مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2019/05/20 06:51
الصيام وحكمته

إعداد/ د.محمد نعمان البعداني

بسم الله الرحمن الرحيم
الصيام وحكمته
الحمد لله رب العالمين، الهادي إلى سواء السبيل، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[آل عمران:102]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾[النساء:1]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾[الأحزاب:70-71].
أما بعد فقد أنعم الله علينا بنعمة الإسلام، ومما فرضه الله علينا في هذه الشريعة الغراء صوم رمضان، قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة الآية:183]، وقد فرض الله علينا أن نتعلم من هذه الشريعة المباركة، ونعرف من أحكامها، ما يجعلنا نعبده سبحانه وتعالى على بصيرة وعلم، وقد جعل سبحانه وتعالى مآل من علم ذلك، وعمل به الخلود في دار السلام، وجعل مصير من خالفه وعصاه دار الانتقام، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً إليه ومبشراً ونذيرا، فبلغ رسالة الله أتم البلاغ حتى توفاه الله إليه، وقد ترك فينا كتاب الله وسنته، وحثنا على التمسك والعمل بهما؛ لأنهما النبع الصافي، والمنهل العذب الذي نتلقى منهما تعاليم الشريعة الغراء، فأحببت أن أضع بين يدي القارئ الكريم نبذة مختصرة عن الصوم وحكمته، ضمنتها في خمسة مباحث على النحو التالي:
المبحث الأول: تعريف الصوم
المبحث الثاني: أنواع الصوم
المبحث الثالث: أركان الصوم
المبحث الرابع: شروط الصوم
المبحث الخامس: حكمة الصوم
 

 
المبحث الأول: تعريف الصوم
 الصوم في اللغة: يطلق على: الركود، والامتناع، والترك، ومطلق الإمساك، سواء كان ذلك عن شهوة البطن، أو الفرج، أو الكلام، أو السير، أو غير ذلك، ويطلق على الصبر، ولهذا يقال عن رمضان إنه شهر الصبر([1]).
قال ابن فارس- رحمه الله تعالى -: « صوم: الصاد والواو والميم أصل يدل على إمساك، وركود في مكان، من ذلك صوم الصائم هو إمساكه عن مطعمه، ومشربه، وسائر ما منعه»([2]).
وفي الاصطلاح: الإمساك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، أو هو إمساك مخصوص عن شيء مخصوص من شخص مخصوص في وقت مخصوص بشروط مخصوصة.
قال الإمام الشربيني: «إمساك عن المفطر على وجه مخصوص»([3]).
وقال الإمام البهوتي: «إمساك بنية عن أشياء مخصوصة، في زمن معين، من شخص مخصوص»([4]).
وقال ابن الأمير: «إمساك مخصوص، وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع وغيرها مما ورد به الشرع، في النهار على الوجه المشروع، ويتبع ذاك الإمساك عن اللغو([5]) والرفث([6]) وغيرهما من الكلام المحرم والمكروه؛ لورود الأحاديث بالنهي عنها في الصوم زيادة على غيره، في وقت مخصوص، بشروط مخصوصة»([7]).

 
المبحث الثاني: أنواع الصوم
ينقسم الصوم إلى قسمين: مأمور به، ومنهي عنه، وكل واحد منهما ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: الصوم المأمور به، وينقسم إلى قسمين: واجب، ومندوب.
القسم الأول: الصوم الواجب، وهو على نوعين:
النوع الأول: ما أوجبه الشرع على المكلف، وهو صيام شهر رمضان المبارك، وصيام الكفارات.
النوع الثاني: ما أوجبه المكلف على نفسه بدون إيجاب من الشرع، وهو صيام النذور.
أما النوع الأول الذي أوجبه الشرع على المكلف فنوعين:
الأول: ما يجب للزمان نفسه وهو صوم رمضان بعينه، والثاني: ما يجب لعلة وهو صيام الكفارات
الفرع الأول: صوم شهر رمضان
أ- سبب تسمية شهر رمضان:
أما تسميته بهذا الاسم؛ لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وقيل: لأنه كان يوافق زمن الحر والقيظ([8]) مشتق من الرمضاء: وهي الحجارة الحارة([9]).
ب- متى فرض صيام رمضان؟
وقد فرض صيامه في السنة الثانية للهجرة، وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات([10]) .
ج- مشروعيته: وأما مشروعيته فبالكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل.
أما من الكتاب: فقولة تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[ البقرة الآية: 183]
وأما من السنة فحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، و إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان"([11]).
