مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2019/09/09 18:39
المعنى الروحي للعبادات الإسلامية عند الغزالي (1-2)

"لا باعث عليها إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال"

(الغزالي)

إن سيادة الروح الأخلاقي وبقاءه في الوقت نفسه في حيز الانتماء الواضح للجماعة في أمتها ودولتها هي المزاوجة الأكثر تعقيدا لمنطقية الفكر وتحقيق اليقين. وذلك لأنها تفترض في آن واحد تنسيق الانتماء الحقيقي لمصادر الوعي الذاتي وتثويرها في الوقت نفسه. بمعنى البقاء الدائم في حيز الإدراك المرهف لوحدة الحق والحقيقة والفناء الدائم في تجديدها المتجانس. وإذا كان الغزالي قد انجز هذه المهمة عبر توليفه لإنجازات العقلانيات الإسلامية في تقاليد التصوف وأخلاقه المتسامية، فإن انكسارها في قضايا الكلام التقليدي أدى إلى إعادة لحمة المنطق واليقين في تحقيقه العملي الأخلاقي. أما الميزان الأكثر دقة في معاييره لتحقيق هذه النسبة فهو نفسه الذي يحدد نسب المعقول والمنقول، والظاهر والباطن في وحدتهما، أي التوليف المتجانس والتنسيق النموذجي بين العقلي والصوفي. فقد كان هذا التوليف والتنسيق النتيجة التي حددها أسلوب صيرورة التآلف اللاهوتي الفلسفي الصوفي عند الغزالي. أما تجليها الملموس في موقفه من العبادات والعادات، فقد جرى من خلال إعادة النظر في ظاهرها وباطنها، ومعقولها ومنقولها، ولكنضمن إطار توليفه الجديد لوحدة الحقيقة والشريعة.

فقد شكلت علاقة الظاهر بالباطن في مجال الشريعة والحقيقة الأساس الفكري لمواقفه من العبادات الإسلامية وآدابها. فقد انتزع هذه العبادات من منظومات العقائد الإيمانية ومن اغترابها الاجتماعي في جليد الرياء الأخلاقي. وسعى في الوقت نفسه إلى إدخالها ميدان الروح الذاتي باعتبارها أحدى وسائله الأخلاقية المنظِّمة للوحدة. لهذا لم نعثر في كتاباته على هذه القضايا إلا في مرحلته الصوفية. إذ لا نعثر عليها في كتاباته ما قبل (إحياء علوم الدين). بينما نراها تظهر في الجزء الأول باعتبارها إحدى الجوانب العلمية والعملية لشريعة. إنها اتخذت صيغة المقدمة أو المدخل للإحياء الروحي الأخلاقي، التي يفترضها منطق الطريق، باعتباره التجسيد الاخلاقي الخاص للشريعة وأسلوبا في الارتقاء إلى حقائقها. وليس مصادفة أن يضع ربع العبادات في أولها، في محاولته صياغة مشروع الاحياء الإسلامي، أو إصلاحه الجديد. وبهذا المعنى لم تكن آراؤه بمعزل عن تقاليد الصوفية وأحكامها العملية في مواقفها من وحدة الشريعة والحقيقة. فقد كانت هذه الوحدة ذاتها النتاج الخاص للتصوف، باعتبارها المبدأ العام والعنصر الجوهري لنظمها العلمية والعملية. من هنا ارتباط أو وحدة الشريعة والحقيقة والطريقة، باعتبارها الثلاثية المميزة للوجود الصوفي ذاته بذاته. غير أن ذلك لا يعني خلوّ المدارس والاتجاهات الإسلامية عما يمكن صياغته بعبارة الوحدة الضرورية في مفاهيمها للشريعة والحقيقة، كما هو الحال عند الباطنية. إلا أن هذه الوحدة تصبح جزءاً من منظومة التفسير الظاهر والتأويل الباطن. الأمر الذي يعني تميزها الجوهري عما هو الحال في التصوف. إذ ليست وحدة الشريعة والحقيقة سوى كفتي وجود الطريقة أو المنظومة الأوسع للعلم والعمل والحال. وبالتالي لا معنى لهذه الثلاثية خارج الطريق في آدابه، وفي ما صاغته المتصوفة بعبارة السلوك إلى الله من قطع المنازل والترقي في المقامات. فهي الوحدة العلمية العملية للشريعة والحقيقة، والتي عبّرت عنها المتصوفة فيما طلقت عليه عبارة "الالتزام بالعبودية ومشاهدة الربوبية"، أو الوحدة المتحركة للالتزام والمشاهدة، والعبودية والربوبية، والتي تنفي أقطابها عملية الارتقاء في المقامات باعتبارها السلوك الحق.

