مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2016/09/02 17:41
العولمة والإسلام:

الدكتور جيلالي بوبكر

العولمة والإسلام

خطة الدراسة:

مقدمة

1- عقيدة العولمة

2- الحداثة جسر العولمة

3- بين العولمة والأمركة والإسلام

خاتمة 

مقدمة

ثبت للجميع من خلال التناقض بين خطاب العولمة وسلوكها على الأرض أنها تفتقر تماما إلى الشرعية الأخلاقية التي امتلكتها الحضارات السابقة بدرجات متفاوتة، في سياق العالمية المؤنسة لا في إطار النظام العالمي الشرس والمتوحش، لذا يتساءل العديد من المفكرين “عن قدرة هذا النظام على الاستمرار، وعلى إعادة توليد نفسه، خاصة وأنّ الفساد أصبح سمة لازمة وقطعية للمجتمعات، وأنّ العولمة لم تؤسس قيما أخلاقية جديدة بل استفادة من القيم القائمة والتي ورثتها تاريخيا عن المراحل السابقة، كالشرف وخدمة الوطن ونقل المعرفة وغيرها، بل إنّ العولمة أدت إلى تآكل هذه القيم وتراجعها بعدما أصبحت القيمة الأساسية هي المال فقط، مما يؤدي إلى مأزق ستواجهه العولمة، إن لم يكن اليوم ففي المستقبل القريب، لأن المال أو المادية وحدها لا يمكن البناء عليها نظرا لتغريها وعدم استقرارها، كما أنها ليست متكافئة كالقيم الأخلاقية”. وإذا كانت العولمة تركز على القيم المادية التي لا تعتبر القيم الدينية الإيمانية ولا الفضائل الأخلاقية فإنها بذلك تصنع وجودا ليس متوازنا في الإنسان الفرد والمجتمع، اللاتكافؤ في الوجود الإنساني يحدث الاختلال في الحياة الإنسانية عامة، وتسيطر النزعة المادية التي “تغذي ثقافة الأنا وتقديس الفردية، ولا مانع في ظل ليبراليتهم، أن يسخر المجتمع أو بعضه لمصالح الإنسان الفرد صاحب النفوذ، أو الرجل السوبرمان… تنشر العولمة قيما ومفاهيم عنصرية ولّدت الدعم المفتوح للعنصرية الصهيونية، لا احترام لكرامة الإنسان، ولذلك نجدهم يعتمدون أكثر من مكيال في وقت واحد“.

1- عقيدة العولمة

لقد صارت العولمة عقيدة العالم المتقدم المعاصر، وأصبحت “نظم الاقتصاد والمال هي الدين الذي يدين به الغرب، ومن تبعه من الشرق الأدنى والأوسط والأقصى، وبمعنى آخر، الشمال الغني، ومن يلحق به من الجنوب الفقير، ونحن نرى الآن مصداقية تلك النبؤة في حياتنا المعاصرة، وفي مطلع الألفية الميلادية الثالثة. لقد غدت العولمة بطوفانها الجارف دين النخبة ومن اتبع تلك النخبة، حتى ليطلق أحد الباحثين عليها الوصف الآتي: “دين الأغلبية الداخل إلى البعيد بقوة، وسلطان المال والتجارة”. ونحن نجد أحد الباحثين يصف العولمة فيقول: “لقد وحّدت العولمة مفهوم الأديان التي لكل منها في حد ذاته خصوصيته وتميزه، وجعلت الناس تعتنق دينا واحدا، وهو دين المال، فنسي الناس يسوع المسيح، ونسوا الله تعالى وتذكروا أوجه الدولار”. والعولمة بهذه الصفة، جعلت من العقيدة الدينية “التي هي في حد ذاتها حافظة لمنظومة القيم الأخلاقية والخلقية والاعتقادية”، عقيدة أرضية مادية، فأفقدتها الجانب الروحي من دعوتها الأخروية، ومسخت جوهر الإيمان التي تدعو إلى التآخي والتآلف بين الناس”. وتؤسس العولمة الدين الجديد، دين المال والأعمال والبورنوغرافيا على جذور اعتقادية صهيونية وماسونية عالمية، تدعو إلى وحدة المعتقد الديني، وإلى تطهير الأرض من الإسلام والنصرانية ومن كل الديانات الأخرى، لتبقى المعتقدات الصهيونية وحدها أرضية العولمة ومرجعية النظام العالمي وعقيدة الدنيا والأخرى، ويفي الرب بوعده، ويتحقق الحلم الصهيوني الأكبر، قيادة الدنيا وبلوغ الخلاص المطلق.