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان([12])، واتفقوا على أن صيام نهار رمضان على الصحيح المقيم العاقل البالغ الذي يعلم أنه رمضان, وقد بلغه وجوب صيامه وهو مسلم، فرض مذ يظهر الهلال من آخر شعبان إلى أن يتيقن ظهوره من أول شوال, كما ذكر ذلك ابن حزم رحمه الله تعالى([13]).
وأما العقل: فقد جعل الله عز وجل في العقول السليمة والفطر المستقيمة من الدلائل ما يرشدها إلى المشرع الحكيم سبحانه وتعالى، وإلى أسرار وحِكَم التشريع.
قال الإمام الكاساني: «والدليل على فرضية صوم شهر رمضان الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعقول ... وأما المعقول: فمن وجوه:
أحدها: أن الصوم وسيلة شكر النعمة إذ هو كف النفس عن الأكل، و الشرب، و الجماع، وأنها من أجل النعم وأعلاها، والامتناع عنها زمانا معتبرا يعرف قدرها إذ النعم مجهولة فإذا فقدت عرفت، فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر، وشكر النعم فرض عقلاً وشرعاً، وإليه أشار الرب تعالى في قوله في آية الصيام: ﴿لعلكم تشكرون﴾.
والثاني: أنه وسيلة إلى التقوى؛ لأنه إذا انقادت نفسه للامتناع عن الحلال طمعاً في مرضاة الله تعالى وخوفاً من أليم عقابه، فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام، فكان الصوم سببا للاتقاء عن محارم الله تعالى، وأنه فرض، وإليه وقعت الإشارة بقوله تعالى في آخر آية الصوم: ﴿لعلكم تتقون﴾.
والثالث: أن في الصوم قهر الطبع، وكسر الشهوة؛ لأن النفس إذا شبعت تمنت الشهوات، وإذا جاعت امتنعت عما تهوى، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:  من خشي منكم الباءة فليصم فإن الصوم له وجاء "([14]) فكان الصوم ذريعة إلى الامتناع عن المعاصي وأنه فرض»([15]).
د- دخول الشهر: يثبت دخول شهر رمضان المبارك إما برؤية الهلال، وإما بإكمال عدة شعبان ثلاثين، لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له"([16])، وقد اختلف العلماء في معنى "فاقدروا له" فقالت طائفة من العلماء معناه: ضيقوا له وقدروه تحت الحساب وممن قال بهذا أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان، وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه: قدروه بحساب المنازل، وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه: قدروا له تمام العدد ثلاثين يوماً([17]).
قال المازري: «حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له" على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر، قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين؛ لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا أفراد والشرع إنما يُعَرِف الناس بما يعرفه جماهيرهم والله أعلم»([18]).
فالقول الأول : وهو لأحمد يحمل معنى التقدير على التضييق، وعليه يضيق شعبان ويجعله تسعا وعشرين وهذا عندهم مع وجود الغيم.
والقول الثاني: حمل التقدير على الحساب الفلكي.
والثالث: وهو قول الجمهور حمل التقدير على إكمال شعبان ثلاثين يوماً، ومن جهة النصوص فإن أرجح الأقوال هو قول الجمهور؛ لحديث عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"([19])، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمى عليكم فأكملوا العدد"([20])وأصرح منه الرواية الأخرى: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين"([21]).
قال ابن عبد البر: «ولم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين فيما علمت باعتبار المنازل في ذلك، وإنما هو شيء روي عن مطرف بن الشخير، وليس بصحيح عنه والله أعلم، ولو صح ما وجب اتباعه عليه؛ لشذوذه ولمخالفة الحجة له، وقد تأول بعض فقهاء البصرة في معنى قوله في الحديث: "فاقدروا له" نحو ذلك والقول فيه واحد، وقال ابن قتيبة في قوله: "فاقدروا له" أي: فقدروا السير والمنازل، وهو قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له، وليس هذا من شأن ابن قتيبة، ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب، وقد حكي عن الشافعي أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة النجوم أن الهلال الليلة وغم عليه جاز له أن يعتقد الصيام ويبيته ويجزئه، والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلا برؤية أو شهادة عادلة»([22]).
