير والصغير والغني والفقير"[13]. فالحاضر وأزماته ومشاكله تتكشف بأدوات الموروث وعيونه ويعبر الموروث عن علاقة القطيعة والانقطاع بين الحاكم والمحكوم.وجنوح الآداب السلطانية إلى صف الحاكم ليس خدمة للتراث بل لتعزيز بقاء الحاكم وتمكينه من الملك وهو ما تقوم به الإيديولوجيات المعاصرة، ولا سبيل للتخلص من ذلك سوى الارتكاز على الفكر ليؤدي رسالته، إذا ازداد الطغيان والظلم والاستبداد فيكون "الحل الطبيعي وقتئذ هو الثورة على الأوضاع من أجل التغيير."[14] وتأكيد مفاهيم المدن المضادة في التراث إنّما هو تأكيد رفض الأنظمة الظالمة القائمة آنذاك، والتأسي بالدولة الرائدة قديماً أو حديثاً إنّما هو تأكيد على تخلف الدول العربية وتخلف أنظمتها السياسية والسلطة فيها. ومفهوم سلطة النبوة لدى الفلاسفة في الإطار السياسي هو عدم قبول حكم الجهل وسلطة القهر و محاولة التمكين لحكم العدل والعلم والفكر من خلال الأنبياء وخلفائهم، فالمفكر هو أولى به رسم سياسة الدولة وتخطيط نظام الحكم فيها، وعندما يتحدث المفكر السياسي عن الله ويربطه بالواقع من خلال الخلافة والإنسان فلغرض دحض المنظور التقنوقراطي المعاصر الذي يجعل من السياسة علما قائماً بذاته مستقلاً تماماً عن الله والغيب والآخرة، فالله موجود على الأرض مجازاً واختيار الإنسان خليفة له في الأرض ليعمرها، وكل مسلم همّ بالعمل وعمّر الأرض امتلك أهلية الخلافة الربانية. والثورة في وجه النظام الجائر والحاكم المستبد أمر مطلوب وأساسي استمده المفكر من الاحتكام إلى الجانب الثوري في الإسلام الذي يدعو إلى الرفض، رفض الظلم والاستبداد. وبما أن لكل مجتمع خصوصياته القيمية لكن السياسة ترتبط بالنظرة الكونية والنزعة الإنسانية والعدالة العالمية، والسياسة للجميع وهي مربط الإنسانية وأداة حل المعضلات الطائفية والإثنية، والنظرة الكونية التراثية قد تقلب التركيب المألوف: "وكأن العلم المدني هو الأساس والإلهيات هي الفرع في هذه الحالة يدخل علم النفس وعلم الطب ثم العلم المدني نزولاً في نظرية الفيض كأحد مراتب الوجود في العلم المدني من جديد."[15] وكثيراً ما تُعقد المقاربات بين جوانب مشرقة أو مظلمة في تراثنا وفي تراث الآخر وبين الواقع العربي الإسلامي المعاصر، مشاكله وأزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والقدماء يرون أن الإنسان أشد الكائنات عصيانا وانحرافاً، "والأدلة على طاعة الجن تسخير سليمان لها وذهاب الجن تعوذا بالقرآن منها، والامتثال لأوامر الإنسان وسرعة الاستجابة، والإنس أسوأ من الجن في الطاعة وأقرب إلى العصيان، والدليل على ذلك أن طاعة الرؤساء خداع ومكر ونفاق وغرور وطلب العرض والأرزاق والكفاءات والخلع والمآرب والكرامات وّإلا فالعصيان والخروج والعداوة والحرب والقتال والفساد في الأرض."[16] فالوضع العربي إذا بقي على حاله يتفجر عصيانا وتمرداً"، ويتحول الشارع العربي إلى أرض للدم، الشك والغلّ، الموت والخوف، وهذا ما نراه اليوم في كثير من الدول العربية... فإن فساد الشيطان من فساد الإنسان؟؟ لا تعني بالإنسان المرؤوس فقط بل بالدرجة الأولى، الرئيس الذي باشر الفساد فأنتج الفساد."[17]
        عمل 'حسن حنفي' على مناقشة إشكالية الصلة بين الفيلسوف والفقيه فالأول يعقد على الولاء للعقل والقيمة أما الثاني فيعقد على طاعة السلطان ويربطها بطاعة الله. والولاء للعقل والقيمة يقتضي اللاّولاء للحزب أو الأشخاص، فالولاء الحزبي الشخصي يعوض المسار السياسي الضامن للحرية والعدالة والازدهار،" فهل يجوز تنوير الناس بالغيب والأساطير مثل الصهيونية والنازية حالياً أم بالعمل و التحليل الاجتماعي لأسباب الظلم والقهر؟ متى تكون السياسة موضوعاً لعلم السياسة وليست خاصة لأحكام النجوم؟ يحتاج الملوك إلى منجمين عندما تتحكم الدروشة في السياسة كما هو الحال عند بعض رؤساء العصر."[18]
        وتحليل السياسة في صلتها بالحكمة العملية وهي جزء منها لاستخراج الغايات القصوى من السياسة المدنية. والسياسة في تراثنا مقترنة أساساً بمراميها الكبرى والمتمثلة في تسوية الاعوجاج وإصلاح ما فسد في شبكة العلاقات الاجتماعية، السماح لأهل الفكر والعلم من ممارسة التجديد ووضع خطط ، فتح مجال للعمل والاجتهاد للأخيار الأطهار لا للفجّار، حفظ الضروريات وحفظ العمل والحرية والكرامة والسعادة للجميع.