تقوم عقيدة العولمة ودعوتها السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية إلى إلغاء كل الأديان والثقافات الأخرى، وتمثل هذه العقيدة دين النخبة ومن تبعها في كل مكان في العالم، وبهذا فهي عقيدة ودين العامة من الناس، لا إله في عقيدة العولمة إلا المال والطريق إليه وكل ما من شأنه يسمح ويسهل جمعه، ليس العمل والإنتاج فقط بل المال ذاته، فالمال يجلب المال في ظل الرأسمالية، ولا تهم طبيعة وسائل تحصيل المال، لأن الغاية تسمح بالوسيلة في ظل نظام لا يحترم مكارم الأخلاق، وفي عقيدة لا تعير الاهتمام للتعاون والتضامن والتكافل والعدالة والمساواة والأخوة وغيرها من الفضائل، وهي ترفعها شعارات لا غير. تتصف عقيدة العولمة بأن السلطة والحكم لديها في يد أصحاب المال والأعمال، ووظيفة العمل جلب المال ولا تتجاوزها، فهي خالية من أي بعد ديني أو أخلاقي أو اجتماعي، ويقتصر العمل على التحرك في أي قطاع من قطاعات المجتمع مثل الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها للحصول على رأس المال المنتج للمال من غير تدين أو تعبد، تخلو عقيدة العولمة من الانتماء للفضائل وللهوية وللأرض وللوطن وللأمة وللقومية، لا رموز ولا شعارات محددة فيها، كما تتحدد الحقوق والواجبات والرتب والمناصب في المجتمع لدى الأفراد حسب مقدار المال الذي يمتلكه الفرد، فالمال هو الذي يصنع السلطة السياسية والاجتماعية وحتى السلطة العسكرية، ليس المهم في عقيدة العولمة الإنتاج بل الأهم هو الاستهلاك، لأن المهم إنتاج المال من المال وليس المهم إنتاج المال من الإنتاج الذي يشترط العمل، دين العولمة المبجل السلوكية الخلاعية “البورنوغرافيا”، وكتابها المقدس، “كل أدب وأثر جنسي فاحش إباحي سقيم. دين العولمة هو الوجه الآخر للأمنيات اليهودية، الإسرائيلية، الصهيونية، وإذا ما شئنا زيادة بيان، فإن أتباع هذا الدين يمكن رؤيتهم في وجوه مثل “جورج سوروس”، أو “بيل كيتس”، وسواهم من عمالقة المال والاتصالات، وهو دين لا يعرف الرحمة، ولا يريد لأتباعه ومعتنقيه أن يعرفوها أبدا”. تتبنى عقيدة العولمة عددا من المبادئ والقيم التي قامت عليها الحداثة الغربية والحضارة الحديثة، تتضمنها مواثيق ودساتير المنظمات العالمية وأنظمة الدول المعاصرة المتقدمة والمتخلفة على السواء وينادي بها النظام العالمي، لكنها تبقى مجرد شعارات وأسود على أبيض، لم تتحقق في الواقع بل الممارسات في الواقع مناهضة لها تماما وتنتهكها يوميا، هو ما يعكس الأزمة الأخلاقية التي تتخبط فيها العولمة ودينها، بحيث يتناقض لديها الخطاب مع السلوك والممارسة، ويلخص صاحب كتاب “العولمة والقيم” طبيعة دين العولمة ومعتقدها في قوله: “… إنّه اقتصاد بعيد كل البعد عن الله جلاّ جلاله من وجهة نظرنا عربا ومسلمين، ومن وجهة نظر إنسانية، ولا ننس هاهنا أن دين الله عالمي النزعة، فقواعد دين العولمة هي: القوي يسحق الضعيف، الفجور يلغي الأخلاق، الإلحاد يزيل الإيمان، الربا يحرر التجارة، الاستهلاك يحذف الادخار، الإنتاج مقدم على الإبداع، المادة أغلى من الروح، الأديان كلها انتهى زمانها، القوميات كلها ولّت إلى غير رجعة، الحدود الوطنية يجب أن تُزال. وهذه القواعد لا تستقيم بكل المعايير مع أي دين من الأديان السماوية أو الأرضية، لأنها لا تضمن للإنسان الراحة في الدنيا ولا في الآخرة، ولا تجعله مطمئنا بأدنى قدر من الاطمئنان، لا بل إن هذا الدين المعولم الذي أخذ بين كل الناس ينقسم إلى دينين في حد ذاته: دين النخبة التي تملك وتحكم بقوتها وسلطتها. دين العامة التي تعمل تحت يد تلك النخبة المالكة الحاكمة“.

إن القيم التي تؤمن بها العولمة في السياسة والاقتصاد والدين والحياة عامة والسائدة لدى الشعوب في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوربا الغربية وفي كندا، المؤمن بها يتمتع بالقابلية للتحضر والقدرة على مسايرة التقدم الذي يعرفه العالم المعاصر، أما الكافر بها فعقليته بعيدة عن التحضر وهو عاجز تماما عن مسايرة الركب الحضاري المعاصر، من دون النظر إلى التنوع الثقافي والديني، ومثال ذلك شعوب العالم العربي والإسلامي التي تعاني الغزو الفكري والثقافي والمسخ والانحلال الخلقي والاضطهاد الديني في بلدانها وفي خارج بلدانها، حيث اقترن اسم الإسلام واسم المسلم بالطرف الديني والتعصب المذهبي وبالجريمة وبالإرهاب وبالجهل وبالتخلف وبالرجعية في التفكير وبسائر ما ينكره الغرب ولا يتماشى مع قيمه ومعتقداته التي تنطوي عليها عقيدة العولمة ودينها، وتمّ ذكرها وتحديدها من قبل، الأمر الذي جعل ردّة الفعل المعارضة لنظرة الآخر إلى الإسلام والمسلمين قويّة وعنيفة من بعض الجهات في العالم الإسلامي الرسمية وغير الرسمية، وزادت في تفاقم الأوضاع وسوء العلاقة بين الغرب والولايات المتحدة الأمريكية وبين العالم العربي والإسلامي، وغذّت هذا الوضع السيئ ممارسات الدول الغربية ودولة إسرائيل السياسية والعسكرية في حق الشعوب الإسلامية، في فلسطين وفي العراق وفي أفغانستان وفي غيرها، تنامى الحقد وتعاظمت مشاعر كراهية المسلمين لدول الغرب وأمريكا وإسرائيل أُضيفت إلى الحقد التاريخي الدفين بسبب الاستعمار الحديث وما فعله من إجرام وحشي في الشعوب الإسلامية، هذه الحالة قابلتها وتقابلها القوى الغربية بالمثل مسخرة كل ما تملك من قوة مالية واقتصادية وتقنية عسكرية وحربية لقهر المسلمين والتشكيك في ثقافتهم وعقائدهم وربطها بالإرهاب الذي ينبغي استئصاله من الجذور بقطع دابر الإسلام والثقافة الإسلامية وفتح الباب لعقيدة العولمة ودينها، من الأساليب المتبعة من طرف دعاة العولمة إثارة البلبلات والقلائل بين المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون معا العالم العربي والإسلامي في بلدان أخرى، على أنّ المسحيين يعيشون الاضطهاد الديني، وجاءت هذه الصيحات في تقارير من جهات رسمية عليا سياسية ودينية ولتكن مؤسسة الفاتيكان أعلى هيئة دينية نصرانية في العالم، “إنه من المستغرب أن يدافع الغرب عن الدين خارج أرضه، بينما يمارس هذا الدين داخل تلك أرض ولا يحافظ عليه، بل عزله في الكنائس والصوامع لمن غب أو أحب، أما الحياة العامة فلا شأن للدين بها، ولذا فالدين بالنسبة لكثير من الغربيين ليس إلا مسألة ثانوية لا يلجأ إليها إلا العجزة وكبار السن والمتقاعدون، أما غيرهم فلا شأن لهم بالدين”. إنّ المنظمات الدينية النصرانية والحركة الصهيونية وحتى الأنظمة والهيئات السياسية في الغرب تدعو وتُحرض على اضطهاد المسلمين لا لسبب سوى لكونهم يدينون بالإسلام ولم يرضوا بغيره بديلا، وهذا “لا يعني بالضرورة أن كل المنظمات المسحية هي مطية للاستعمار أو لقوى الهيمنة، لكنه يعني أن مبدأ الاستغلال لها هو السائد خاصة إذا تلازم ذلك مع ظواهر الهيمنة التي نجد ملامحها واضحة في الوقت المعاصر، كما لا يعني ذلك رفضنا لحرية الإنسان في اختيار معتقده، بل نحترم تلك الإرادة والرغبة سواء أكنا نعتقد بما يؤمن به أو لا نعتقد، فاحترام حقوق الإنسان يتجاوز الفوارق كافة، لكن ما يمكن التحذير منه هو استغلال الدين لتحقيق أغراض سياسية، خاصة إذا لم تكن هذه الأغراض ذات أهداف نبيلة أو تختبئ تحت ردائها أهداف تتنافى مع الأهداف السامية للدين“.