وقد اختلف المعاصرون في الحساب الفلكي بناء على الاختلاف السابق، فيرى قوم رأي الجمهور، ويرى آخرون جواز العمل بالحساب الفلكي في النفي لا الإثبات، ويرى آخرون الجواز لما لعلم الفلك من قوة ودقة في هذا الزمان خلاف الزمان الماضي، لكن الإشكال إذا اعتبرنا هذا العلم ظني إذ قد يعتريه الخطأ، والنصوص تبين رجحان قول الجمهور، والشريعة المباركة تخاطب الناس بما يفهمه جمهورهم لا الآحاد، والرؤية للهلال مما يطلع عليه جمهور الأمة بخلاف الحساب الفلكي، إلا أن التطور والدقة الحاصلة في هذا العلم يقوي جانب الركون إليه، ويمكن الجمع بين ما يقوله المختصون في هذا العلم والرؤية؛ فإذا أثبت الفلكيون بأن شعبان يكون تسعا وعشرين فنحث الناس على التحري والتدقيق في الرؤية فإذا ثبتت الرؤية عملنا بها، وإذا لم تثبت فننظر هل كان هناك ما يحول بين الناس وبينها كغيم أو لا، فإذا لم يكن هناك سبب يحول دون الرؤية وقد دقق الناس في تحري الهلال ولم يروه فالعمل هنا على الرؤية لا الحساب، وإن حال مانع بينهم وبين رؤية الهلال فالأحوط للصوم الاعتماد على الحساب، وإن أثبت الفلكيون بأن شعبان يكون ثلاثين فنأمر الناس بتحري الهلال ليلة الثلاثين فإن رأوه فالعمل بالرؤية العادلة مقدم ولا ريب مع مزيد من التثبت في شأن الشهود، وإن لم يروه سواء كان ذلك لسبب أم لا يكون شعبان ثلاثين فيكون الاعتماد على كليهما، والله أعلم. 
واختلفوا هل إذا رأى الهلال أهل بلد فهل يلزم سائر البلدان، ولعل الأقرب والله أعلم أن الدول التي تشترك في جزء من النهار متى رؤي في إحداها فإنها رؤية للجميع، والله أعلم.   
وخروج الشهر مثل دخوله إما برؤية الهلال أو إتمام عدة رمضان ثلاثين؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما"([23]).
الفرع الثاني: الصوم الواجب لعلة وهو صوم الكفارات: ككفارة القتل والظهار والجماع في نهار رمضان، وفي كلٍ منها يصوم شهرين متتابعين.
الفرع الثالث: الواجب بإيجاب العبد على نفسه وهو صوم النذر؛ لحديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه"([24]).
قال الإمام ابن رشد: « إن الصوم الشرعي منه واجب، ومنه مندوب إليه، والواجب ثلاثة أقسام: منه ما يجب للزمان نفسه وهو صوم شهر رمضان بعينه، ومنه ما يجب لعلة وهو صيام الكفارات، ومنه ما يجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه وهو صيام النذر»([25]).
القسم الثاني: الصوم المندوب إليه: كصيام يومي الاثنين والخميس؛ لحديث ربيعة بن الغاز أنه سأل عائشة عن صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان يتحرى صيام الاثنين والخميس"([26])، وصيام ستٍ من شوال، لحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر"([27])، ويصومها أي وقت من شوال شاءه من أوله أو وسطه أو آخره، مجتمعة أو مفترقة، واختلف الفقهاء في الحائض والنفساء ومن أفطر من رمضان لعذر هل يجوز صيامها قبل القضاء أم لابد أولاً من القضاء، فذهب جماعة من الفقهاء إلى جواز صيامها قبل القضاء؛ لأن القضاء لمن أفطر لعذر موسع إلى رمضان الآخر، وهذا مضيق، فيقدم المضيق، ويصير عمله موقوفاً إلى أن يؤدي القضاء فيثبت له الأجر، وقالت جماعة أخرى بأن الواجب أولاً تقديم القضاء؛ لأن من صام قبل القضاء فلا يكون قد صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال.
وصيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على الوتر"([28])، ويستحب أن تكون أيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر ؛ لحديث أبي ذر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر ! إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة"([29])، وسميت بيضاء لابيضاضها ليلاً بالقمر ونهاراً بالشمس، وقيل لأَن الله تعالى تاب فيها على آدم وبيض صحيفته، والصحيح الأول([30]).
