مركز الوفـــاق الإنمائي للدراسات والبحوث والتدريب
2018/09/27 07:18
قراءة لنص " العائد من وطنه " للشاعر / محمد الحالمي

 

العائد من وطنه

ما بين فتوى الجُوعِ والقيثارَةْ
ضَلَّ الغَريبُ طَريقَهُ يَا جَارَةْ

وَتَنكَّرتْ دُورُ البلادِ وَأهلُهَا
عَنهُ فضيّع ليلَهُ ونَهَارَهْ

وَأمامَ فَاتِحةِ الذُّنُوبِ يَجِدْنَهُ
دَمُهُ المُدامُ وَعَينُهُ الخَمَّارَةْ

خَذَلَتْ فُصُولُ المسرحيَّةِ قَلبَهُ
لمَّا أزاحَ عن البُكَاءِ سِتارَهْ

لم تَستطِعْ لُجَجُ الحَيَاةِ بِطُولِهَا
وَبِعَرضِهَا أنْ تَحتَوي أسرَارَهْ

مُنذ اقتراف الحَرب غَادَرَ خِشيَةً
شَبَقَ الحروبِ وَنَفسَهَا الأمَّارَةْ

لا يعرفُ الأسفَارَ .. يعرفُ أنَّهُ

فِي كُلّ نَائخَةٍ أقامَ سِفَارَةْ

عامانِ كَانَ سَبيلهُ لسَبيلهِ
مُرًّا وكَانَ أشَدَّ مِنهُ مَرَارَةْ

لا يَلتَقِي هذا الغَريبُ بِدَارهِ
إلَّا وَيمسَحُ بَابَهُ وَجِدَارَهْ

مِن أينَ يدخُلُهُ ؟ وكُلُّ حبيبةٍ
ذَنبٌ وكُلُّ قصيدةٍ كَفَّارَةْ

لا شَيءَ يَمنَحُهُ المَكانُ وَلَمْ يَعُد
شَيئٌ لـ " سَارتِهِ " لِيَذكُر " سارَة "

رُكنٌ يُلملِمُهُ الضَّياعُ وخيبَةٌ ..
وَقَفَتْ بلا سببٍ ثُثيرُ غُبَارَهْ

فأشدُّ من موتِ الحبيب غِيابهُ
وَمُتيّمٌ قطعَ النّوى أخبارَهْ

عَينَاهُ تختزلُ الكلامَ وقلبُهُ
قَلِقٌ .. كعادتهِ يشدُّ إزَارَهْ

وصِغَارُهُ لا ينطقونَ عنِ الهوى
شَيئًا ..ويعجزُ أنْ يَضُمَّ صِغَارَهْ

يتسلّلونَ إلى رغيفِ الخُبْزِ عَبْرَ
يديهِ يَقتَاتونَ كُلَّ عِبارَةْ

يَتحدَّثُونَ إليهِ يمنحُ بعضهُمْ
حُبّا ويُهدي بعضهم إيثَارَهْ

الرّيحُ تَقرعُ بَابَنَا .. مَلهُوفَة
والقصفُ يُكمِلُ بَعدهَا مِشوَارَهْ

شاختْ منَازلُنَا وهُدَّ جدارُهَا
فَمَتى سَينزِعُ ربُّنَا مِسْمَارَهْ

لا تِلكُمُ الضَّحَكَاتُ أنسَتنَا
الأنينَ وَلا أبي مُستذكِرٌ سُمَّارَهْ

قلبٌ يزمّلهُ السّكُوتُ وَكُلّمَا
دَعَتِ الضَّرورةُ يَكتَفِي بإشَارَةْ

فَالسَّقفُ أوّل من أجَلَّ حِوارَهْ
والسَّقفُ آخر من أجَلَّ حِوارَهْ

مَا مِنْ حَدِيْثٍ غير حَملَقةٍ وَثَمَّ
تَساؤلٌ ..
أقذيفةٌ أم غَارَةْ ؟!

وجهُ المدينةِ بالجُنودِ مُحاصرٌ
ودخلتَ أنتَ ولا تُعيرُ حِصَارَهْ

أَدَفعتَ للسمسارِ؟
كيف دفعتهم ؟!
دافعتُ عن بيتي دفعتُ "إجارَهْ"

بعتُ الحبوب
وَدمعتين لأشتري الطَّاحُونَ
بعتُ الزَّيتَ والنَّوارَةْ

سَاوَمْتُ بالأشعَارِ عند دَفَاتِري
لم يَبقَ مَا أختَارُ كَي أختَارَهْ

ومنحتُ أنفاسي الحِمَامَ لأرتجي
وَطنًا يُشِعُّ نَقَاوَةً وَطهَارَةْ

لا أنْ يُصلِّي فيه بَارودٌ ولا
دَبَّابَةٌ .. وَمُقَاتلونَ إعَارَةْ


 

محمد الحالمي

______________________________

مقدمة

نسج الشاعر محمد الحالمي نصه الشعري مجدفا على بحر الكامل "متفاعلن" مستخدما قافية الراء الموجهة بالفتح  مع تعلقها بحرف الوصل الهاء المقيدة .
فالشاعر حلق بتجربة وارفة تحكي قصة تراجيدية صاغها بأسلوب شاعري ضخمت مأساة فرد يرمز لأمة سقطت في فخ الكارثة .