ترفع العولمة في وجه الديانات والثقافات السائدة في العالم خاصة الديانات السماوية والثقافات التراثية التي مازالت حيّة في وعي وشعور أصحابها وفي ممارساتهم شعارات عدّة ظاهرها حق وصدق ونبل وباطنها مكر وشرّ وخداع، وهذا هو عمق أزمة العولمة الأخلاقية، بحيث لا يتناسب خطابها مع السلوك والممارسة، شعارات عن الحرية وعن الديمقراطية والتعددية السياسية، وعن حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية عامة، وعن نقل وتعميم التكنولوجيا وقيم الحداثة والتحديث من غير تفرقة أو تمييز، وعن حماية البيئة والحد من التسلح ووقف انتشار أسلحة الدمار الشامل، وحفظ كرامة الإنسان وعرضه باحترام جميع حقوقه وعدم تعرضها للانتهاك. لكن الواقع وما يجري فيه من ممارسات يتناقض تماما ما تدعو وتحض عليه هذه الشعارات برمتها، ومن ذلك ما يتعرّض له المسلمون في دينهم وفي حياتهم من سوء وظلم وقهر في البلاد المحتلة وفي غيرها، وما نتج عن ذلك سخط متبادل بين العرب والغرب جذوره تاريخية قديمة ومعاصرة أنبتت العداء المتبادل والمتنامي باستمرار، وهذا أحد المفكرين والمؤرخين الغربيين يصور لنا مشهد العداء الغربي للعرب والمسلمين حتى ولو سجل هذا المشهد على الإسلام إيجابيته وقوته وعظمته، إنه “برنارد لويس” الذي يقول: “الإسلام واحد من أعظم ديانات العالم، ودعوني أكون واضحا حول ما أقصده باعتباري مؤرخا غير مسلم للدين الإسلام، لقد منح الإسلام الراحة والطمأنينة لملايين لا تحصى من الرجال والنساء، فقد أعطى كرامة ومعنى للحياة التي كانت رتيبة، تعيسة وبائسة، كما أنه علم شعوبا من عروق مختلفة أن يعيشوا حياة أخوية، وجعل شعوبا مختلفة المشارب تتعايش جنبا إلى جنب في تسامح معقول، كما أنه ألهم حضارة عظيمة عاش فيها المسلمون وغيرهم معا حياة خلاقة ومفيدة، وهذه الحضارة أغنت العالم بأسره بما حققته من إنجازات”. لكن المؤرخ والمفكر الغربي “برنارد لويس” مافتئ حتى انقلب على رأيه في تحديد نظرته إلى الإسلام، وكأنه لا يريد ترسيخ موقف إيجابي من المسلمين، سيرا على نهج أعداء الإسلام والمسلمين في الغرب الأوربي، فهو “يقرر أنّ الإسلام، وعلى شاكلة غيره من الأديان، عرف فترات نفخ فيها روح الكراهية والعنف في أتباعه، ومن سوء حظنا فإنّ جزء من العالم الإسلامي لا يزال يرزح تحت وطأة هذا الميراث، ومن سوء حظنا أن غالبية – وليس كل- هذه الكراهية والعنف موجّه ضدنا في الغرب. هذه الكراهية تتجاوز أحيانا العداء الموجه ضد مصالح وأفعال وسياسات وحتى بلدان معينة وتصبح رفضا للحضارة الغربية برمتها، ليس فقط بما تجترحه هذه الحضارة بل بما هي، بقيمها ومبادئها التي تمارسها وتحترفها، فهذه المبادئ والقيم تبدو لهم حقا شرا متأصلا”. هذا هو الإسلام وهم أصحابه من منظور الفكر الغربي، المنظور الذي أشغل فتيل العداء بين الإسلام والغرب، وأعطى الحق للغرب للاعتداء على المسلمين في مختلف لأنحاء العالم، لكونهم في مركز ضعف شديد ولكون الغرب في مركز قوة يقود العالم ويسيطر عليه.

2- الحداثة جسر العولمة

إنّ من المبادئ التي تنادي بها العولمة وتأسست عليه الحداثة والرأسمالية والحضارة الحديثة والمعاصرة مبدأ الحرية، وحق طبيعي أساسي للإنسان تنهكه العولمة يوميا سياسيا واقتصاديا وعقائديا وفي كل مجالات الحياة، وتضع القيود المختلفة على شعوب العالم، ولا تسمح لها بممارسة حقوقها المختلفة وفق مبدأ الحرية، “فالحديث عن مبدأ الحرية لا يعني أن هذه الحرية حق شخصي إنساني، بل يعني أنها حق ديني كذلك شرعته كافة الأديان السماوية والوضعية، وجاء الإسلام ليجعل من حرية الإنسان حقيقة مرتبطة بكرامة الإنسان وإنسانيته، حتى ولو تعلق الأمر بالدين ذاته، فقد قال تعالى: ﴿لا إكراه في الدين﴾. وروي أن مجموعة من نصارى نجران وفدو على النبي صلى الله عليه وسلم ودخلوا المسجد وحانت صلاتهم وقاموا يصلون في المسجد فأراد الناس منعهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم “دعوهم”، كما أنّ حرية الإنسان حق اجتماعي، إذ لا يمكن أن يستقر أي مجتمع أو يتقدم إلا بحرية أفراده لأن الحرية تطلق الطاقات الإبداعية لدى الإنسان… إن العالم اليوم يتحدث عن الحرية كحق إنساني يجب أن تسعى له البشرية، لكن العالم لم يعمل لإقرار هذا الحق، فمازال يتغاضى عن كثير من وسائل تقييد الحريات خاصة في المجتمعات المتخلفة أو التي تهيمن عليها نظم الديكتاتورية”. ولا يتسع أفق الحرية في العالم المتقدم ويضيق أكثر في البلدان الإسلامية، وإذا كان أُفقها قد أفلت من القيود في بعض المجتمعات فقد أدى ذلك إلى شيء من التحلل والفوضى والإجرام، نجد من قضى على الحرية بسبب ما فرضه من قيود على الإنسان، والحرية هبة طبيعية وحق متجذر في الإنسان تحترمه كافة الشرائع والنظم الوضعية، وإنما تقوم هذه الشرائع والنظم بتنظيم هذه الحرية حتى لا تتحول إلى فوضى هدامة، بل تستثمرها لخدمة مصالح الإنسان.