وصيام يوم عرفة لغير الحاج؛ وصوم ويوم عاشورا؛ لحديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سئل عن صومه؟ قال: "فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عمر رضي الله عنه رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وببيعتنا بيعة، قال فسئل عن صيام الدهر ؟ فقال: لا صام ولا أفطر -أو ما صام وما أفطر- قال: فسئل عن صوم يومين وإفطار يوم ؟ قال: ومن يطيق ذلك؟ قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يومين؟ قال: ليت أن الله قوانا لذلك، قال: وسئل عن صوم يوم وإفطار يوم؟ قال: ذاك صوم أخي داود -عليه السلام- قال: وسئل عن صوم الاثنين؟ قال: ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت -أو أنزل علي فيه- قال: فقال: صوم ثلاثة من كل شهر، ورمضان إلى رمضان صوم الدهر، قال: وسئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال يكفر السنة الماضية والباقية، قال: وسئل عن صوم يوم عاشوراء ؟ فقال" يكفر السنة الماضية"([31])، ويسن صيامهما حتى لو وافقا يوم كراهة كيوم جمعة حتى لو لم يصم قبله؛ لوجود السبب الذي يرفع الكراهة؛ لأن حديث النهي عام، وحديثها خاص، والعام إذا تعارض مع الخاص قدم الخاص.
والصيام في محرم؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل"([32]).
وصيام التسع الأولى من ذي الحجة، والمحرم، وغيرها، والضابط فيه: كل ما ورد في السنة الحث عليه على جهة الاستحباب والندب.
القسم الثاني: الصوم المنهي عنه، وينقسم إلى قسمين: محرم، ومكروه
القسم الأول: الصوم المكروه: كإفراد الجمعة؛ لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده"([33]).
وإفراد السبت عند جماعة من أهل العلم لحديث: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم وإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة -القشر على العود- أو عود شجرة فليمضغه"([34])، وصوم يوم عرفة للحاج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطره في حجة الوداع لما تنازع الناس في صومه إياه فأخذ لبناً أرسل إليه وشربه أمام الناس فعن أم الفضل بنت الحارث: "أن ناساً تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه"([35])، والحكمة في ذلك حتى يتقوى الحاج على فطره بالدعاء والذكر والابتهال لله تعالى.
القسم الثاني: الصوم المحرم وهو على نوعين:
النوع الأول: ما حرم ابتداء: وهو صوم الحائض والنفساء.
النوع الثاني: ما حرم لسبب: كصيام العيدين، وأيام التشريق، والدهر؛ لحديث نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب"([36])، وحديث أبى عبيد مولى ابن أزهر أنه قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاء فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال: "إن هذين يومان نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامهما يوم فطركم من صيامكم والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم"([37])، وسبق النهي عن صوم الدهر.
قال الإمام السغدي: «فأما المحظور [أي الصوم الممنوع] على العبد فهو على ثلاثة أوجه: صوم نفي، وصوم نهي، وصوم كراهية.
فأما صوم النفي فهو على وجهين: صوم الحائض، وصوم النفساء فلا يكون لهما أن تصوما أبدا.
وأما صوم النهي فعلى ثلاثة أوجه: صوم الفطر، وصوم الأضحى، وصوم يوم الشك فلا ينبغي أن يصوم فيه ولو صام يكون صوماً»([38]).
المبحث الثالث: أركان الصوم
ركن الشيء جانبه الأقوى لغة، وفي الاصطلاح: ركن الشيء ما لا وجود لذلك الشيء إلا به من التقوم إذ قوام الشيء بركنه، ويطلق على جزء من الماهية، ويطلق على جميعها([39])، وقيل: ركن الشيء ما يتم به وهو داخل فيه([40])، وأركان الصوم هي:
1- الإمساك: أي الكف عن جميع المفطرات والامتناع عنها زمن الصوم.
2- الزمان: أي الزمن الذي تقع فيه هذه العبادة وهو على قسمين:
أ- زمان وجوب: وهو شهر رمضان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس:... ، وصوم رمضان"([41]).
ب- زمان أداء: وهو زمان الإمساك عن المفطرات، وهو أيام هذا الشهر أي: النهار دون الليل - من الفجر الصادق إلى غروب الشمس-؛ لقوله تعالى: ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ﴾[البقرة: 187]، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم"([42]).
3- النية: وهي قصد الشيء مقترنا بفعله، فيقصد أداء الصوم المفروض عليه، وهي في الفرض من الليل، لحديث حفصة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له"([43])، وفي رواية: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له"([44]).
أما صوم النفل فيجوز في النهار قبل الزوال؛ لحديث عائشة أم المؤمنين قالت: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذن صائم، ثم أتانا يوما آخر فقلنا يا رسول الله: أهدي لنا حيس، فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائما، فأكل"([45]).
4- الصائم: وهو المكلف بأداء هذه العبادة ([46]).
قال ابن رشد رحمه الله تعالى: « والأركان الثلاثة: اثنان متفق عليهما، وهما: الزمان، والإمساك عن المفطرات، والثالث مختلف فيه وهو النية.
فأما الركن الأول الذي هو الزمان فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما: زمان الوجوب، وهو شهر رمضان، والآخر زمان الإمساك عن المفطرات، وهو أيام هذا الشهر دون الليالي...