ظل الشاعر يروي مأساة البطل  بأسلوب ملحمي يتكئ على بلاغة الالتفات ما بين ضمير الغائب والمتكلم ثم نوع من طرق العرض خبرا وإنشاء أبحر على قالب التجريد حينا وحينا على قارب المباشرة مضيفا إلى النص ملح الإثارة وبهارات التشويق من خلال طرافة التعبير وأناقة الإزاحة وثجات الدهشة والمفارقة مع إطلالة سريالية تحلق مع براءة الشعر بأسلوب خاص .

فالشاعر ربط بين النص والعنوان بأسلوب القلب والإثارة ليشد القارئ إلى النص من الوهلة الأولى حيث طعم النص بكثير من التناص مع القرآن والسنة والمثل العربي ونتاج الأدب العربي إضافة إلى تطعيمه للنص  بالرموز التي تحمل دلالات مكثفة تعبر عن مضامين ترتبط بالنص الشعري تحكي دلالتها الفنية عن حذق الشاعر في توظيف الرمز بقدرة وتمكن .

إضافة إلى استخدام الشاعر لتقنيات اللغة بآفاقها الفسيحة موظفا استراتيجيات الحذف والإيجاز والقصر والإطناب مضفيا قدرا من الظلال الوارفة بامتلاك تقنيات التكثيف والإيحاء والإشارة .
كما نلحظ انثيال عواطف الألم والحسرة تمتزج بقدر من التهكم والسخرية تحلق مع أسلوب الشاعر وسرد حبكته التراجيدية بداية وتناميا وقمة وهبوطا ثم انفراجا وتنويرا .

كان عملي في قراءة النص يتكئ على القراءة من الداخل وسبر العمق منطلقا من الجزء إلى الكل بطريقة تنتظم كل البنى التركيبية بدلالاتها اللغوية والبلاغية إظافة إلى الظلال الإيحائية والرمزية وعصر الدجون الشاعرية ومتجهاتها الفنية في سياقات النص حيث قسمت النص إلى خمسة مقاطع إضافة إلى تحليل العنوان حيث وضعت لكل مقطع عنوانا يتناسب مع دلالة موضوعه حيث بنيت هيكل القراءة والتحليل كالتالي : 

أولا : العنوان .
ثانيا :  " البطل والخذلان " .
ثالثا : "البطل والمنفى " .
رابعا : "البطل والخيبة " .
خامسا : "البطل والكارثة" .
سادسا : "البطل والمغامرة " .

 

أولا : عنوان النص

جاء عنوان النص " العائد من وطنه " متكئا على ثنائية الدهشة والمفارقة يحمل مشروعا من الرفض غير المباشر للأحداث المأساوية التي سجرت الحياة ولعبت دورا كبيرا نحو  التغيير  المعكوس . 
فالعنوان يرتبط بعبثية البيئة وتهاوي مشروع الأمن في زمان ومكان الوطن حيث جسد حدث العودة من الوطن اجتراراً للألم بمضاضة مرة كثفت من اليأس والإحباط فاستبطان انعكاسات المكان والزمان تبني متجه المفارقات ابتداء من إطلالة العنوان .

فاسم الفاعل " العائد " مقترن بالألف واللام مرشحا للعمل بدون شروط في حالة اللزوم فدلالة الحدث رفعت فاعلا ضميرا مستترا كون اسم الفاعل عاجزا عن التعدية الأمر الذي أبرز الدلالة الفردية بتدوير الألم في دائرة مغلقة حضورا للفرد وتعبيرا عن الجماعة .

فاستبطان الغربة كثف من احترار الألم واجترار الأحداث التي ترجمها الناص من خلال السياقات والأنساق فالناص ربط بين النص والعنوان من خلال ثنائية المفارقة والدهشة بانسجام موضوعي ترجم الاتجاه الرومانسي بالشكوى وارتهان العواطف للألم . 
فالعنوان جسد استراتيجية التعبير بأسلوب القلب على سبيل السخرية والتهكم بإحلال العودة محل الهروب وهي فلسفة كثفت الرفض بسريالية الطرافة بتعبير معكوس يبعد عن المباشرة ويستبطن ثورة أيدلوجية تعلن عن مبدأ الرفض والاستنكار .