من القضايا التي تحاول العولمة أن توظفها لأجل اكتساب تأييد الإنسان في العالم المتقدم والعالم المتخلف على السواء قضية حقوق الإنسان، لكنها تبقى مجرد شعارات يتغنى بها الكثير، فهي منتهكة في البلدان المتقدمة أما في العالم الثالث فهي منتهكة إلى أبعد الحدود، لأن إيديولوجية العولمة وسياستها تفرض تسلط الأقلية الغنية الحاكمة الظالمة على الأغلبية الفقيرة المظلومة المحكومة، ويختلف استمداد حقوق الإنسان في الإسلام عنه في الثقافة الغربية، ويعرض صاحب كتاب “الثقافة والعولمة” هذا الاختلاف في قوله: “إلا أن نقطة الخلاف برزت من مرجعية هذه الحقوق. ففي الوقت الذي عرض الباحثون وجهة نظرهم من أن هذه الحقوق تستمد مشروعيتها من مشروعية الحق ذاته باعتباره سمة لازمة للإنسان، كما تستمد المشروعية من الإرادة الإنسانية إذا اجتمعت إرادة البشر ورغباتهم في احترام هذه الحقوق وصيانتها والمحافظة عليها، فقد ذهب الجانب الإسلامي إلى أن مشروعية هذه الحقوق ليست منحة من أحد، لا من حق الفرد ولا من الإرادة البشرية، وإنما تستمد مشروعيتها من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق الإنسان وأعطاه كافة الحقوق باعتباره المخلوق المكرم لقوله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾. فالإنسان المكرم بذاته من سلطة عليا قررت له الحقوق، ولا يمكن لأي سلطة أخرى أن تبدل أو تغير فيها. ولذا فالرؤية الإسلامية لحقوق الإنسان أكثر ثباتا واستقرارا لأن أي إنسان أو مجموعة من البشر لا يمكن أن يغير هذه الحقوق، أما إذا كانت هذه الحقوق مبنية على إرادة المجموعة البشرية فما الذي يمنع هذه المجموعة أو غيرها أن تلتقي مرة أخرى، وتسلب الحقوق أو بعضها، ألم يكن الرق مشروعا قبل مائة وخمسين عاما بإرادة بشرية؟، ألم تمارس الشعوب القوية سلطتها على الشعوب الضعيفة وتستعبدها، كما حدث في إفريقيا وفي الولايات الجنوبية بأمريكا قبل أن يأتي “أبراهام لنكولن” ويطلق بيانه بتحرير العبيد؟ “. إن تكريم الإسلام للإنسان وتفضيله عن بقية المخلوقات وتحريره من الرق ومن كل ما يسيء إليه ويُنغص عليه حياته محدد في نصوص القرآن الكريم باعتباره المصدر الأول والرئيسي للتشريع الإسلامي، يتضمن القرآن الكريم ما على الإنسان من واجبات وما له من حقوق، ومنها حقوق المرأة التي يتغنى بها الكثير ويتشدقون إليها في الغرب وخارج الغرب، المرأة التي يعاملها الغرب كسلعة حتى ولو بلغت أرقى الرتب والمناصب في المجتمع، فهي بضاعة تباع وتشترى في سوق العمل وفي سوق الليل والبورنوغرافيا، تتعرض للاغتصاب والقهر في البلدان الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية، أما في البلدان المتخلفة فهي تعاني جنينا وطفلة وفتاة وامرأة وطوال حياتها، بعدما كرمها الإسلام ومنحها المساواة اللازمة لها مع أخيها وزوجها وأبيها وشريك حياتها الرجل، هذه المساواة حوّلها الغرب وحوّلتها العولمة إلى صراع وتنافس غير شريف مبتغاه الغلبة والسيطرة لا على السبيل الندية المبنية على التعاون ولكن ليعزل الواحد منهما الآخر، والنتيجة انتشار العنوسة والترمل في صفوف الرجال والنساء على السواء، وتلاشي الرباط المقدس، رباط الزواج، وهو رباط روحي ومعنوي يجمع بين المرأة والرجل لتشكيل أسرة هي النواة الأساسية لبناء مجتمع وحياة اجتماعية ينعم فيها الجميع بالراحة والرفاهية والطمأنينة.

يحلو للكثير ممن يعادون الإسلام ويحكمون عليه من خلال ممارسات فردية معزولة لا تمت صلة به أن ينعتونه بنعوت سيئة، تكشف عن نواياهم المبيتة على الكراهية والحقد، لا لسبب سوى لوقوفه في وجه الظلم والاستعباد وقهر الإنسان للإنسان، ودفاعه عن الحق ومعاداته للشر ونبذه للخلاعة والإفراط في تحصيل للشهوات والملذات على حساب الخلافة الرسالية الإنسانية على الأرض، من هذه النعوت الظلامية والتخلف والرجعية والتطرف، عقائده محدودة تجاوزها الزمن وهي لا تتناسب مع التطور العلمي والتقني والحضاري الذي يعرفه العالم المعاصر، أما شرائعه فهي ثابتة جامدة أما الحياة فسمتها التغير والتجدد المستمر، وما هو متغير لا ينبني على ما هو محدود وثابت، هذا المنظور استند إلى الفكر الغربي الذي عزل الدين بعد الانقلاب عليه قبيل النهضة الأوربية لأنه شكّل عائقا أم نهضة أوربا، ويريد هذا الاعتقاد أن يضع الإسلام في الموضع نفسه، لكن شتّان بين الإسلام والنصرانية، وهو الاعتقاد ذاته الذي يتهم الإسلام بمسؤوليته عن التخلف والانحطاط في العالم العربي والإسلامي المعاصر، ويرى المسلمين في مرحلة ما قبل الإصلاح الديني، وهو يعلم يقينا بأن الإسلام ليس هو العقائد النصرانية التي شوهت قيم رسالة المسيح عليه السلام، ويعلم يقينا أن الإسلام دين حق وعلم وحضارة ورقي وازدهار، ليس دين جمود وتحجر وانحطاط. إذا كان الإسلام ينبني على التمسك بالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فهو لم يمنع العلماء من الاجتهاد فيما لا نص فيه من كلام الله أو من كلام نبيه، وحتى ولو أُغلق باب الاجتهاد في مراحل من التاريخ الإسلامي فذلك لا يعني أبدا أن باب الاجتهاد موصد في الشريعة الإسلامية، فالشريعة فيها من الثوابت ما لا يقبل الاجتهاد وفيها ما هو متغير لا يقبل الثبات فيه الاجتهاد ضروري، وقد اجتهد النبي والصحابة والتابعون والعلماء الأئمة، مما يؤكد أن الاجتهاد مطلوب، ويدل على مرونة الإسلام وشمولية رسالته للزمان والمكان بأبدية، وما “وصلت إليه الأمة من التخلف وعجز في فهم السريعة الإسلامية وتطبيقها إنما مرجعه إلى عجز المسلمين أنفسهم وتخلفهم وليس عيبا في الشريعة ذاتها، بل هي باقية “مادامت الأرض أرضا والسماء سماء” كما عبر بذلك الفقهاء. فلا مجال لتحقيق مواكبة العصر وتلبية احتياجاته إلا من خلال فتح باب الاجتهاد، فمنذ أُغلق باب الاجتهاد وفُتح باب التقليد والأمة المسلمة في تردّ وتخلف واتكالية على ما قدمه السابقون، ولذا فإن فتح باب الاجتهاد ضرورة لازمة لأهل الاختصاص من العلماء، وفي غير تردد وعجز، أو تساهل وتخبط، فالاجتهاد حركة علمية يجب أن تنشط وأن يتصدر لها أهل العلم والاختصاص والاجتهاد“.