أبدعت المتصوفة عالمها الخاص في مواقفها من سلوك العبودية والالتزام بها، ومشاهدة الربوبية والتمتع بها. فالعبودية لا تصح كما يقول محمد بن خفيف "إلا أذ طرح كلّه على مولاه، وصبر معه على بلواه". بينما وصفها ذو النون المصرى بعبارة "أن تكون عبده في كل حال، كما هو ربك في كل حال". وقدمت المتصوفة صيغا غاية في التنوع عن "عبوديتها" في تجاربها الخاصة. فقد ربط ابو علي الدقاق العبودية بالغاية الداخلية للسلوك في عبارته القائلة "أنت عبد من أنت في رقّه وأسره". أما النصراباذي فقد قال بأن "قيمة العابد بمعبوده كما أن شرف العارف بمعروفه". بينما جمعها التسترى في تحلي المرء بأربعة وهي ألا يجوع من الجوع، وبالعرى وبالفقر وبالذل، أي سلوك الإرادة من أجل بلوغ اندراس المسكنة عليه في العدم، وأثر الغنى في الوجود. وهذه بدورها ليست إلا عملية نفي "الشهود" الإنساني بالاندماج كليّة مع الحقيقة. وهو الذي يحدد قيمة المشاهدة باعتبارها ذروة المعرفة في إدراك الحق. وقد عبّر عنها النصراباذى بعبارة "اسقاط رؤية التعبد في مشاهدة المعبود"، والتي يقابلها في الوجود الاجتماعي تنقية النفس من العبودية، بحيث تجعل "أعماله عنده رياء وأحواله دعاوى"[1]. أما وراء مظهره العدمي، فيكمن مطلق العدم الذاتية في نفيها واقعية العبودية باسم المشاهدة الحقة للحق. فهي العبودية التي تحصل، كما يقول ابو علي الدقاق، لمن له حق اليقين. أو المعرفة التي توصله إلى التحلي بصفات أهل المشاهدات ببلوغ ما بعد المحاضرة والمكاشفة. فإذا كان صاحب المحاضرة مربوطاً بآياته ويهديه عقله، وصاحب المكاشفة مبسوطاً بصفاته يدنيه علمه، فإن صاحب المشاهدة ملقى بذاته تمحوه معرفته. وهي الذروة التي عبّر عنها الجنيد بحالة وجود الحق مع فقدانك، أو رؤية الأشياء بدلائل التوحيد. آنذاك تصبح الشريعة جزءاً من الحقيقة، والحقيقة جزءاً من الشريعة. بمعنى النفي الدائم، الذي لا يقف عن حد في حركة الوحدة المتجددة. فهي الحركة المتجددة لوحدة الوسيلة والغاية. من هنا فكرة المتصوفة القائلة، بأن كل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصول[2].

وقد سار الغزالي في الاطار العام بهذه التقاليد الصوفية. لكنه عوضا عن الانخراط الكامل فيه، فإنه طوّعها بالشكل الذي أصبحت جزءاً من منظومته الفكرية. انه أبدع صوفية أوسع من صوفية المتصوفة. بحيث أعطى لقضية الشريعة والحقيقة في منظومته منحى آخر. وهو المنحى الذي حددته اساسا التوجهات العامة لإصلاحية المنظومة، وبالتالي تحول قضية الشريعة والحقيقة إلى جزء من مهماتها العملية. وليس مصادفة أن يمهّد لها أولا في انتقاده اللاذع للفقه والفقهاء. ومع ذلك فإن مواقفه ظلت متنوعة منها. فهو يحلل هذه العلاقة في حالة وينتقد في أخرى ويحكم في ثالثة. وفي النهاية ينتمي إلى صفّ الصوفية في استنتاجها العام عن أولوية الحقيقة ونهايتها وضرورة درج الشريعة في الحقيقة لا بالعكس. كما هو الحال في استنتاجاته عن علاقة الإسلام بالإيمان، والشرع بالعقل، والظاهر بالباطن، والتفسير بالتأويل.