ثانيا : البطل والخذلان

ما بين فتوى الجُوعِ والقيثارَةْ
ضَلَّ الغَريبُ طَريقَهُ يَا جَارَةْ

وَتَنكَّرتْ دُورُ البلادِ وَأهلُهَا
عَنهُ فضيّع ليلَهُ ونَهَارَهْ

وَأمامَ فَاتِحةِ الذُّنُوبِ يَجِدْنَهُ
دَمُهُ المُدامُ وَعَينُهُ الخَمَّارَةْ

خَذَلَتْ فُصُولُ المسرحيَّةِ قَلبَهُ
لمَّا أزاحَ عن البُكَاءِ سِتارَهْ

لم تَستطِعْ لُجَجُ الحَيَاةِ بِطُولِهَا
وَبِعَرضِهَا أنْ تَحتَوي أسرَارَهْ

مُنذ اقتراف الحَرب غَادَرَ خِشيَةً
شَبَقَ الحروبِ وَنَفسَهَا الأمَّارَةْ

لا يعرفُ الأسفَارَ .. يعرفُ أنَّهُ

فِي كُلّ نَائخَةٍ أقامَ سِفَارَةْ
ً

يجرد الناص قصة تراجيدية يرمز بها لحدث مأساوي يعبر به عن شخصية حقيقية أو رمزية وهي في الحالتين تروي بأبعادها الدلالية مأساة الوطن حيث أنزل الفرد منزلة الجماعة متخذا من الدلالة الجزئية دليلا جسد واقع المشهد بتداعياته الكلية .
فالناص يتوارى من خلف شخصية الغريب ساردا الأحداث بأسلوب ملحمي يربط بين البطل والحدث من خلال الوحدة الموضوعية .

حيث جرد الناص فاتحة النص بتحديد المكان الذي يقف فيه الغريب بدلالة الظرف :

"بين" .

وتضايفه مع : "الفتوى" .

الدالة على اتخاذ القرار الجبري بالوقوف الظرفي ما بين الجوع والقيثارة فخيار الجبر بين الثنائيتين أدى إلى إضلال الغريب عن الطريق حيث أغلق الناص البيت الأول بنداء ديماغوجي يحمل التهكم والسخرية يتناص مع المثل العربي :

" إياك أعني واسمعي ياجارة " .

حيث نلحظ سريالية حادة تضخمت بالجمع بين دلالتي الجوع والقيثارة بتقابل ينم عن الدهشة يختم بخطاب ساخر ينتحي نحو الإزاحة المجردة بإجراء أسلوبي متردد . 
فالناص أفرط في الرؤية السريالية نتيجة الهروب من إدراك الدلالة بمضمونها المباشر أو الإيحائي . 

حيث حدد الناص مأساة الغريب في البيت الثاني بتضخيمها بحدث  الفعل " تَنكَّرتْ " بدلالته الماضية وإسناده إلى :

"دور البلاد وأهلها " .

فدلالة الماضي تثبت حدث المؤامرة عن سبق إصرار حيث ضخم الناص الحدث بإسناده إلى  الساكن والمسكون نتيجة علاقة المحل بالحال وهي دلالة أكدت ملاحقة الغريب ومطاردته  الأمر الذي فسر دلالة الناص بسقوط الغريب في وحل الضياع المرتبط بالزمن ليلا ونهارا .  
حيث أكد الناص في البيت الثالث نتيجة الضياع بسقوط الغريب في وحل الذنوب بدلالة ظرف المكان :

"أمام" .

بدلالته المتصدرة  وهي مسألة حقيقية أو رمزية ضخمت المشهد التراجيدي بسقوط البطل في بيئة الإدمان نتيجة الرفض والاحتواء .

فلفظتا " المدام - الخمارة " .

أكدتا دلالتي الجنس والمكان لأم الخبائث الأمر الذي ضخم فظاعة التداعي والسقوط .
فعلاقة الغريب بالوطن تجسد علاقة الفرد بالجماعة فالرواية تعبر عن الرمز أو الحقيقة وهي في كلتا الحالتين تروي مأساة تتصل بالوطن بدلالتها الثنائية  .

ضخم الناص في البيت الرابع حدث الخذلان "خذلت" بدلالته الماضية وبإسناده إلى الفاعل "فصول " المضاف إلى " المسرحية " حيث عبر الناص عن الضحية بدلالة الجزء عن الكل فالعلاقة بين الحدث وفاعله تتجه نحو قلب البطل بإصابته في المقتل .