3- بين العولمة والأمركة والإسلام

يوجد عدد كبير من المفكرين والساسة والقادة العسكريين في الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية الذين يظهرون العداء للإسلام ولأهله، وهذا مستشار الأمريكي “جونسون” لشؤون الشرق الأوسط يقول: “يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية “الغربية”. لقد كان الصراع محترما بين الإسلام والمسيحية منذ القرون الوسطى.. إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي، فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للشرق الإسلامي، بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي… ويقول “أشعيا بومان” في مقال نشرته مجلة العالم الإسلامي التبشيرية: “إن شيئا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام، لهذا الخوف أسباب، منها أن الإسلام منذ ظهر في مكة لم يضعف عدديا بل إن أتباعه يزدادون باستمرار… وإذا كانت هذه الرؤية تمثل موقفا لبعض الساسة الغربيين فإن انتشار ما يسمى بظاهرة الأصولية الإسلامية في السنوات الأخيرة دفع بهؤلاء الساسة إلى الكشف عن موقف عدائي، يلبس ثوب التخلف من هذه الظاهرة باعتبارها تشكل مصدر قلق للعالم الغربي وحضارته المادية، فقد أصدر الكاتب الفرنسي “جان كلود بارو”، الذي يعمل رئيسا لديوان الهجرة الفرنسي، كتابا مليئا بالمغالطات والافتراءات عن الإسلام، عدا عن ابتعاد هذا الكاتب عن أي موضوعية ومنهجية في كتابه، إذ استخدم لغة هي أقرب إلى الشتم والتجريح الذي ينم عن روح عدائية.. ما أعلنه “ويلي كلاس”، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي.. والذي وصف الإسلام بأنه العدو الأول بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وقد أثارت مقولته هذه ضجة واسعة حيث رد وزير الخارجية الألماني “كلاوس كينكل” بقوله: “لا يجوز أن نرتكب خطأ بتصوير الإسلام كعدو”، في محاولة للتخفيف من تلك التصريحات“.

والموقف الغربي لا يبتعد عن الموقف الأمريكي بل يقف معه ويسانده، مستندا إلى الصراع الغربي العربي الإسلامي التاريخي الموروث من الحروب الصليبية وإلى الصراع التحرري أيام الاستعمار الغربي الحديث، ولما لا إلى الصراع العربي الإسلامي اليهودي الصهيوني مادام الغرب الأوروبي هو الذي صنع دولة إسرائيل في قلب الأمة العربية والإسلامي وبمباركة الولايات المتحدة الأمريكية، ويستند إلى ممارسات يقوم بها أفراد وتقوم بها جماعات وهيئات ومنظمات رسمية وغير رسمية وحكومية وغير حكومية، على سبيل الدفاع عن النفس أو على سبيل ردود الفعل المعاكسة تجاه الظلم والعدوان، لأن المسلمين في العالم اليوم لا يهاجمون الغرب أو غيره لأنهم في مركز ضعف شديد لا يسمح لهم بفرض الهيمنة التي تتمتع بها الولايات المتحدة ويتمتع بها الغرب الأوربي، ويصور لنا “نعوم تشومسكي” طبيعة الهيمنة الأمريكية على العالم وغزوها له بقوله: “يشرح الدارسون المعتدلون أن كثيرا من أشكال الإصلاح تزيد من عدم الاستقرار، وإن كانت أساسية ومرغوبا فيها على المدى البعيد، إذ لا بديل عن الأمن لمن هم تحت الحصار. إن تعبير الناس، استقرار… الخ، تحمل هنا معناها المعتاد في الثقافة السياسية السائدة. ولذا يجب أن تتضمن بلاغة الثقافة السياسية الرسمية مزيدا من المصطلحات، فعلى المثقفين اللامعين أن يتقنوا استخدام تعبير تهديد أمني الذي يشير إلى كل ما يمكن أن يعارض حقوق المستثمرين الأمريكيين. أما النفعية تعني لنا “أن نفعل ما نريد”، أما معناها للآخرين فهو “أن يفعلوا ما نريد”. ومثال ذلك وقوف الولايات المتحدة الأمريكية في وجه أية تسوية للصراع العربي الإسرائيلي، وحمايتها لدولة تنتهك حقوق الإنسان والشرعية الدولية وهي مارقة وفوق القانون، تضيف هذا إلى رصيدها في الاعتداء والغزو، ويرى “نعوم تشومسكي” أن السياسة الأمريكية تبحث دائما عن عدو، حتى ولو كان وهميا، أو عدوا لا تأثير له، أو ذا تأثير محدود على الولايات المتحدة مباشرة، مثل الأصولية الإسلامية وغيرها من الظواهر التي نفخ فيها الإعلام الغربي لتبرير تصرفات سياسته بعد انتهاء الحرب الباردة، فيقول: ” لا مبرر وجيها لافتراض أن اعمل العظيم في الإخضاع والفتح سيتبدل على أي نحو أساسي بانقضاء مرحلة الحرب الباردة من صراع الشمال والجنوب، لكن، وكما هي الحال دائما يجب تكييف السياسات الثابتة مع الظروف المتغيرة، كما حدث عند إرساء نظام عالمي جديد في 1945، وأيضا عندما أعلن ريتشارد نيكسون السياسة الاقتصادية الجديدة عام 1971، عكست كلتا الحالتين تغييرا حقيقيا في توزع القوى، أثمر التدهور السوفييتي الذي تسارع منذ السبعينات وضعا جديدا أيضا من نواح عدة مع استمرار الميول الرئيسية على حالها، بما في ذلك الاضطرابات ضمن تحالف الأغنياء وعولمة الإنتاج والمال وتهميش معظم السكان في المجتمعات، المهيمنة على العالم“.