الركن الثاني: وهو الإمساك: وأجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع...
وأما الركن الثالث وهو النية: والنظر في النية في مواضع منها هل هي شرط في صحة هذه العبادة أم ليست بشرط ؟... أما كون النية شرطاً في صحة الصيام فإنه قول الجمهور، وشذ زفر في النية فقال: لا يحتاج رمضان إلى نية إلا أن يكون الذي يدركه صيام شهر رمضان مريضاً أو مسافراً فيريد الصوم» ([47]).
المبحث الرابع: شروط الصوم
الشرط لغة: إلزام الشيء والتزامه، واصطلاحا: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، ويقال: ما يتم به الشيء وهو خارج عنه، وقيل: تعليق شيء بشيء بحيث إذا وجد الأول وجد الثاني، وقيل: كل حكم متعلق بأمر يقع لوقوعه وذلك الأمر كالعلامة له([48]).
وتنقسم شروط الصوم إلى قسمين: شروط وجوب، وشروط صحة، وهذا التقسيم عند الشافعية والمالكية والحنابلة، أما الحنفية فيقسمونها إلى ثلاثة أقسام: شروط وجوب، وصحة، وأداء.  
أ- شروط الصوم عند الحنفية:
أولاً: شروط وجوب الصوم: أي اشتغال الذمة بالواجب، وهي شروط افتراضه والخطاب به، وهي أربعة شروط: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والعلم بالوجوب لمن أسلم في دار الحرب، ويحصل بإخبار عدل أو امرأتين، أما من نشأ في دار الإسلام فلا عذر له بالجهل، فيوافقون الشافعية والحنابلة في الثلاثة الأولى.
ثانياً: شروط وجوب الأداء: وهو تفريغ ذمة المكلف عن الواجب في ذمته المعين له، وهي ثلاثة: الصحة من المرض، والخلو من الحيض والنفاس، والإقامة.
ثالثاً: شروط صحة الأداء: وهي ثلاثة: النية، وخلوه عما يفسده، وخلوه عما ينافي صحته: ككفر، أو رده ، أو حيض، أو نفاس ([49]).
ب- شروط الصوم عند المالكية:
أولاً: شروط الوجوب: وهي ستة: العقل، والبلوغ، والنقاء من الحيض والنفاس، والإقامة فلا يجب على المسافر سفر قصر، والقدرة على الصوم فلا يجب على العاجز حقيقة أو حكماً كمرضع لها قدرة على الصوم لكن خافت على الرضيع هلاكا أو شدة ضرر، والصحة.
ثانياً: شروط الصحة: وهي خمسة: النية ليلاً، وصلاحية الزمن للصوم، والإسلام، والنقاء من الحيض والنفاس، والعقل، زاد البعض الكف عن المفطرات([50]).
ج- شروط الصوم عند الشافعية:  
أولاً: شروط الوجوب أربعة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والإطاقة أي: القدرة عليه بلا مشقة.
ثانياً: شروط الصحة سبعة هي: الإسلام، والنقاء من الحيض والنفاس، والتمييز، والوقت القابل للصوم أو صلاحية الوقت للصوم، والنية، والعقل جميع النهار، فلا يصح صوم المجنون والطفل غير المميز؛ لفقدان النية، ويصح عن صبي مميز، ولو طرأ الجنون أثناء النهار بطل صومه بخلاف الإغماء والسكر فإن صومه صحيح ما لم يستغرقا النهار جميعه، فإن أفاق ولو لحظة من النهار صح صومه، أما النوم فلا يضر ولو استغرق جميع النهار إذا نوى قبل نومه، والإمساك عن الاستقاءة، وعن الجماع عمداً وإن لم ينزل، وعن الاستمناء، وعن وصول عين إلى ما يسمى جوفاً من منفذ مفتوح، والمنفذ المفتوح إما أن يكون مفتوحا أصالة كالأذن والفم والأنف والشرج، أو بواسطة جرح كالمأمومة([51]).
د- شروط الصوم عند الحنابلة:
أولاً: شروط الوجوب أربعة: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والقدرة عليه فمن عجز عنه لكبر، أو مرض لا يرجى زواله أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا، مد من بر -ربع صاع-، أو نصف صاع -أي: مدين- من غيره.