فالمسرحية بجنسها الشائع في الحداثة الأدبية ترمز إلى المؤامرة ذات الأبعاد العميقة باحتوائها للفصول الديماغوجية ذات المشاهد الثنائية بشقيها المباشر والخفي في الأول تتجه مباشرة إلى رواية الظاهر :

"الغريب والحدث" .

وفي الثاني ترمز للوطن بسقوط الأمة نتيجة استهدافها بمسلسل خطير أوقعها في فخ المؤامرة بسهولة ويسر . 
في البيت الخامس ربط الناص بين الحدث بدلالته المضارعة وإسناده إلى الفاعل "لجج" المتضايف مع لفظة الحياة حيث تعبر الصورة عن عجز الحياة بمحيطاتها المتضخمة مدا وجزرا عن احتواء البطل وسبر أسراره وعلاج مشكلاته السيكلوجية حيث يبين الناص في البيت السادس اشتغال الحرب باقتراف حرمة الإنسانية وعجزها عن استيعاب الفرد فضلا عن الجماعة  فحدث اقتراف الحرب كان سبباً لحدث مغادرة البطل حيث كان الحدث الأول سببا للحدث الثاني حين جاء المفعول لأجه " خشيةً " كاشفا الستار عن علة المغادرة نتيجة حدث الشبق المتضايف مع الحروب ثم يتناص الشاعر مع القرآن الكريم بتشخيص الحرب في صورة الإنسان العاصي الذي يخضع لأوامر نفسه الأمارة بالسوء .  
ثم يختم الناص هذا المقطع بحدث المعرفة المنفي "لا يعرف" المسنود إلى بطل الرواية حيث يأتي المفعول به " الأسفار " يحمل بعدا ديماغوجيا يحلق مشفعوعا بتناقض مقصود وهو إعادة حدث المعرفة المسنود إلى البطل مجردا من النفي فثنائية النفي والإثبات لحدث المعرفة ولدتا قدرا من الإنزياح المتكئ على الدهشة والمفارقة .

وما نراه متناقضا في أفق السياق ما هو إلا نوع من النفي والإثبات بأسلوب خاص خال عن الأداة يتكئ على الحذف والتقدير حيث أثبت الناص في الشطر الثاني تعدد جنس السفر فالحدث نائخة المجرد من الزمن يوحي بتعدد مكان النزول الذي ضخمه الرمز "سفارة" المتعلق بالمسند والمسند إليه في الحدث الماضي " أقام " فالتعبير غير المباشر بدلالته البلاغية والرمزية جسم فداحة النزوح عن الوطن باتجاهات متعددة ضاعفت من مأساة الوطن بالصورة الحقيقية أو الرمزية وبالدلالة الفردية أو الجماعية . 

ثالثا : البطل والمنفى

   عامانِ كَانَ سَبيلهُ لسَبيلهِ
مُرًّا وكَانَ أشَدَّ مِنهُ مَرَارَةْ

لا يَلتَقِي هذا الغَريبُ بِدَارهِ
إلَّا وَيمسَحُ بَابَهُ وَجِدَارَهْ

مِن أينَ يدخُلُهُ ؟ وكُلُّ حبيبةٍ
ذَنبٌ وكُلُّ قصيدةٍ كَفَّارَةْ

لا شَيءَ يَمنَحُهُ المَكانُ وَلَمْ يَعُد
شَيئٌ لـ " سَارتِهِ " لِيَذكُر " سارَة "

في هذا المقطع عقد الناص علاقة البطل بالمكان بعدا وقربا حيث فلسف العلاقة الأسطورية بمتجهات تأثرت بالتغيرات الديمغرافية وانقطاع أسباب العلاقة بالوطن حيث أتى فاعل الفعل المحذوف مضى :

"عامان" .

يضخم  الفترة الزمانية وتقلباتها مؤكدا تداعيات الأحداث باسم كان وخبرها ومتعلقها :

" كَانَ سَبيلهُ لسَبيله مُرًّا "  .

فإضافة الضمير إلى اسم كان ومتعلقها رفعا وجرا يوحي بتأرجح حال البطل ارتفاعا وانخفاضا فالخطوات التي سلكها من السبيل إلى السبيل ضخمها الخبر  " مُرًّا " والخبر " أشَدَّ " فاسم التفضيل "  أشَدَّ " حدد التفاوت بين درجات المرارة بمستويات مختلفة تتكئ على متجهات ترتبط بالبيئة زمانا ومكانا . 

ثم يأتي النفي والإثبات :

" لا - إلا " .