إذا كان الغرب الأوربي يرمي الإسلام والمسلمين بالتطرف الديني والمذهبي، فإن التطرف ظاهرة اجتماعية تخف وتشتد تبعا لضعف وشدة درجة تأثير عوامل الاستقرار من تسامح وتعاون وتطور وازدهار، فنموذج الدولة الإسلامية التي عرفها تاريخ الإنسانية في الأندلس احتضنت تنوعا ثقافيا ودينيا هائلا عاش أصحابه من مسلمين ويهود ومسيحيين وغيرهم في وفاق ووئام من غير تطرف، حتى أن بعض اليهود وصلوا إلى وزراء ومستشارين، ومنهم الفيلسوف اليهودي “موسى بن ميمون” الذي كان طبيب القصر وأخذ عن “ابن رشد” الفلسفة وصار من كبار فلاسفة عصره، التقت فيه عدة ثقافات من غير تعارض، الثقافي اليهودية والثقافية اليونانية والثقافة الإسلامية. أما التطرف المعاصر فهو تطرف من الجانبين جانب المضطهد “بفتح الهاء” وجانب المضطهد “بكسر الهاء”، فالأول ديني إتني في مركز ضعف ودفاعي، أما الثاني فهو إيديولوجي رسمي هجومي وفي مركز قوة ومنظم، أفتك بالإنسان من الأول نظرا للوسائل والأساليب التي يستخدمها، ولأنه “يقتل بدون سلاح وينشر العداء بدون قنابل، ويرسخ مفهوم التفرقة والطبقية الإنسانية بدون تفجير، وهذا النوع يمكننا أ، ن نسميه تطرف القمة، وهو يغذي تكرف القاع ويوفر له الأسباب والبراهين على “صدق” تطرفه. فحين يقرأ الإنسان مقالة أو يستمع لرجل مثل د. صمويل هنتنجتون، أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، لا يتردد كثيرا ليستنتج أن لأمثال هذه المقالات والدعوات إنما هي تطرف يدعو للتطرف، فعلى الرغم من المكانة العلمية للدكتور هنتنجتون إلا أنه يأبى إلا طريق الاستفزاز والتحدي للآخر، فكلنا يعلم كم أثارت مقالته الشهيرة “صدام الحضارات” التي نشرها عام 1993 ميلادي في مجلة “الشؤون الخارجية”، وما لقيت تلك المقالة في معالجات ومناقشات وردود حيث أجمل خلاصة فكره، العالم مقبل على صراع حضاري جديد بعد سقوط الشيوعية، ويتلخص هذا الصراع بين الشرق ممثلا في الحضارة الإسلامية والكونفوشيوسية الصينية مقابل الحضارة الغربية. وهو يرى أنّ الحضارة الغربية حضارة عالمية أرقى من غيرها، ولذا فهي في حالة خلاف مع الحضارات الأخرى خاصة الحضارتين الإسلامية والصينية”. إنه تطرف النخبة من العلماء والجامعيين في الولايات المتحدة الأمريكية وفي الغرب الأوربي الذي لا يفقه في ظاهرة التطرف التاريخي إلا الحروب الصليبية وفي الحاضر إلا التفجيرات في نيويورك وفي غيرها حيث تُضرب المصالح أمريكا وحلفائها، المصالح التي تغذي تطرف النخبة فتقوم النخبة من جهتها بتغذية التطرف المضاد، ويتحول المقال إلى كتاب “صدام الحضارات وصياغة النظام العالمي” لهنتنجتون يعمق فيه التطرف إذ يرى بأنه ليس صحيحا القول بأن الإسلام ليس خطرا على الغرب وأن المتطرفين الإسلاميين هم فقط الخطر، فتاريخ الإسلام خلال أربعة عشر قرنا، يؤكد بأنه خطر على أية حضارة واجهها، خاصة المسيحية، فما دام الإسلام سيبقى إسلاميا، وليس هناك شك في ذلك، وما دام الغرب سيبقى غربا، سيظل الصراع قائما بينهما كما ظل قائما لأربعة عشر قرنا. إن الصراع اليوم ضارب في القدم، وإن الخطر ليس في المتطرفين الإسلاميين وإنما في الإسلام نفسه إن المسلمين مشغولون بالعنف وميالون لاعتباره حلا للخلافات أكثر من غيرهم، ولذلك فإنهم يجدون صعوبة، ليس فقط في التعايش مع غيرهم وإنما مع أنفسهم. ما تفعله دعوة كهذه هو تغطية ممارسة الغرب للعنف المتزايد ضد الإسلام وقهر أصحابه، وتهييج مشاعر الكراهية والحقد والبغضاء لدى عموم المسلمين تجاه الغرب وحلفائه، خاصة عند ذوي المعرفة المحدودة بالإسلام، ولا يهمهم جانب في موقف الآخر المتميز بالتوازن والحياد والموضوعية، وتمثله أراء “نعوم تشومسكي” خير تمثيل، الجانب الذي يقف في وجه التطرف الغربي الأمريكي الصهيوني الذي يبني حضارته على شكلين متناقضين في الإنسان، شكل حضاري متعالي يسود العالم ويقوده وشكل متخلف ومتوحش ووضيع أسلوبه في الحياة العنف ولا يمكن البتة التكيف مع غيره، إنها دعوة تتغذى من عقائد الحركة الصهيونية العالمية ومن إيديولوجية النزعة المركزية المعبرة عن رغبة الآخر في الهيمنة وحب التسلط وقهر الآخرين، وهي دعوة العولمة والنظام العالمي، دعوة تفرضها قوى الهيمنة بالشرعية الدولية وحق الفيتو وبالقوة العسكرية قوة جيوش الحلف الأطلسي، فأي تطرف حقيق بالتصدي تطرف العولمة حيث الاستكبار والاستعلاء والغطرسة واستغلال الآخر وقهره، أم تطرف الإسلام الذي يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يشتت، يزرع روح الإخاء والتسامح والتعاون بين الناس جميعا، والحكمة من التنوع القبلي وغيره في العالم هو التعارف لا التناحر والاقتتال، وكل نفس بشرية مكرمة معززة، لا بالمال أو السلطان بل بالتقوى والعمل الصالح. قال تعالى في سورة الحجرات: ﴿يا أيّها الناس إناّ خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير﴾.