وبغض النظر عما في المعيار الداخلي للأولوية من تناقضاته الخاصة، إلا أنها في تاريخيتها هي تناقضات يستقطبها مشروع الغزالي في مواجهاته معآراء ومواقف الكلام اللاهوتي. كما أنها التناقضات القائمة في مفهوم الشريعة والحقيقة، والنتاج الضروري للعلم والعمل، أو النتاج المنطقي في المعرفة واللاعقلاني في تاريخه. ومن الممكن الإقرار بإدراك الغزالي الأولي لهذين الجانبين. بمعنى إدراكه وظيفة الشريعة ومأثرتها في صيغتها الفقهية، والتي نظرت إلى الصلاة، على سبيل المثال، نظرتها إلى أفعال ظاهرة وإن كانت من العبادات، بينما يفترض إسلام الحق فيها إسلام القلب. إن ما يبدو "عقلانيا" في مظهره المعرفي، يتجلى في حالات عديدة، كما لو أنه الصيغة اللاعقلانية الفظة. فالشريعة نفسها والتي أبدعت في مجرى تعميقها وتوسعها عقلانية المباحث، أفرزت كإحدى نتائجها في أساليبها ظنية الظن بحيث اضطرته للقول، بأنه ما افلح من نظر إلى العادات والمراسم في العلوم[3]. فهو التناقض الذي لا يمكن حسمه، بنظر الغزالي، إلا استنادا إلى فكرة الحقيقة، أي بشهود كل ما في الوجود على انه جود منه إليه (الله)، وإزالة التناقضات الممكنة، باعتبارها حراشف المعرفة، والبحث عن الوحدة في حقيقة التوحيد (المحض). فعندما قدم على سبيل المثال، مفهوم الشكر بهذا الصدد، فإن الشرع يظهر فيه كما لو انه تعريف لسلوك درجاته (الشكر). لهذا تكلم عن درجات ومستويات يقابل كل منها مشاهدة ومقاماً، والتي تؤدي إلى تطابق المشاهدة والمقام في رؤية الشكر حتى بلوغ درجتها العليا في مشاهدة الشكر والشاكر والمشكور[4]، أي الوحدة التي ينبغي البحث عنها في كل موجود. حينذاك يصبح لكل موجود سرّه.

فالسرّ هنا هو المعنى لا المجهول، والنسبة لا المعلول. وهي المقدمة الفكرية العامة التي ضمّنها مواقفه من العبادات الإسلامية. إذ ليس السرّ سوى الذروة التي يبلغها الصوفي في سلوكه الحق. وذلك لأن الغاية القصوى في عمل السرّ وحمله أن يتكشف له جلال الحق وعظمته. إذ لا تحل معرفة الله بالحقيقة في السرّ، كما يقول الغزالي، ما لم يرتحل ما سوى الله عنه[5]. أما هذا الارتحال فهو السلوك الذي يقطعه المرء في تصوفه (اخلاقه)، بما في ذلك في عبادته، باعتبارها معالم ومستويات غير متناهية في أعماقها. إذ أن ظهور السرّ في العبادة هو تجاوز للعادة. ولا يعني ذلك سوى تذليل الرؤية التقليدية وكسر جمود الممارسة. وبالتالي البحث عن اليقين المتجدد، باعتباره الميدان غير المحدود للروح الأخلاقي لا المعرفة البديهية. وذلك لأن متغيرات الوجود لا يمكنها أن تكون بديهيات إلا في عالم الروح الأخلاقي، أما من خلال خضوعها لوحدانية الحق أو حق الوحدانية. مما يجعل السوح في تموج الأسرار أسلوبا في نفي الاضطرار، أو اكتشاف الحرية في العبودية للحق، أو هو ذاته اليقين الفردي المتجدد. من هنا ارتباط السر بالعبادات، تماما بالقدر الذي تتحول فيه العبادات إلى مستودع الأسرار غير المتناهية. وذلك لأن السرّ القائم فيها هو الاجلاء الدائم لوحدة الذات الفعلية. الأمر الذي جعله يؤكد على أن كل ما في صفات العالم الخارجي والإنسان عرضة للزوال أمام المطلق. وإن المطلق هو المعيار الحقيقي والنهائي لتقييم كل ما هو عرضة للزوال وظواهر الوجود المتشابهة. وعندما استند شأن المتصوفة الى الحديث القائل، بأن "الرجلين من امتي ليقومان إلى الصلاة، وركوعهما وسجودهما واحد، وأن ما بين صلاتهما ما بين السماء والارض"، فإنه حاول أن يبرز من خلاله حقيقة التباين أو حقيقة الشر فيه، باعتباره نفيا للرذيلة والرياء. وذلك لأن السرّ المجهول هنا هو الرذيلة الكامنة في سلوك الباطن. إذ لا سرّ في الوجود لأنه لا سرّ عند الله. ولا يعني ذلك من حيث مضمونه الواقعي سوى ضرورة إدراك الذات لمغزى أفعالها. لقد حاول تحويل السرّ إلى علانية من خلال مطابقته مع النية والوازع الأخلاقي، وتذليل علانيته في سرّ العلاقة بين الإنسان والله، أي وضعها على محك المبادئ الأخلاقية المطلقة[6]. وهي الفكرة التي تتبع تقاليدها الصوفية القائلة، بأن السرّ ما هو إلا ما يكون مصونا مكتوبا ما بين الإنسان والحق في الأحوال.