يجسدان العلاقة مابين نفي الحدث "يلتقي" وإثبات الحدث
" يمسح " فحدث الالتقاء قصر على حدث المسح فالمسافة بين زمن الالتقاء والمسح تؤكد علاقة البطل  بالبيت بصورة عاطفية في ظل الهجرة الاضطرارية التي ولدت الأشواق والحنين فاللحظات المسروقة من عمر البعد تقضى في إجراء المسح على جدار البيت وبابه وهذا الإجراء يسبر معضلة الهجرة واستحالة الإقامة فمازال السكن مغلقا على الرغم من طقوس الزيارة الطارئة  .

ثم يأتي الاستفهام :

"مِن أينَ يدخُلُهُ ؟" .

ليلقي بدلالة الاستبعاد فدخول البيت يعتبر من الاستحالات التي تبنى على البعد الحسي  حيث أكد الاستبعاد  لفظ العموم " كُلُّ " بثنائيته المضافتين إلى :

" حبيبة " و" قصيدة " .

الموصوفتين بالخيبة والكفارة كونهما يرمزان إلى التعويض والاستخبار وهذا الأمر رسخ استبعاد الدخول إلى البيت نتيجة المؤامرة التي تحاك من داخل جناح البطل .
يختم الناص المقطع بتصدر لا النافية للجنس :

" لا شَيءَ يَمنَحُهُ المَكان " .

حيث استغرقت نفي كل الأشياء في البيئة المكانية ولم يعد شيء يتعلق بمحبوته " سارة " حيث نلحظ سوء العلاقة بين البطل ومحبوبته يبدأ بوصفها بالذنب وينتهي بالقطيعة الكلية زمانا ومكانا .

رابعا : البطل والخيبة

رُكنٌ يُلملِمُهُ الضَّياعُ وخيبَةٌ ..
وَقَفَتْ بلا سببٍ ثُثيرُ غُبَارَهْ

فأشدُّ من موتِ الحبيب غِيابهُ
وَمُتيّمٌ قطعَ النّوى أخبارَهْ

عَينَاهُ تختزلُ الكلامَ وقلبُهُ
قَلِقٌ .. كعادتهِ يشدُّ إزَارَهْ

وصِغَارُهُ لا ينطقونَ عنِ الهوى
شَيئًا ..ويعجزُ أنْ يَضُمَّ صِغَارَهْ

يتسلّلونَ إلى رغيفِ الخُبْزِ عَبْرَ
يديهِ يَقتَاتونَ كُلَّ عِبارَةْ

يَتحدَّثُونَ إليهِ يمنحُ بعضهُمْ
حُبّا ويُهدي بعضهم إيثَارَهْ

مازال الناص يقص ملحمته التراجيدية بمزيد من التداعي الروحي والمكاني حيث يجمع بين ثنائية "الضياع والخيبة " وإسنادهما إلى حدثي اللملمة والوقوف . 
وهنا نلحظ اتجاه الحدث " يُلملِمُهُ " بدلالته المضارعة إلى ضمير الغائب المتصل به والعائد إلى الركن ثم نلحظ سريالية الناص التي تجمع بين حدث اللملمة والضياع فالجمع بين المتناقضات ولد قدرا من الانزياح وخليطا من الدهشة حيث قرن الناص دلالة الضياع بالخيبة لتكتمل الروافد السياقية في استهلاك الانزياح طلبا لإثارة المتلقي بمزيج من بهارات المفارقة جامعا بين الطرافة والمتعة في أفق النص .

ثم يأتي اسم التفضيل " أشَدَّ " يعقد  المفاضلة بين موت الحبيب وغيابه وكلا الخيارين يتكئان على نسبية معقدة تتصل بالفردية أو الزوجية فلفظ الحبيب في السياق يحيط به كثير من الغموض لكن من المؤكد هنا انفراد البطل وانعاكسه على ذاته في فلك التتيم والرحلة في لجة الغياب بعيدا عن الزوجية التي أطاحت بها ذنبية القرين .

ظل البطل يعبر عن مأساته بإشارة عينيه يختزل أبعاد الكارثة في نظراته التي تعبر عن مكنون ذاته :

" عَينَاهُ تختزلُ الكلامَ " .

فحدث الاختزال يرتبط بالعينين يعبر عن القلق الذي ينتابه في الفؤاد :

"قلبُهُ قَلِقٌ .. " .

فالعلاقة بين العين والقلب تستطردان بتناسب سيكلوجي كون الناص يرسو على مرافئ البطل فيسبر أبعاد مأساته عن قرب حيث يرسم الحركات والمشاهد بخياله السابر متكئا على رؤية سريالية حرة يتعامد فيها الخيال والصورة في أفق النص .

" كعادتهِ يشدُّ إزَارَه " .

صورة شد الإزار تعبر عن مشهد القلق الذي يستبد بالبطل نتيجة الصدمة داخليا وخارجيا حيث ترتبط الصورة بالبيئة زمانا ومكانا وترصد مشهد التغيرات الروحية والحركية في رهان الحدث الممتد في ضمير الوطن .