إن الصراع العربي الإسلامي الغربي الصهيوني المعولم تتناطح فيه محددات دينية وثقافية، يهودية ونصرانية وإسلامية، لقد العولمة ظهرت “مذهبا اقتصاديا “جامعا بين تفريط النصرانية الغربية والتشدد اليهودي الانغلاقي وهما مذهبان طبعا حياة الغربي بطابعهما وصيّرا صورة كل شيء فيه مصورا بصبغة حياتية خاصة به. وهو مذهب اقتصادي لا يمت بأي صلة إلى قيم الأديان السماوية “في أكثر أجزائه إذا لم نرد المبالغة في التعميم”، للاختلاف الظاهر بين قيمه وبين قيم الأديان… وقد وقف فقهاء المسلمين من العولمة موقف الرفض فيقول أحدهم: “إن الهدف الأساسي من العولمة تشكيك أمم الحضارات العريقة في حضارتها، ونفسها، وعقائدها، وتضريب إنسانها في أفكاره ومناهج تعليمه… الأنظمة الخائبة التي يتعين على البلدان الإسلامية تجنبها إذا أرادت أن تحقق أهدافها الاجتماعية والاقتصادية… إن العولمة أو الكوكبة، هي مفهوم مضاد كل المضادة للإسلام والعروبة. أما تضادها مع الإسلام فمن حيث الناحية الربوية والاحتكارية التي تؤدي إلى الربح الفاحش، وأما تضادها مع العروبة فمن حيث أنها تلغي الحدود وقيم المجتمعات العربية النابعة من الإسلام لتحل محلها قيم الغرب التي ما أنزل الله بها من سلطان، وهي قيم الفاحشة التي تشيع في المؤمنين… فالعولمة في هديرها وضجيجها وضوضائها، هي قنبلة العصر الصوتية التي أصمّت الآذان، وخلخلت مراكز توازن الإنسان واتزانه، فصار الفرد المسلوب الإرادة يبحث عن قيمه وأخلاقه وذاتيته التي غدا من خلال عولمة كل ذلك إنسانا بلا جدوى.. إنسانا بلا قيم.. إنسانا مستهلكا- بكسر للام- ومستهلكا- بفتح اللام“.

يعتقد البعض في العالم العربي والإسلامي أن تنمية شعوب العالم الثالث والشعوب العربية والإسلامية في البلدان الأطراف أمر مباح وممكن في ظل العولمة المتوحشة والشرسة، على الرغم من ارتباط مفهوم التنمية ومفهوم العمل ومفهوم الاقتصاد بالدين ومكارم الأخلاق في الإسلام، بينما تقوم تلك المفاهيم على إبعاد كل ما هو مقدس أخلاقي أوديني، ففي ظل “العولمة والتي التحديات التي تزاولها الشركات العملاقة الأمريكية والأوربية ينبغي أن تتوافر البحوث العلمية التي تسير على هداها عملية التنمية، وإلا فالويل كل الويل لمن يحاول مجابهة هذه الشركات الغربية التي تجهض محولات الشعوب النامية إذا سولت لها نفسها الاستغناء عنها أو دخلت بتنميتها محاولات المنافسة، وليست كارثة ماليزيا وانهيار الصناعة فيها ببعيد، إذ يقول رئيس وزراء ماليزيا الدكتور “محمد مهاتير”:.. واكتشفت أن مفهوم العولمة ليس كما قصد بها كنظام يفترض فيه إثراء العالم بما في ذلك البلدان النامية، فعلى النقيض من ذلك أدى النظام المالي العالمي للعولمة إلى إفلاسنا تقريبا، وحولنا إلى معوزين وشحاذين وأخضعنا إلى توجيه القوى الأجنبية التي يختلف برنامجها عن برنامجنا وهي بالتأكيد ليس برنامجا إسلاميا… فنحن لسنا قادرين على مواجهة العصر الصناعي، كما أننا أقل من ذلك على مواجهة تحديات عصر المعلومات. وما دمنا نعاني من التخلف في المجال التكنولوجي ومن الفقر في المجال الاقتصادي فإننا سوف ننزلق أكثر فأكثر نحو الاعتماد على الآخرين للحصول على احتياجاتنا وسنتعرض للمتنمرين والمتحرشين وسننقسم فيما بيننا ولن يكون لنا دور في حكم الأمة العالمية، وهذا أمر مؤكد”. ولم تكن دولة ماليزيا وحدها كدولة إسلامية التي تأثرت بالعولمة في مجال التنمية الاقتصادية بل كل دول العالم السائر في طريق النمو ودول العالم العربي والإسلامي، وتبيّن أن برامج التنمية في العالم الثالث برمته فاشلة لأنها “تمت على أسس من التطورات النظرية أو نتيجة لرغبات ذاتية للقائمين على السلطة في العديد من الدول النامية، ولم تؤخذ بعين الاعتبار الاحتياجات الحقيقية للبشر، ولذلك فإن أي تجربة لا تراعى فيها حقائق الأوضاع الوطنية واحتياجات سكان البلاد لابد أن يكون مآلها الفشل الذريع”. وقد تذرع البعض في العالم الثالث وفي الغرب برد فشل التنمية إلى أسباب أخرى غير العولمة مثل النمو السكاني المتزايد، إن كل من التنمية والعولمة “تُدار من خلا السياسات الاقتصادية والتفاعلات المالية والضغوط السياسية لمجموعة متنوعة من الفاعلين: وهؤلاء الفاعلون يضمون دولا وشركات ومؤسسات دولية، أما الدول فهي الدول المتقدمة التي وصل فيها التطور التكنولوجي إلى ذراه، وفي مقدمتها بطبيعة الحال الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وألمانيا والاتحاد الأوروبي… وأما الشكات فهي الشركات دولية النشاط التي برزت قوتها الاقتصادية الكاسحة حوالي الستينات ووصلت الآن إلى السيطرة على نسبة عالية من الدخل القومي العالمي، وهناك أخيرا المؤسسات الدولية الكبرى وأبرزها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولية وأخيرا أحدث هذه المؤسسات وهي منظمة التجارة الدولية. ويمكن القول بأن هذه المنظمة الأخيرة التي تأسست حديثا وكانت نتاج محادثات “الجات” التي استمرت عقودا، ستلعب الدور الحاسم في مجال العولمة الاقتصادية في المستقبل بحكم سياستها المعلنة وهي حرية التجارة، وفي ضوء الآليات القانونية الملزمة للدول التي وقعت على معاهدتها والتي تتضمن جزاءات اقتصادية رادعة لمن يخالف قواعدها“.

