مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب

2014/08/17 20:10
تيارات التجديد في العمل الإسلامي محاولة للفهم
تيارات التجديد في العمل الإسلامي محاولة للفهم

*د. امحمد جبرون

ظهرت في الصف الإسلامي في السنوات الأخيرة مجموعة من الأفكار التي توصف بالجدة والجدية من طرف أصحابها، رفعت من درجة حرارة الجسم الإسلامي نظرا لطرافتها وغرابتها، وقد أعلنت هذه الأفكار بشكل صريح نيتها في تجديد بنية العمل الإسلامي، ومراجعة وسائله ومسلماته، وتخلَّق حملتها بأخلاق النقد ومعرفياته. ومعظم هذه الأفكار في المجال الإسلامي -إذا تأملنا سياقاتها التاريخية والموضوعية- تزامن ظهورها مع بعض الانكسارات السياسية، أو التضييق الأمني، أو عجز الحركة الإسلامية المتكرر عن تحقيق اختراق حقيقي للواقع المحلي والدولي. فأطروحات التجديد المتدثرة بلبوس النقد الذاتي والمراجعات وغيرها من العناوين هي بصورة مباشرة اتهام لقواعد السلوك الإصلاحي الإسلامي الراسخة وثورة ثقافية ضدها.

فأسباب نزول معظم النصوص التجديدية في العقود الأربعة الأخيرة أسباب تاريخية، تتعلق في جملتها بالأوضاع الداخلية التي عاشتها الحركة الإسلامية من جهة، وكفاءة أدواتها في إصلاح المحيط وتغييره من جهة ثانية. وقد برزت في هذا الميدان عدة أسماء من أهمها: فهد النفيسي وحسن الترابي وراشد الغنوشي وأحمد الريسوني وسعد الدين العثماني ومحمد يتيم...، وقد تأرجحت اجتهادات هؤلاء الأعلام بين مراجعة شمولية لأصول وغايات العمل الإسلامي، وبين معالجة جزئية لبعض المواقف السياسية والشرعية. وإذا كانت بعض هذه الاجتهادات وجدت طريقها نحو التنفيذ بحكم المواقع القيادية التي يحتلها أصحابها، فإن البعض الآخر –وهو كثير- عانى من الإقصاء والضغط، ووجد أصحابها أنفسهم خارج الإطار الحركي.

وخلافا لهذه الحالة لا حظنا في السنوات الأخيرة بروز موجة جديدة من المراجعات أغلب روادها شباب، تختلف أولوياتهم النقدية عن جيل ’’النقد الذاتي’’ الذي أثمر في عقد الثمانينيات من القرن الماضي مجموعة من الكتابات والأدبيات، ويتميز بقدر عال من الجذرية، ويدفع بحماس باتجاه الانفتاح والمعاصرة. وفي محاولة لتفادي مصير الجيل الأول الذي شُرِّد، وفطمه التنظيم مبكرا، وبشكل خاص الذين تصلبوا في وجه الإرادة العليا للحركة، وتناقضوا مع مشروعياتها الأساسية، استعان هؤلاء النقاد الجدد بمفهوم التيار، وجاهدوا في السر والعلن من أجل الحق في التيارات في الإطار الإسلامي، وذلك لتحقيق التوازن بين الحق في التعبير والوجود الشرعي داخل الحركة من ناحية، والاعتراف بالمشروعيات الحركية السائدة من ناحية ثانية.

غير أن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل الصورة التي تحضر بها هذه ’’الأفكار الجديدة’’ داخل الحركة الإسلامية، ودرجة تداولها بين الأعضاء يرقى إلى مستوى التيار الذي يدرك وجهته وحدوده وآفاقه؟

فمن الناحية العملية معظم التجارب العربية تدل على أن المنتسبين للتجديد من الجيل الثاني داخل الحركة الإسلامية يعانون من غربة وعزلة تختلف حدتها بين حركة وأخرى، فلا زالت أطروحاتهم تقابل بالشك أحيانا، والرفض المطلق أحيانا أخرى، وهو ما يجهض محاولات تبلور تيارات -بالمعنى الصحيح- متعايشة مع ’’الخط الرسمي’’، وفي بيئة متسامحة يسودها الاعتراف المتبادل.

ومن ناحية أخرى أغلب المتطلعين لسياقة هذه التيارات لا يفقهون آليات التيار، ففي كثير من الحالات، تجدهم يكرهون بطريقة غير مباشرة الجماعة أو الحركة على اعتناق أفكارهم ونهج مذهبهم.

إن محنة التيارات في العمل الإسلامي هي بالدرجة الأولى محنة ثقافية، تقع في صلب إشكالية التراث والحداثة في المجال الحركي الإسلامي، ومن تداعياتها. فالتراث الإسلامي المنحدر من ’’ثقافة الفرق’’ والمذاهب الكلامية والفقهية...، لا يتيح الفرصة أمام الأغلبية للقبول بالأقلية، وتعدد الرؤوس الفكرية ومصادر التوجيه...، ولن نجانب الصواب إذا قلنا أن معظم الطوائف والفرق سواء في دائرة السنة أو الشيعة في أصلها نازلة فكرية واختلاف في الرأي، وتاريخ الملل والنحل والطوائف والفرق في العالم الإسلامي يؤيد هذه الحقيقة ويزكيها، فكل الفرق انشطرت وانشقت لأسباب فكرية، وعرفت معظم الطوائف والفرق الإسلامية بأسماء مفكريها وشيوخها، ولم تعرف بشيء آخر، فالمعتزلة انقسموا إلى الواصلية نسبة إلى واصل بن عطاء الغزَّال، والهذيلية نسبة إلى أبي الهذيل، والنظامية نسبة إلى إبراهيم النَّظام، وهكذا في سائر الطوائف الشيعية والسنية.

فالحركة الإسلامية المعاصرة لم تقطع الصلة بهذا التراث، ولا زال يشكل أحد مصادرها الثقافية، وعلاقتها بأبنائها من حملة الأفكار التجديدية متأثرة بصورة أو أخرى بأدب الفرق وفقهياته تأثرا بينا.

أما من زاوية الحداثة، فتقاليد التيار في العمل العام من مفردات الحداثة التي ترجع للتجربة الغربية، وقسط وفير من المعاناة في سبيل الاعتراف بالتيارات في العمل الإسلامي يجوز تأويلها على أنها معاناة من أجل تكريس بعض مفردات الحداثة (التيار)، التي رجح لدى بعض التجديديين أنها نافعة في تطوير العمل الإسلامي وتخليصه من اختناقاته.

إن أصوات التجديد داخل الحركة الإسلامية المعاصرة ليست غريبة عنها، وليست مؤشرا على الضعف أمام التحديات الأخلاقية والسياسية والحضارية التي تواجهها، كما يحلو للبعض أن يقدمها، ولكنها أصوات تصدر عن ’’أنواع طبيعية’’ تنتمي للفصيلة الإسلامية، وتعكس قدرة الحركة على التكيف والتأقلم مع الوضعيات الجديدة مهما بلغت صعوبتها، وبالتالي أي محاولة لإسكات هذه الأصوات، أو جعلها تصوِّت خارج البيت هو في النهاية بيان موت الفكرة الإسلامية، واستئصالها الوشيك من التاريخ، والتيار في هذا السياق من الآليات الحديثة التي تتيح للعمل الإسلامي الحفاظ على طاقاته، وتغني إمكانياته في المستقبل...
*كاتب مغربي
.مرصد الظاهرة
أضافة تعليق