        لأجل تحديد إستراتيجية التغيير لا بد من الاقتداء بالأسلاف، فهم وعوا الآخر وثقافته وتاريخه معلماً للتحول الفكري والتقدم الفلسفي على سبيل المؤشر والعلم لا المعيار والمرجعية المصدر في الفكر والسلوك. فالموروث بدون وافد قبوع وتحجر أما الوافد بدون موروث فهو سقوط في بحر الآخر وغرق فيه، فالتعاطي مع الآخر حضارياً وثقافياً كندّ وليس كغالب والعلم الذي يدرس الآخر بديل عن الاستشراق هو علم الاستغراب وليس عيباً في الفكر الإسلامي المعاصر أن يصبح الوافد من صلب ثقافته، الحكمة تقتضي تقفّياً حيث ما وجدت فهي حق.
        تمثل الحرية في مشروع "التراث والتجديد"الممارسة التي هي جوهر الإنسان، مشروع تحرر من كل ما يعيق الحريات والمواهب الفردية والاجتماعية من الإطلاق والتفجر في مجال الفكر والسلوك اجتهاداً وتنويراً وعطاء. إلا أن صور ومشاهد الإكراه ومجالاته وأساليبه وفنيّاته كثيرة وكبيرة جداً. إنّ وجود الإنسان الحق هو أن يحيا حراً في هذه الحياة. والتحرر يمتد في كوجيتو جديد فيه العمل سابق على العقل في القول. " الكوجيتو الفلسفي عملي أولاً ونظري ثانياً على عكس الكوجيتو الديكارتي نظري أولاً 'أنا أفكر إذن أنا موجود' وعملي ثانياً 'الإرادة أوسع نطاقا من الذهن'. وهو سبب الخطأ، فالحرية والعقل شرط الإنسان الفاضل. والطبيعة لا تعقل شيئاً باطلاً ليس من أرسطو. 'ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك'. الله واهب الطبيعة وأعطى الإنسان اختيارا و روية وأهّله للعدل والإتقان."[19] إلى جانب الحرية كمطلب جوهري إنساني، فإن نصرة المظلوم ونصرة الحق والرشاد هي أهلية الخلافة على الأرض وبذلك يتجاوز الإنسان ظاهرة إذلال الحاكم لرعيته وإرادة الرعية في نسف الحاكم، صراع الإذلال والانحلال.
        يعوّل مشروع 'التراث والتجديد' في حل أزمة المجتمع العربي الإسلامي المعاصر السياسية على فلسفة التاريخ وعلى الوعي بأبعاد الموقف الحضاري التاريخية الثلاثة من خلال إعادة المشهد الحضاري من جديد، وبعث التاريخ الميّت وتحويله إلى حي يُرزق، لأن التاريخ يمنح الوجود حيويته، فالماضي يشدّ الإنسان والحاضر يقيّده والمستقبل مجهول عنده، ضرورة إعادة الصلة مع الزمن، "فالمسلم مشاكله الأساسية مع التراب المهمل، والتراث المسيّب، الوقت الضائع... هل سندخل التاريخ أم نبقى دوماً على هامشه؟؟ هل يمكن أن نعيد أسطورة غمامة الرشيد؟؟ وهل يمكن أن نسجل مرة أخرى حضورنا كقوة أولى تمكّن للعدالة والأخوة؟؟ أم سنظل كالقطط المتلصصة ليلاً تعكر صفوة الهاجعين زمن الهزيمة؟؟؟."[20]
        إن دخول التاريخ والحضارة مرة أخرى لا يتحقق إلا بإعداد إنسان حضاري يختلف عن الإنسان القديم، وهو دور الجميع وقبل إعداد هذا الإنسان الحضاري الجديد تقوم أسئلة يطرحها المفكر: "والسؤال هو: هل يجوز حجب الحقائق عن الناس؟ وماذا عن دور الإعلام في توعية الجماهير وتبصرتها بعواقب الأمور وإلا سرت الشائعات والتكهنات وحصّل الناس على الحقائق من مصادر أخرى، فتنشأ أزمة الثقة بين الحاكم والمحكوم؟ ولماذا الحيطة من عدم إغضاب الرؤساء؟؟ أليس الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأن أعظم شهادة كلمة حق في مواجهة حاكم جائر؟ ولماذا البدء بتعهد الرؤساء، والتفكير من أعلى، أليس ذلك تشريعاً للطغيان؟؟ ألا يجعل ذلك سلوك أهل المدينة قائماً على التملق والنفاق."[21]