"صِغَارُهُ لا ينطقونَ عنِ الهوى"

هنا يتعدى المشهد عن ركني الزوجية إلى ثمار القلوب فالصغار فلذات الأكباد وحصاد علاقة الحب وقطف الثمار اليانعة فحدث نطق الأطفال مؤيد بالدليل والبرهان بعيد عن التخرصات كونه يبنى على واقع المواساة في أفق تجلياتها السافرة .

" يعجزُ أنْ يَضُمَّ صِغَارَه "

حدث العجز عن ضم الصغار يوحي بالمسافة الفاصلة الروحية والجسدية نتيجة الهجرة والنزوح أو الإبعاد القسري عن وطنه والتعبير بهذا المستوى يتكئ على أبعاد صوفية تجسد العواطف بانثيالها الأسطوري .

" يتسلّلونَ إلى رغيفِ الخُبْزِ " .

حدث تسلل الأطفال إلى رغيف الخبز  ضخم الصورة المأساوية للحصار ورسم مشهدا باكيا جسم المراقبة الدكتاتورية وأعلن عن القسوة والتجبر والتجرد عن العواطف الدينية والإنسانية .

" عَبْرَ يديه " .

صورة تعبر عن اتصال الأطفال بوالدهم حقيقة أو مجازا بتوفيره لهم أسباب الاقتيات عن بعد أو قرب حيث جسدت العلاقة الروحية وأكدت ضمان الأب لأولاده على الرغم من الهجرة والنزوح .

" يَقتَاتونَ كُلَّ عِبارَة " .

هذا التذييل في البيت بالعبارة الآنفة ضخم حدث الاقتيات وعمم شيوع اقتراب المعنوي من الحسي تحت طائلة البلوى والألم الذي ضخم الصورة السريالية في رهان الحدث .

" يَتحدَّثُونَ إليه " .

حدث التحدث إلى الأب جسد العلاقة المقدسة بين الأب والابن وهضب غوادي العواطف بدجونها الباردة حيث يرتبط الحدث بروابط الحب والإيثار :

" يمنحُ بعضهُمْ حُبّا " .
" يُهدي بعضهم إيثَارَه " .

قابل الناص بين الحدث " يمنحُ " والحدث " يُهدي " فارتباط الأولاد بالأب بثنائية الحب والإيثار تصنع أواصرا مقدسة تمتد بالأواصر الأسطورية تنسج العلاقة بين الأب وصغاره برفرف عبقري ينساب بشلالات العواطف الساحرة .  

خامسا : البطل والكارثة

الرّيحُ تَقرعُ بَابَنَا .. مَلهُوفَة
والقصفُ يُكمِلُ بَعدهَا مِشوَارَهْ

شاختْ منَازلُنَا وهُدَّ جدارُهَا
فَمَتى سَينزِعُ ربُّنَا مِسْمَارَهْ

لا تِلكُمُ الضَّحَكَاتُ أنسَتنَا
الأنينَ وَلا أبي مُستذكِرٌ سُمَّارَهْ

قلبٌ يزمّلهُ السّكُوتُ وَكُلّمَا
دَعَتِ الضَّرورةُ يَكتَفِي بإشَارَةْ

فَالسَّقفُ أوّل من أجَلَّ حِوارَهْ
والسَّقفُ آخر من أجَلَّ حِوارَهْ

مَا مِنْ حَدِيْثٍ غير حَملَقةٍ وَثَمَّ
تَساؤلٌ ..
أقذيفةٌ أم غَارَةْ ؟!

الناص في هذا المقطع يمزج بين الرمز والحقيقة والتجريد والتعبير يكشف الستار عن زئير العاصفة يضخم قارعة الطوفان يرسم المسافة بين الكارثة والبيئة والصمت والإشارة والضحك والأنين يشخص موجات الحملقة وزئير الطائرات وأصوات الانفجارات وارتطام القذائف وانهيار الأسقف ودمار المنازل .

" الرّيحُ تَقرعُ بَابَنَا .. مَلهُوفَة "

يربط الناص بين "الريح " وحدث قرع الباب فالريح رمز الفتنة وقرعها الباب يوحي بدلالة كارثية تعبر عن صولتها وبغيها عنوة دون سابق إنذار حيث تأتي الحال :

" مَلهُوفَةً " .

تعبر عن شبقها وسطوتها فالناص يشخص الريح في صورة عجوز تفوق البسوس في شؤمها ونحسها فكلما قرعت الباب نزل الرجز  :

" والقصفُ يُكمِلُ بَعدهَا مِشوَارَه " .