ثانياً: شروط صحته خمسة هي: الإسلام، وانقطاع دم الحيض والنفاس، والتمييز فيجب على ولي المميز المطيق للصوم أمره به وضربه عليه ليعتاده، والعقل لكن لو نوى ليلا ثم جن أو أغمي عليه جميع النهار وأفاق منه قليلاً صح، والنية من الليل لكل يوم واجبة، فمن خطر بقلبه ليلا أنه صائم فقد نوى، وكذا الأكل والشرب بنية الصوم، ولا يضر إن أتى بعد النية بمناف للصوم، أو قال إن شاء الله غير متردد، وكذا لو قال ليلة الثلاثين من رمضان: إن كان غداً من رمضان ففرضي وإلا فمفطر، ويضر إن قاله في أوله([52]).

المبحث الخامس: حكمة الصوم
الصوم ركن من أركان الإسلام، وأحد تشريعاته، وبالتالي لم يشرع عبثا؛ لأنه من عند الله تعالى، الذي شرع التشريع الكامل الشامل المرن الصالح لكل زمان ومكان، الذي يستمد كماله من كمال المشرع سبحانه وتعالى، لا يعتريه نقص، ولا يضيق بحاجات البشر أبدا، ولا يداخله خلل، وهو منزه عن العبث واللغو كما يظنه أعداء الإسلام والجهال ومن فتن بهم ممن يظنون بأن الصوم تُعذب فيه النفوس، وتجوع فيه البطون، وتضعف به الأبدان، وأن فيه إنهاكاً للقوى من غير ما حاجة، بل شرع لحكم كثيرة، وأسرار عظيمة يعلمها الله عز وجل من شاء من عباده، ممن يقف مع نصوص الشرع وقفة إمعان وتأمل وتدبر، متفكراً فيها، ولمعرفة الحكمة الإلهية الربانية من تشريع هذه العبادة نقف هذه الوقفة؛ لمعرفة بعض تلك الأسرار والحكم:
أولاً: بين الله عز وجل أن الحكمة الأولى من فرض الصيام هي حصول التقوى التي هي جماع كل خير: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة: 183]، وهي سبب قبول الأعمال: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾[المائدة: 27]، وأهلها هم أهل الهداية: ﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾[الزمر : 57]، وأهل ولاية الرحمن: ﴿وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [الجاثية: 19]، وأهل محبته: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[آل عمران: 76]، وهم أهل البشارة: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً﴾[مريم: 97]، وهم وفد الرحمن: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدا ﴾ [مريم: 85]، وأهل المقام الأمين: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾[الدخان: 51]، فلو لم تكن حكمة الصوم إلا هذه لكانت كافية.
ثانياً: حصول الشكر على النعم من العباد، قال الله عز وجل في آية الصوم:﴿وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾[البقرة: 185]، فإن العباد يتقلبون في نعم عظيمة لا يعرفون قدرها إلا إذا فقدوها، فكان في الصيام تنبيه لهم بها؛ ليقوموا بشكرها، فإن العبد إذا صام أمسك عن الطعام والشراب والجماع وسائر الملاذ، وصارت ممنوعة عليه، أدرك قدر هذه النعم، فيحمله ذلك على شكرها.
ثالثاً: التخلق بخلقي الصبر والمجاهدة، حيث يتدرب العبد طيلة الشهر على مجاهدة النفس بمنعها عن ملاذها وشهواتها، وكسر تسلطها، فيحمله ذلك على مجاهدتها عن الوقوع في المعاصي، فيفوز بثلثي الصبر، بل بالصبر كله؛ لأن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية فلا يقع فيها، وصبر على الأقدار، فيكون بصومه صابراً على الطاعة، مستعيناً به على الصبر عن المعصية، وصابراً على الأقدار، فيكون متخلقاً بالصبر والمجاهدة.
رابعاً: الامتحان والاختبار؛ ليتميز الصادق في دعوى الإيمان من غيره، وإلى هذا أشار الله عز وجل في قولة: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ﴾[العنكبوت: 2].
خامساً: حصول الوقاية، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عن ربه: "يقول الله عز وجل: الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي، والصوم جنة، وللصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"([53])، والجُنة: الوقاية، وقد جاء اللفظ مطلقاً؛ ليعم كل وقاية، فهو وقاية من الرفث والفسوق والعصيان، ووقاية من النار كما جاء في بعض الروايات، ووقاية من الأمراض، ووقاية من سوء الأخلاق، ووقاية من الحرام كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"([54]).
سادساً: الصوم مدرسة اجتماعية يتعلم العبد في ظلها العطف على الفقراء والمساكين، والمواساة لهم، والرحمة بهم، حين يعيش في ظلال هذا الشهر ما يعيشونه دائماً من جوع، وانقطاع عما يحتاجونه من القوت، فيحمله ذلك على صلتهم، ومد يد العون إليهم.