إلا أن الغزالي لم يقف عند حدود الممارسة الفردية للتصوف، رغم جوهريتها في آرائه الأخلاقية، بل تعداها ألى مداها الأوسع من خلال تحويل السرّ الفردى إلى كينونة الوجود الاجتماعي الأخلاقي العام. فالوجود نفسه ما هو إلا سرّ من أسرار الله الخفية في الأحياء وأرواحها. والأسرار هي أساليب وجود الموجودات والأرواح، وميدان فعلها وغاياتها. أنها المعروفة المجهولة. المعروفة لله والأنا الفردية، والمجهولة لما عداهما. لهذا كان السرّ نعمة الله الخالدة في الوجود، وسرّها في الوقت نفسه. إذ لو كان بالإمكان رؤية أسرار الناس كما هي، ولو كانت أسرارها كمظاهرها لاستحال العيش ولأنهار وجود الاجتماع والأفراد والسلطة والحرب والحب، وذلك بسبب ترتب وجود الأشياء بأسبابها، وارتباط كل منها بالآخر بقدر معلوم. وبما انه يستحيل إدراك كنه الأسباب كلها، لذلك يستحيل معرفة كنه حقيقة الأسرار كلها بما في ذلك ما هو قائم وراء خلاصه وهلاكه. غير أن الغزالي لم يسع من وراء ذلك تطويع الواقع المتشابك والمعقد في علاقاته لأسرار الوجود الاجتماعي في ميادينه المختلفة من سياسة ومغامرة وحب وحرب وما شابه ذلك. لقد بلور الإمكانية الأخلاقية لهذا التطويع في فعل الإدراك المتسامي لحقيقة السرّ باعتباره أسلوبا للعمل وغاية للمسعى. وربط السر بالحق أو العلانية الذاتية بالمطلق الألهي، كما لو انه أدرك بأنه لا يمكن بناء عالم الروح إلا بوسائل الروح. وعندما طبق هذه الفكرة على العبادات الإسلامية، فإنه وجهها بالشكل الذي يكشف فيها عن حقائق الأسرار فيها أو النسبة الحقة بين الظاهر والباطن وبين تجلياتها الواقعية ونماذجها المطلقة.

من هنا أهمية السرّ في العبادات من صلاة وصوم وحج وزكاة. فالسرّ في الطهارة على سبيل المثال هو ذروتها وخلاصتها الحقة. وبهذا المعنى لم تعد الطهارة عملا ظاهريا فحسب، بل والتعبير الظاهري عما ينبغي. من هنا تقسيمه إياها إلى مراتب أربع، هي في الوقت نفسه درجات مترابطة في ما بينها كأنها وحدة واحدة. فالمرتبة الأولى هي تطهير الظاهر عن الخبائث، ثم تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام، ثم تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة، وأخيرا تطهير السرّ عما سوى الله[7]. ومن هنا لم تعد هذه المراتب كيانات قائمة بحد ذاتها، بل هي شروط متلازمة يحدد كل منها ما هو أرقى. وتؤدي هذه العملية بالضرورة إلى بلوغ حقيقة السرّ من خلال تحول المطلق إلى معيار السلوك والفعل وطهارة الباطن. لهذا نرى الغزالي يؤكد على أن طهارة الباطن ما هي إلا محاولة اظهار أولوية الطهارة القلبية وجوهريتها الباطنة في تحديد أشكال تجليها الظاهرة. أما المادة التاريخية التي وضعها في (إحياء علوم الدين) فهي مادة الخلافة في تجاربها الاجتماعية والأخلاقية والدينية، أي كل ما عممه في استنتاجه القائل، بأن الطهارة الخارجية لا يمكنها أن تكون ركنا من أركان الدين في حالة خبث الباطن. لقد ركّز هنا على ما هو جوهري، الأمر الذي اعطى له حرية التصرف المرنة تجاه قيم الإسلام الظاهرية وصيغها الظاهرية في الأحكام الفقهية. من هنا عدم وضعه أية صيغ جاهزة ملزمة للجميع. كما انه لم يفرض على الجميع فكرة ما واحدة محددة، بل صاغ أسلوب القناعة المخلصة بما يتناسب مع القدرة الواقعية للمرء وإمكاناته الفعلية. لهذا لم يدن المتصوفة على عدم اكتراثهم بالمظاهر، ولم يجعل من إهمالهم للظاهر نجاسة، ولم يرفعه إلى مصاف المثال بالنسبة للسلوك الفردي[8]. وذلك لأن النفس، كما يقول الغزالي، في حالة عدم انشغالها بشيء شغلت صاحبها، أما طهارة القلب فهي تجسيد المثال في فرديته. من هنا حكمه على أن "وقت العالِم أشرف من أن يصرفه إلى مثله فيبقى محفوظاً عليه. وأشرف وقت العامي أن يشتغل بمثله فيتوفر الخير عليه من كل الجوانب. وليتفطّن بهذا المثل لنظائره من الأعمال وترتيب فضائلها ووجه تقديم البعض منها على الآخر.. فتدقيق الحساب في حفظ لحظات العمر بصرفها إلى الأفضل أهم من التدقيق في أمور الدنيا بحذافيرها"[9]. وبهذا لم تعد الطهارة جزءاً من الممارسة الفردية، بل والاجتماعية الأخلاقية التي يحدد شكلها موقع المرء وميدان عمله.الأمر الذي يعني اتخاذها مضمونا سياسيا أيضا، بفعل ضرورة سريانها في الوسائل والغايات.