حيث ربط الناص بين ثنائية الحدث :

  "القرع - القصف" .

وبين ثنائية الفاعل :

"الفتنة - الرجز " .

حيث تتكامل الثنائيتان في رهان الحدث بالإشارة والاستجابة .    

" شاختْ منَازلُنَا وهُدَّ جدارُهَا " .

شخص الناص الجامد في صورة الحي فالمنازل المبنية من الاسمنت والخرسانة تصبح أشخاصا تتأثر بالحدث والبيئة كونها تتأثر بالمراحل التي يمر بها الإنسان طفولة وشبابا وشيخوخة حيث جاءت الجملة الثانية :

  "وهُدَّ جدارُهَا" .

تأكيدا للجملة الأولى كون الناص جمع بين المجاز والحقيقة تجسيدا للمأساة في أفظع صورها الكارثية .

" فَمَتى سَينزِعُ ربُّنَا مِسْمَارَه ؟ "

جاء الاستفهام بدلالة بلاغية تدل على :

"الاستبطاء" .

وهذه الدلالة تتناسب مع رمز "المسمار" الدال على اغتصاب الحقوق حيث ربط الناص بين الحدث " سَينزِعُ " وأداة الاستفهام "متى" حيث نلمس استغراق زمن المستقبل انتظارا لنزع المسمار والناص هنا يتناص مع الأديب "علي أحمد باكثير"  في مسرحية "مسمار جحا"  وهذه الدلالة تضخم استبطاء نزع الدكتاتورية المضروب في جسد الأمة .

"لا تِلكُمُ الضَّحَكَات " .

ربط الناص بين حرفي النفي "لا" واسم الإشارة " تِلكُمُ " المرتبط بالضحكات حيث يأتي الحدث

"أنسَتنَا الأنينَ " .

يربط بين الفاعل والمفعول بتضخيم تذكار حال الضحك والأنين بأسلوب تراجيدي  يتكئ على ذاكرة الزمن بتجليات حزينة تهرق الحنين باستلهام جوقات الأب بصورة سلبية :

" وَلا أبي مُستذكِرٌ سُمَّارَه " .

حيث طعم الناص السياق بحدث استذكار الأب السلبي بافتقاد الذاكرة نتيجة الصدمة فالناص يقارن بين الوضع الماضي والحاضر بتضخيم هول الصدمة في الحاضر وإثارتها لغبار المؤاسي الذي حال عن تذكار الزمن الجميل . 
" قلبٌ يزمّلهُ السّكُوتُ " .

يربط الناص بين المسند والمسند إليه المبتدأ " قلبٌ " والخبر 
" يزمّلهُ  " حيث يسند حدث التزميل إلى القلب وهي صورة ضخمت الخوف والرعب بتناصها مع القرآن الكريم والسنة النبوية في حادث أولية الوحي حيث وظف الناص صدمة الحرب الفجائي بحادثة صدمة النبي
- صلى الله عليه وسلم - بجبريل في الغار مع فارق الهدف والموضوع . حيث ربط الناص القلب بتدويره لحدث الدعوة نتيجة ارتباطه  بأداة الشرط غير الجازمة  "كُلّمَا" والتي تفيد تكرار الجواب كلما تكرر الشرط .

" وَكُلّمَا دَعَتِ الضَّرورة " .

حيث يشخص الناص القلب ويجعله أداة التعبير في الظروف الكارثية فعلى الرغم من تزمله وخوفه ورعبه فهو :

"يَكتَفِي بإشَارَة " .

كلما دعت الضرورة إلى إحواجه للجواب .

يختم الناص المقطع بدلالة صريحة تشير إلى الدمار عن قرب فاسمي الزمان " أول - آخر " أحاط بظرف المآساة وبيئتها المكانية التي تشير إلى جلالة حوار السقف بتكرير دل على تأكيد فظاعة هدم المنازل حيث شخص الناص طقوس الحرب وتعلقها بحديث الناس وحملقتهم  ثم تساؤلهم :

أقذيفةٌ أم غَارَةْ ؟!

حيث جاء الاستفهام بالهمزة مرشحا للتصور وهو إدراك المفرد نتيجة ذكر المعادل "أم" بعد الهمزة
فخيار الجواب متعلق بتعيين المفرد  من ثنائية التعادل " القذيفة -الغارة " .