سابعاً: الصوم مدرسة تربوية يتربى العبد فيها على النظام، والانضباط، وترتيب الأوقات، والمحافظة على الصلوات في أوقاتها.
ثامناً: الصوم عيادة طبية ينعم الصائم فيها بالصحة والعافية من الأمراض، خصوصاً السمنة التي تعتبر سببا من أسباب الإصابة بالسكر والضغط، وفي الحديث: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه فثلث للطعام, وثلث للشراب, وثلث للنفس"([55]).
تاسعاً: حصول المراقبة والإخلاص، فالصائم يستطيع إذا انفرد أن يأكل أو يشرب دون أن يراه أحد، ولكنه يأبى ذلك، وهذا يقوي فيه الإخلاص والمراقبة، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي"، وذلك لما فيه من قوة الإخلاص والمراقبة.
عاشراً: الفوز بفضائل الصيام، وبما أعده الله عز وجل للصائمين من الثواب العظيم في الآخرة، ومن هذه الفضائل:
ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"([56]).
وما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا"([57]).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم يقال أين الصائمون فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم فإذا دخلوا أغلق فلن يدخل منه أحد"([58])، قال العلماء: سمي باب الريان تنبيها على أن العطشان بالصوم في الهواجر سيروى، وعاقبته إليه، وهو مشتق من الري([59]).
وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه"([60]).
فهذه وقفه يسيرة مع بعض أحكام وأسرار الصوم، ولو أردنا الحصر لطال بنا المقام، ولكن في المذكور الكفاية، وفي الختام أسال من الله تعالى جل في علاه أن يجعلنا جميعاً كاتبه وقارئه ووالدينا والمسلمين جميعاً من أهل هذه الفرحة، وأهل الريان، وأهل الإيمان، وصلى الله وسلم على سيد الأنام، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
إعداد/ د.محمد نعمان البعداني
غفر الله له ولوالديه وزوجه وذريته وإخوانه ومشايخه وجميع المسلمين
25/ شعبان/ 1430هـ، الموافق له: 16/8/2009م.
***
 



[1]- انظر: لسان العرب، 12/350، والمصباح المنير، 1/ 352، ومختار الصحاح ص156، وتاج العروس، 17/423.
 [2]- معجم مقاييس اللغة، 3/323.
[3]- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج، 1/616.
[4]- الروض المربع شرح زاد المستقنع، 1/ 410.
[5]- اللغو، واللغا: السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره، ولا يحصل منه على فائدة، ولا نفع. انظر لسان العرب، 15/250.
[6]- الرفث الجماع وغيره مما يكون بين الرجل وامرأته يعني التقبيل والمغازلة ونحوهما مما يكون في حالة الجماع، وأصله قول الفحش، و الرفث أيضا الفحش من القول وكلام النساء في الجماع، والرفث التعريض بالنكاح، وقيل الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة، قال ابن عباس: إنما الرفث ما روجع به النساء أي ما خوطبت به المرأة. انظر لسان العرب، 2/153و 154.
[7]- سبل السلام شرح بلوغ المرام، 2 /150.
[8]- القيظ: صميم الصيف، وهو حاق الصيف، وهو من طلوع النجم إلى طلوع سهيل يعني بالنجم الثريا، والجمع أقياظ و قيوظ، لسان العرب ، 7/456.
[9]- الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، 5/153.
[10]- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، 3/269.
[11]- أخرجه البخاري، 1/ 12 برقم: 8، ومسلم، 1/45 برقم 16.
[12]- المغني لابن قدامة، 3/ 3.
[13]- مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات ص36.
[14]- أخرجه البخاري، 5/1950برقم: 4778و4779، ومسلم، 2/1018 برقم: 1400، ولفظه: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء"، أما اللفظ المذكور فيظهر أنه من حفظ الإمام الكاساني؛ إذ لم أجد غيره وافقه عليه حسب اطلاعي.
[15]- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، 2/210.
[16]- رواه البخاري، 2/674 برقم: 1807، ومسلم، 2/ 759 برقم: 1080.
[17]- شرح النووي على صحيح مسلم، 7/186.
[18]- المصدر نفسه.
[19]- رواه البخاري، 2/ 674 برقم: 1808.
[20]- رواه مسلم، 2/ 762 برقم: 1081.
[21]- رواه مسلم، 2/ 762 برقم: 1081.
[22]- التمهيد لابن عبد البر، 14/352، 353.
[23]- رواه مسلم، 2/ 762 برقم: 1081.
[24]- رواه البخاري، 6/ 2463 برقم: 6318، وهذا النذر هو المسمى بنذر التبرر.