وينطبق هذا على موقفه من العبادات الأخرى كالصلاة. بمعنى أنها لم تعد فعلا ظاهريا.وبالتالي تكفّ عن أن تكون ركنا تقليديا من أركان الدين. فهي الأخرى لها أسرارها الخاصة . أما سرّها الأعظم فهو القائم في حقيقة العلاقة بين الإنسان والله. وهذا يعني بدوره تجاوزها قيود الفقه الظاهري وأحكامه العبادية المباشرة. وبالتالي اتخاذها مظهر الشاهد الدائم على سلوك المسلم باعتبارها تجسيدا للعلاقة الدائمة بينه وبين الله. لهذا اعطى لها في حالات عديدة صيغة البديل الروحي الأخلاقي لعلائق الخضوع المستبد والقهري. إنها تتجلى في منظومته كنفي روحي وإدانة شرعية لا مباشرة للعلاقات الواقعية بين الإنسان والرب كما نراها في علاقة السلطان بالرعية، والسيد بالتابع، والمالك بالمملوك. بحيث جعله ذلك يشدد على أن الله "فارق الملوك بالتفرد بالجلال والكبرياء بترغيب الخلق في السؤال، فقال هل من داع فاستجيب له؟ وباين السلاطين بفتح الباب ورفع الحجاب، فرّخص للعباد في المناجاة بالصلوات كيفما تقلبت بهم الحالات في الجماعات والخلوات. ولم يقتصر على الرخصة، بل تلّطف بالترغيب والدعوة وغيره من ضعفاء الملوك لا يسمح بالخلوة إلا بعد تقديم الهدية والرشوة"[10]. وبهذا يكون قد نقل الصلاة إلى عالم الروح الأخلاقي، وأظهرها بوصفها الوسيلة غير المتناهية لرقي الإنسان الروحي. انه طابقها مع حقيقة السرّ في خضوعه للمطلق، مما كان يعني احتواءها في ذاتها على إمكانية التنوع الأخلاقي في وظائفه المتعددة. ومن ثم حوّل الصلاة إلى الوسيلة التي يستطيع الإنسان من خلالها تجاوز "الطريق المسدود" أمام الملائكة. وإذا كان كل صنف من أصناف الملائكة يتميز في عبادته (صلاته) بمهمة واحدة، فإن صلاة الإنسان تحوى في ذاتها قيم ووظائف الخشوع والأخلاق والنية، أي وسائل العمل وغاياته.

 

ا. د. ميثم الجنابي

..........................

[1] القشيري: الرسالة القشيرية، ص90-92.

[2] القشيري: الرسالة القشيرية، ص43.

[3] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص119.

[4] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج4، ص88.

[5] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص126.

[6] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص231.

[7] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص126.

[8] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص127.

[9] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص128.

[10] الغزالي: إحياء علوم الدين، ج1، ص145.

أضافة تعليق
آخر مقالات