        إن السياسة في مشروع 'التراث والتجديد' ترجع إلى التراث لتثويره وتحويله إلى طاقة مشحونة بالقدرة على الإبداع وعلى التغيير من خلال الاقتداء والتأسي والاعتبار بالجوانب المشرقة والمظلمة في التراث، وكثيراً ما استعمل صاحب المشروع المفكرين القدماء وفكرهم مطية للكشف عن الواقع المعاصر ولنقده وتفسيره والدعوة إلى التغيير والتجديد. كما ترتبط السياسة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من منظور 'التراث والتجديد' بالآخر تاريخاً وعلماً وثقافة لأن العيش على التراث بمفرده جمود وانغلاق وتخلف والعيش على الوافد وحده ضياع للتراث وقيّم التاريخ والهوية، فالآخر معلم ومؤشر لا معيار ومرجعية لنا في الفكر والسلوك. لكن الفكر السياسي في مشروع "التراث والتجديد" و الأسس التي يقوم عليها من عقلانية و تنوير وتراثية وحرية وغيرها كثيراً ما تُوقع هذا الفكر في مثالب و متاهات وحتى أوهام، مثل العقلانية والتثوير فهما ليسا دوماً شرط الخروج من أزمة التخلف الفكري والاجتماعي كما أن كثيراً ما اتخذت مفاهيم مثل التراث والتجديد ذريعة لتبرير التخلف، وليس بالضرورة ربط الأنا بالآخر يمدّنا بالصورة الصحيحة عن الذات وعن الغير، فنحن في حاجة إلى وعي ذاتنا الغائبة ابتداء ولا بأس نستفيد من تجارب الآخر في الحياة كمعلم لا مرجع، وإذا كانت الحرية والتحرر شرط الممارسة الحضارية فكثيراً ما نجد هذه الحرية وهذا التحرر مجرد أوهام لأن الحرية والتحرر كما هو في مشروع المفكر لم يعرف النور في الواقع بعد وهما من الشعارات التي تُطلق لتبرير واقع معارض لهما تماماً. لكن رغم الانتقادات التي تُوجه إلى مشروع 'حسن حنفي' فهو مشروع فيه من الأصالة ما فيه من الحداثة، فهو يعوّل على التعاطي مع الواقع قبل النص والعمل قبل النظر، والفعل قبل العقل كما يتميز بالجديّة والجرأة.
 
 

[1] - حسن حنفي: من العقيدة إلى الثورة، الجزء الأول، درا التنوير للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، الطبعة1، سنة 1988، ص7. [2] - حسن حنفي : من النقل إلى الإبداع ،المجلد الأول، الجزء الأول، دار قياء، القاهرة، مصر، سنة 2000، ص20. [3] - حسن حنفي: التراث والتجديد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة، سنة 2002، ص26. [4] - حسن حنفي: حصار الزمن، الجزء الأول، ص226. [5] - حسن حنفي: من العقيدة إلى الثورة، الجزء الأول، ص7. [6] - حسن حنفي: حصار الزمن، الجزء الأول، ص152-153. [7] - المرجع نفسه : ص 158. [8] - المرجع نفسه : ص158. [9] - نخبة من الأساتذة: حروف الحكمة العملية، قراءات تقديم حسن حنفي، رياض العلوم، الجزائر، ط1، سنة 2005، ص21. [10] - حسن حنفي: من النقل إلى الإبداع، المجلد الثالث، ج3، دار قباء، القاهرة، مصر، سنة 2002، ص239. [11] - المرجع نفسه : ص240. [12] - المرجع نفسه : ص262. [13] - المرجع نفسه : ص 262. [14] - حسن حنفي: قضايا معاصرة، في فكرنا المعاصر، ص18. [15] - حسن حنفي: من النقل إلى الإبداع، المجلد 3، الجزء3، ص266. [16] - المرجع نفسه : ص267. [17] - نخبة من الأساتذة: حروف الحكمة العملية، ص27. [18] - حسن حنفي: من النقل إلى الإبداع، المجلد3، الجزء3، ص268-269. [19] - المرجع نفسه : ص276-277. [20] - نخبة من الأساتذة: حروف الحكمة العلمية، ص31. [21] - حسن حنفي: من النقل إلى الإبداع، المجلد3، الجزء3، ص280.
أضافة تعليق