سادسا : البطل والمغامرة

وجهُ المدينةِ بالجُنودِ مُحاصرٌ
ودخلتَ أنتَ ولا تُعيرُ حِصَارَهْ

أَدَفعتَ للسمسارِ؟
كيف دفعتهم ؟!
دافعتُ عن بيتي دفعتُ "إجارَهْ"

بعتُ الحبوب
وَدمعتين لأشتري الطَّاحُونَ
بعتُ الزَّيتَ والنَّوارَةْ

سَاوَمْتُ بالأشعَارِ عند دَفَاتِري
لم يَبقَ مَا أختَارُ كَي أختَارَهْ

ومنحتُ أنفاسي الحِمَامَ لأرتجي
وَطنًا يُشِعُّ نَقَاوَةً وَطهَارَةْ

لا أنْ يُصلِّي فيه بَارودٌ ولا
دَبَّابَةٌ .. وَمُقَاتلونَ إعَارَةْ

 

ختم الناص النص بمقطع مثير للدهشة غارق في الاستبسال يتكئ على المغامرة والتحدي يسطر ملاحم التضحية يتحلى بالبطولة والجسارة والانطلاق نحو خوض غمار المخاطر .

"وجهُ المدينةِ بالجُنودِ مُحاصر"

تحدد الصورة استراتيجية الحصار المحكم لوجه المدينة من قبل الجنود حيث يعبر :

" وجه المدينة " .

عن مداخلها المحصنة بالحراسة والمراقبة كل ذلك التحصين لم يثن البطل عن مغامرة الدخول حيث تأتي الجملة الخبرية :

"ودخلتَ أنتَ " .

تهيل كثيبا من التعجب تزيدها الجملة المعطوفة عليها بالنفي :

"ولا تُعيرُ حِصَارَه " .

مزيدا من الدلالة التي تؤكد مغامرة البطل وبسالته .حيث يأتي الاستفهام بالهمزة :

" أَدَفعتَ للسمسارِ؟ " .

مشفوعا باستفهام آخر بالأداة كيف :

" كيف دفعتهم ؟! " .

وكلا الاستفهامين بدلالتهما على التصديق والحال يحملان نوعا من التعجب والانكار عن ملابسة دخول البطل إلى المدينة ... وما يلبث البطل أن يرد بإجابة شافية :

" دافعتُ عن بيتي دفعتُ "إجارَهْ "

فحدثا "الدفاع" و"الدفع" يعبران عن التضحية بالجسم والمال في سبيل تحرير البيت وهي تضحية جسيمة استهلك فيها البطل كل إمكانياته المتاحة .

ثم الوقوف على جملة :

دفعتُ "إجارَهْ " .

توحي بالمرارة والألم فالبطل ملزم بدفع إجارة مقابل السكنى حيث تضخم الجملة هول الخيبة والتعسف بصورة تبعث على القتامة والاشمئزاز .

من خلال حدث البيع وارتباطه بالدموع نستطيع رسم خط العقدة ووصوله إلى لحظات الانفراج بعد انحداره من قمة التأزم حيث نسبر البعد السيكلوجي ونقيس انفعالات العواطف في متجه الخاتمة .

فالناص بعد لعبه بالألفاظ ودلالاتها  وتجديفه على بحر السريالية وخوضه متجهات التعويم والإزاحة وصولا  إلى جزر الدهشة والمفارقة نجده في خاتمة الخاتمة يكشف عن رهان العقدة من خلال تنوير النص بالالتفات عن ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم فالبطل يباشر سرد الحكاية بخاتمة مغلقة  يروي فيها عن تضحياته من أجل الوطن .

حيث يعدد تضحياته من خلال الإجراءات البطولية التالية :

- بيع الحبوب :

" بعتُ الحبوب وَدمعتين " .

- بيع الزيت والنوارة :

"بعتُ الزَّيتَ والنَّوارَة"

- المساومة بالأشعار :

"سَاوَمْتُ بالأشعَارِ عند دَفَاتِري"

- التضحية بالنفس :

"ومنحتُ أنفاسي الحِمَامَ "

كل أحداث البيع والمساومة والمنح ترسم درب التضحيات في كشف سافر وبصورة تلقائية ومباشرة بعيدا عن الغموض والتجريد يحددها حدث الرجاء الذي يهدف إلى بناء وطن صالح :

" لأرتجي ...
وَطنًا يُشِعُّ نَقَاوَةً وَطهَارَة " .

ثم أكد تلك الطهارة بتجرده عن الحرب ونظافته من حدث صلاة البارود والدبابة والمرتزقة :

لا أنْ يُصلِّي فيه بَارودٌ ولا
دَبَّابَةٌ .. وَمُقَاتلونَ إعَارَةْ

وبهذا التنوير الواضح والجلي أراد الناص أن يبلغ رسالة محتواها بناء وطن صالح يتهاصر مع السلم والمحبة يمد الأحضان الدافئة للآخر ثم يلم الشمل بعيدا عن العنف والحرب وديناصورات القوى المتصارعة . 

١٨/٩/٢٠١٨م

إبراهيم القيسي

أضافة تعليق