[25]- بداية المجتهد، 2/139و140.  
[26]- رواه ابن ماجه، 1/ 553 برقم: 1739، وابن حبان، 8/ 404 برقم: 3643، والطبراني في الأوسط، 3/ 282، صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، 1/ 290 برقم: 1414.
[27]- روه مسلم، 2/ 822 برقم: 1164.
[28]- رواه البخاري، 1/ 395 برقم: 1124، ومسلم، 1/ 499 برقم: 721، واللفظ للبخاري.
[29]- رواه الترمذي، 3/ 134 برقم: 761، والنسائي، 4/222 برقم: 2424، وأحمد، 5/ 162 برقم: 21474، قال الترمذي: «حديث أبي ذر حديث حسن»، وقال الألباني: «حسن صحيح» انظر: صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 250 برقم: 1038.
[30]- الإنصاف للمرداوي، 3، 343.
[31]- رواه مسلم،2/818 برقم: 1162.
[32]- رواه مسلم، 2/ 821 برقم: 1163.
[33]- رواه البخاري، 2/ 700 برقم: 1884، ومسلم، 2/ 801 برقم: 1144.
[34]- رواه أبو داود، 1/ 736 برقم: 2421، والترمذي، 3/120 برقم: 744، وابن ماجه ، 1/ 550 برقم: 1726.
[35]- رواه البخاري،2/ 597 برقم: 1575، ومسلم، 2/791 برقم: 1123.
عن أم الفضل بنت الحارث أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو واقف على بعيره بعرفة فشربه
[36]- رواه مسلم، 2/ 800 برقم: 1141.
[37]- رواه البخاري، 2/ 702 برقم: 1889، ومسلم، 2/ 799 برقم: 1137.
[38]- فتاوى السغدي، 1/146.
[39]- كتاب الكليات، 1/481.
[40]- قواعد الفقه للبركتي، 1/309.
[41]- أخرجه البخاري، 1/ 12 برقم: 8، ومسلم، 1/45 برقم 16.
[42]- رواه البخاري، 2/691 برقم: 1853، ومسلم، 2/772 برقم: 1100.
[43]- رواه النسائي، 4/ 196برقم: 2331، صححه الألباني في الجامع الصغير وزيادته، 1/ 1149 برقم: 11484، و صحيح الجامع حديث رقم : 6538.
[44]- رواه أبو داود، 1/744 برقم: 2454، والترمذي، 3/ 108 برقم: 730، صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 2/465 برقم: 2143.
[45]- رواه مسلم، 2/ 808 برقم: 1154.
[46]- مغني المحتاج، 1/620.
[47]- انظر بداية المجتهد، 2 /141و142و 153و 159.
[48]- الحدود الأنيقة، 1/71، 72 ، والتعاريف للمناوي، 1/427، 428
[49]- بدائع الصنائع، 2/233و234، وتبيين الحقائق، 2/ 147، وشرح فتح القدير، 2/302، والموسوعة الفقهية الكويتية، 28/ 19و20.
[50]- الفواكه الدواني، 1/305، والخلاصة الفقهية على مذهب السادة المالكية ص194، والفقه المالكي الميسر ،1/196.
[51]- شرح ابن القاسم الغزي على أبي شجاع ص 85، والمهذب في فقه الإمام الشافعي، 1/324، ومغني المحتاج، 1/625و632، والمقدمة الحضرمية، ص133 ـ 135، ومنهاج الطالبين وعمدة المفتين، 2/230.
[52]- دليل الطالب، ص 78 و79، ومنار السبيل، 1/211.
[53]- رواه البخاري، 6/2723 برقم 7054، ومسلم، 2/806 برقم: 1151.
[54]- سبق تخريجه ص4.
[55]ـ أخرجه ابن ماجه،2/1111 برقم 3349، وابن حبان 12/41 برقم: 5236، ، والنسائي في السنن الكبرى، 4/177برقم 6768، صححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة، 3/137، قال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على صحيح ابن حبان: «حديث صحيح».
[56]- رواه البخاري، 1/22 برقم: 38، ومسلم، 1/523، برقم: 760.
[57]- رواه البخاري، 3/1044، برقم: 2685، ومسلم، 2/808 برقم1153.  
[58]- رواه البخاري، 2/671 برقم: 1797، ومسلم، 2 / 808 برقم 1152.
[59]- شرح النووي على صحيح مسلم، 7/118.
[60]ـ رواه البخاري، 2/673 برقم 1805، ومسلم 2/806 برقم 1151.

من اعمال الباحث
أضافة تعليق
آخر مقالات