من المفاهيم التي تسعى العولمة جاهدة إلى تحريف دلالتها مفهوم الهوية، فمفهوم الهوية من منظور العولمة لا يتعدى كونها التشبع بروح الثقافة الغربية وبقيم الحداثة والتحديث وتجسيد ذلك في الفكر والوجدان والممارسة، بينما الهوية في الإسلام “هي الوجود الخاص المتميز بالتوحيد المطلق إلى الله جلّ شأنه حسب رأي الذوق والعرفان… فإن الهوية تعني الذاتية أو الشخصية ذات المميزات المحددة التي تطبع شخصية الفرد والجماعة والأمة بطابع معين في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية… والهوية كما تكون للفرد تكون للجماعة أيضا… ومجموع الهويات الفردية والمركبة يساوي هوية الجماعة “الهوية العليا” إن الهوية العليا تكون نتيجة فعل إنساني وقد تكون مُشكّلة عفويا، وقد تتدخل في تشكيلها الإرادة الإلهية بإرساله الرسل الذين يدعون إلى الدين فتصبح العقيدة “الهوية” للمؤمنين بها. وقد حصر المنظرون عوامل الهوية في: الجنس، الدين، التاريخ، الجغرافيا “المكان”، التكوين النفسي، الثقافي، الإرادة، الاقتصاد، واللغة”. إنّ مخاطر العولمة على الهوية الإسلامية كثيرة، وتأثيرها السلبي يزداد باستمرار، وذلك بتشويه قيم الإسلام السمحة وحقائقه الناصعة – مثل الحرية والحرية وحقوق الإنسان والتنمية والديمقراطية والهوية والعمل والمجتمع والمجتمع المدني والدولة والأمة والوطن والأرض والأخلاق والقيم والماضي والحاضر والمستقبل – باعتبار الإسلام وعقائده يشكل خطرا على الغرب وعلى حضارته وثقافته، لكونها عقائد لا تقبل الحوار السلمي وأسلوبها الوحيد هو العنف والإرهاب، وبتشويه معالم الإيمان والمعتقد وتحريف المعاني السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية وغيرها، وتفرض مصطلح الإرهاب وتلصقه بالإسلام والمسلمين في كل مكان، “وهذه العولمة تعلن أنها عالمية تصدر مفاهيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتحرير المرأة وإصلاح المناهج التعليمية وتسلك هذه العولمة مع ذلك المسلك الهيمنة، فأخذت تدس أنفها في كل دولة، ومدينة وتبسط نفوذها في شؤون السياسة والاقتصاد والتربية والإعلام والحرب والثقافة والرياضة. وهي تتسرب بكلمتها تلك تحت شعار “العالم الذي أصبح قرية واحدة” عن طريق الخبر والجندي والكومبيوتر والقروض والمؤتمرات ومراكز البحوث. صراع بين حضارتين حضارة العولمة وحضارة الإسلام ولن تنتهي هذه المعركة في تصور أهل الغرب إلا بإبادة الإسلام والقضاء على الهوية الإسلامية“.

خاتمة

إن الطابع المادي العلماني لثقافة العولمة طبع الفكر والوجدان والسلوك الإنساني بطابعه، وأدى إلى انحراف مدنية العولمة عن قيم ومقولات الحداثة التي بُنيت عليها الحضارة الحديثة وتطورت وازدهرت، وتعمل العولمة على تعميم التوجه العلماني المادي ليصبح توجه جميع الثقافات وكل الديانات في العالم، والإسلام بمقتضى العولمة مطالب بتغيير قيمه وتحوير مبادئه وأسسه، فيقبل بالمادية العلمانية التي تقوم على الشك والإلحاد، وهو أمر مستحيل لأن هوية الإسلام في مركبه الروحي والمادي معا، وفي قيمه المتوازنة الجامعة بين مطالب الروح ومطالب البدن، بين العقل والوحي، بين الفرد والأمة، بين الاقتصاد والأخلاق، بين الدنيا والآخرة، بين الله والإنسان، هذا التوازن لا تُقره العولمة ولا الشرائع والنظم الأخرى التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل، فالإسلام سمح متوازن سامي في عقائده وشعائره ومعاملاته وأخلاقه، جاءت رسالته “جامعة شاملة، وجاء ما لا يختلف باختلاف الزمان والمكان بها مثل العقائد والعبادات والأحكام القطعية واضحة ومفصلة تفصيلا تاما بالآيات العديدة الشارحة وبالسنة النبوية الصحيحة وليس فيه اجتهاد ولا تغيير. أما ما يختلف باختلاف الزمان والمكان فقد جاء يحتاج لاجتهاد العلماء حسب عصر… وأمة الإسلام واحدة بمعنى أنها واحدة في دينها وثقافتها واقتصادها وقواعدها ونظمها الاجتماعية وواحدة في مفاهيمها السياسية وغيرها من النواحي الحضارية”. ويكفي الإسلام يقينا مطلقا، وتكريما عظيما، وشرفا عاليا، وكمالا ليس محدودا ولا منقوصا، وديمومة أبدية، وشمولية تامة، وكونية صالحة، وخيرا لا ينضب، وعقيدة الفطرة السليمة والمحجّة البيضاء، وخاتم الرسالات، وسبيل الخلاص في الدنيا والآخرة، وأنّه دين الله الذي اختاره الله وارتضاه لعباده، ونزّله على نبيه ورسوله وحفظه من كل مكروه.

الهوامش:

1- سعيد حارب: الثقافة والعولمة، ص20- 21.

2- أسعد السحمراني: ويلات العولمة على الدين واللغة والثقافات، ص 104- 105.

3- نقلا عن حيدر حميد الدهوي، العولمة والقيم، ص 53- 54.

4- المرجع السابق: ص 55.

5- المرجع السابق: ص 58- 59.

6- سعيد حارب: الثقافة والعولمة، ص 55- 56.

7- المرجع السابق: ص 57- 58.

8- نقلا عن سعيد حارب، الثقافة والعولمة، ص 59.

9- نقلا عن سعيد حارب، الثقافة والعولمة، ص60.

10- سعيد حارب: الثقافة والعولمة، ص 39- 40.

11- المرجع السابق: ص 32- 33.

12- المرجع السابق: ص 101.

13- المرجع السابق: ص 116- 117.

14- نقلا عن سعيد حارب، الثقافة والعولمة، ص 128- 129.

15- نقلا عن سعيد حارب، ص 130- 131.

16- نقلا عن سعيد حارب، الثقافة والعولمة، ص 72.

17- سورة الحجرات: الآية 13.

18- حيدر حميد الدهوي، العولمة والقيم، ص 65- 66- 67- 68- 71.

19- كمال الدين عبد الغني مرسي: الخروج من فخ العولمة، ص 52.

20- عامر دياب التميمي: علاجات التنمية، مجلة العربي، عدد 482، يناير سنة 1999. نقلا عن كمال الدين عبد الغني مرسي، الخروج من فخ العولمة، ص 53- 54.

21- السيد يسين: العولمة والطريق الثالث، ص 632.

22- بلقاسم محمد الغالي: العولمة تداعياتها والبديل الإسلامي، ص 99- 100- 101.

23- محمد الجوهرى حمد الجوهرى: العولمة والثقافة الإسلامية، ص 117.

 

أضافة تعليق